Jump to content
منتدى البحرين اليوم

درازية

الاعضاء الفعالين
  • مشاركات

    224
  • انضم

  • آخر زيارة

عن درازية

Previous Fields

  • الجنس
    انثى
  • من الذي اخبرك عن منتدى البحرين اليوم
    اخبرتني زميلتي
  • سنة الميلاد
    1995

درازية الانجازات

Newbie

Newbie (1/14)

0

الشهرة

  1. ههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخ كركركركركركركركركركركركرككركركركرككركركركركر
  2. ثنكس على القصة بس نبي تكملتها ابسرعة
  3. ثنكووسه على المووضوع ..... ومأجوورين .. تحـــــــــــــ درازيه ــــــــياتي
  4. الجزء الاخير الجزء الرابع -- الأخير وفي تلك الليلة ظلت هيلين طويلا في الشرفة رغم انها في قرارة نفسها كانت تشعر ان ذلك العازف لن يأتي.. وان كان ما قالته السيدة يازوسكي صحيحا من أنه يظهر في الليالي المقمرة فليست هذه الليلة مناسبة اذن.. لكنها برغم ذلك ظلت في الشرفة لبعض الوقت وهي تستعيد احداث تلك القصة المريرة.. مسكين ذلك العازف فبدلا من ان يظفر بمن يحب لم ينل سوى الألم والعذاب .. في اليوم التالي عادت هيلين من المدرسة مسرعة وهي متشوقة لمعرفة ماذا فعل والدها مع السيد اندرسون.. كانت تعرف ان والدها الان سيكون في المنزل وسيكون ايضا قد قابل جارهم وتكلم معه .. وبالفعل حينما دلفت للمنزل وجدت والدها هناك يدخن غليونه وما أن راته هيلين حتى هتفت في لهفة :هل التقيت بالسيد اندرسون نفث والدها دخان الغليون في الهواء وغمغم :نعم .. التقيته قبل حوالي ساعة ... شعرت هيلين بقلبها يخفق في قوة وهي تسأل والدها :هل كلمته في الامر ماذا قال مط والدها شفتيه وقال في ضيق :لم يقتنع طبعا .. قلت لك ان من حقه ان يفعل ما يريد بالمنزل .. أطرقت هيلين برأسها وتمتمت في خفوت :نعم .. معك حق يا أبي .. شعر والدها بالشفقة تجاهها فمال ناحيتها وهو يسألها في حنان :هيلين.. انك لم تتعودي ان تخفي علي أمرا ما فهلا اخبرتني ماقصة ذلك المنزل ولماذا يثير اهتمامك لهذا الحد ظلت هيلين مطرقة برأسها وهي تغمغم في خفوت :حسنا يا أبي سأخبرك بالقصة كاملة .. واندفعت تروي لوالدها حكاية عازف الكمان وهو يستمع لها في صمت بدون ان يقاطعها ومن حين لاخر ينفث دخان غليونه .. بعد أن أنهت هيلين القصة ساد الصمت للحظات ثم قال والدها :حقا إنها قصة حزينة لكن هل أنت متاكدة أنك رأيتي ذلك العازف لا تنسي اننا نتكلم عن أحداث حصلت قبل اكثر من ثلاثين عاما .. غمغمت هيلين :نعم يا ابي صدقني لقد رأيته بل وسمعت تلك الالحان الحزينة التي يعزفها .. مط والدها شفتيه كأنه لم يقتنع بالأمر ثم قال :على كل حال يا ابنتي يؤسفني ان ما اردتيه لن يتحقق فالسيد اندرسون مصر على هدم المنزل ويبدو انهم سيبدءون هذا غدا .. شعرت هيلين بغصة في حلقها وهي تستمع لوالدها وقالت بصوت متحشرج :لكن لماذا ما حاجته لهدم المنزل وهو يملك بدلا منه العشرات تنهد والدها وقال في هدوء :هذا حقه يا ابنتي.. انه تاجر وامثاله لا يقيمون عادة وزنا للعواطف والمشاعر.. هو دفع مالا في المنزل ولابد ان يستثمر ما دفعه .. تساءلت هيلين في حيرة : يستثمر أومأ والدها برأسه ايجابا وقال :نعم .. يبدو انه سيحول المنزل لمكتب خاص يدير منه أعماله .. صمتت هيلين ولم تعلق.. كانت تشعر بتلك الغصة تكبر في أعماقها , كانت تود حقا لو أنها استطاعت ان تمنع هدم ذلك المنزل.. ذلك المنزل الذي يمثل لعازف الكمان الذكريات الجميلة التي جمعته بحبيبته .. كم آلمها أن تفشل في تقديم المساعدة لروح ذلك العازف الحزين .. ظلت هيلين طوال اليوم تفكر في الامر لكنها كانت تشعر باليأس .. فكما قال والدها ليس بمقدور أحد ان يمنع السيد اندرسون من هدم المنزل الذي اشتراه.. لم تستطع هيلين ان تمكث في سريرها فخرجت للشرفة وجلست هناك لبعض الوقت تستمتع بالنسيم الجميل وتتأمل ذلك المنزل ربما لاخر مرة.. كانت تعلم ان خيوط الصباح ستحمل معها نهاية ذلك البيت الجميل .. لم يغمض لهيلين جفن طوال الليل وحين طلع النهار وذهب والدها لعمله ظلت في المنزل ولم تذهب للمدرسة .. كانت هناك فكرة خطرت في بالها وقررت ان تنفذها وهكذا انتظرت في الشرفة حتى ظهر السيد اندرسون.. ما أن لمحته هيلين يغادر سيارته برفقة ذلك الشاب الاشقر حتى غادرت منزلها واتجهت إليهما مسرعة.. رآها السيد اندرسون قادمة نحوهما فابتسم قائلا :مرحبا بالانسة الصغيرة .. هل من خدمة يمكنني أن اقدمها لك قالت هيلين في حزم :نعم .. سيد اندرسون هل لي ببضع دقائق من وقتك التفت اندرسون إلى الشاب الاشقر وقال في هدوء :حسنا يا هانز.. اذهب لتعاين المكان من الداخل وسألحق بك بعد قليل .. اتجه هانز في هدوء للمنزل بينما التفت اندرسون لهيلين وقال وابتسامته لم تفارق شفتيه :والان انستي هل لي ان اعرف ماذا هناك ترددت هيلين للحظة ثم استجمعت شجاعتها وقالت :سيد اندرسون أرجوك لا تهدم هذا المنزل انك لست بحاجة لهذا .. عقد اندرسون حاجبيه الكثين وقال وقد تلاشت ابتسامته :انستي ان كنت جئت لهذا الشأن فيؤسفني ان اخيب أملك .. تهدج صوت هيلين وهي تقول في رجاء :سيد اندرسون لماذا لا تستعمل المنزل كما هو او تكتفي بتجديد بعض الاشياء فيه بدا الضيق على وجهه وهو يقول في برود :انستي أظن أن هذا الامر يخصني وحدي .. اليس كذلك تمتمت هيلين في خفوت :ولكن ... قاطعها اندرسون في حزم :انستي انك الان تضيعين وقتي الثمين وبعد ساعات قليلة ستصل الآلات والمعدات ويبدأ هدم المنزل ولابد ان يكون كل شيء على مايرام .. والان اعذريني .. هم بالانصراف لكن هيلين استوقفته قائلة :سيد اندرسون .. أرجوك انتظر ... زفر اندرسون وقال في نفاد صبر :انستي.. ليس لدي وقت لاضيعه فإما أن تقدمي لي عذرا مقبولا ومنطقيا او تدعيني وشأني . ترددت هيلين في أن تخبره بالقصة لكنها فكرت انه ليس لديها ما تخسره فقالت في خفوت :فليكن .. سيد اندرسون سأخبرك بقصة هذا البيت .. كل ما ارجوه ان تسمح لي ببعض الوقت .. تنهد اندرسون في نفاد صبر واشار لها بيده ان تستمر فاندفعت هيلين تحكي له قصة ذلك العازف , حاولت ان تحكي القصة باختصار بينما اندرسون يستمع لها في تململ واضح حتى انتهت هيلين من قصتها ونظرت له في أمل وهي تقول :والان سيد اندرسون كما ترى .. إن هذا البيت يمثل قيمة معنوية كبيرة و.. قاطعها اندرسون قائلا :انستي لقد استمعت اليك بما فيه الكفاية ولكن يؤسفني ان قصتك الحزينة لم تؤثر في.. لو انني اسمح لهكذا امور عاطفية ان تسيطر على تفكيري وعملي لما وصلت الى ما أنا عليه اليوم.. والان اعذريني فلدي أشغال كثيرة .. قالها وانصرف تاركا هيلين واقفة وهي تشعر بالحسرة والألم في أعمق أعماقها .. وجاهدت كي تمنع الدموع التي تترقرق في عينيها من الانحدار ... لقد فشلت في ان تقنع هذا الرجل المتعجرف وهاهي لن تمضي ساعات قليلة إلا ويهدم المنزل .. لم تشعر برغبة في ان تعود الى البيت فقادتها قدماها الى ذلك الكرسي فجلست عليه ودفنت وجهها بين كفيها وهي تشعر بمرارة كبيرة .. لقد تحمست كثيرا حين سمعت قصة ذلك العازف وشعرت ان مسئولية انقاذ البيت تقع على عاتقها خصوصا بعد أن رات بنفسها ذلك الحزن الكبير الذي ارتسم على وجه العازف في اخر مرة راته فيها ... لكن ماذا بوسعها أن تفعل شعرت في أعماقها بمقت كبير تجاه ذلك الرجل وقلبه المتحجر .. ترى هل سترى ذلك العازف بعد ان يهدم المنزل كلا بالطبع فلن يعود هناك شيء يمكن ان ياتي لاجله أو يعزف له تلك الالحان الحزينة ... لم تفق من أفكارها إلا على صوت الآلات والمعدات الثقيلة التي وصلت للحي كي تبدأ عملية هدم المنزل.. وانتفضت هيلين في مكانها وهي تشعر بقلبها يخفق في قوة.. لابد من أن تمنع هذا.. لابد .. ولكن كيف كان السيد اندرسون وذلك الاشقر هانز واقفان هناك امام البيت وقد شرع الاخير يشرح فيما يبدو بعض الامور للعمال الذين سيشرعون في الهدم .. لم تدر هيلين كيف ولا متى نهضت من مجلسها لتجد نفسها تندفع لتقف أمام باب المنزل وعلامات العزم والاصرار بادية على ملامحها ... وللحظة تطلع اليها اندرسون في دهشة ثم صاح بها :آنسة هيلين .. أرجو أن تبتعدي عن هذا المكان فسيبدأ الهدم الان .. لم ترد هيلين وإن ظلت علامات الإصرار مرسومة على وجهها وهي ثابتة في مكانها , فزفر اندرسون في ضيق وهتف وهو يتجه ناحيتها :آنستي.. ما تفعلينه غير مجد ابتعدي ارجوك كي لاتصابي بأذى .. ظلت هيلين صامتة وهي تعقد ساعديها امام صدرها وتقف في جمود , فزفر اندرسون ثانية وصاح في عصبية :هانز .. ابعد هذه الفتاة بسرعة .. أمسك هانز ذراعها في قوة وهو يجذبها بعيدا عن المنزل وهي تقاوم في عنف وتصيح :دعني .. قلت لك دعني .. لكن هانز ظل ممسكا بها فجمعت هيلين كل قوتها وركلته في ساقه بعنف فأفلت هانز ذراعها وهو يتأوه في ألم ويصرخ :أيتها اللعينة .. لكن هيلين انسلت من ذراعه وجرت ناحية المنزل ثانية وهمت بالوقوف هناك لولا ان انبعث صوت صارم يصيح :هيلين .. استدارت هيلين لمصدر الصوت لتجد والدها واقفا هناك يرمقها في غضب وهو يهتف :ما هذا العبث وما الذي تفعلينه هناك تنهد اندرسون في ارتياح حين شاهد والد هيلين وهتف به :سيدي .. أرجوك دعها تبتعد كي نتم عملنا .. لقد سببت لنا الكثير من المتاعب حدج والد هيلين ابنته بنظرة صارمة وهو يقول في حزم :إطمئن ياسيد اندرسون .. لن يعطلك أحد عما تود القيام به .. واتجه نحو ابنته وهو يهتف بها في صرامة :هيلين هيا بنا ... أطرقت هيلين برأسها في صمت وراودتها للحظات فكرة ان تظل في مكانها لكنها لم تشأ ان تغضب والدها فمشت اليه في صمت وهي مطرقة فامسك والدها بيدها وهو يقول موجها كلامه للسيد اندرسون :أرجو ان تقبل اعتذاري سيد اندرسون على ما بدر من ابنتي .. أومأ اندرسون برأسه ولم يقل شيئا بينما استدار والد هيلين واتجه هو وابنته الى المنزل وما ان دلفا اليه حتى اسرعت هيلين بالصعود لغرفتها وهناك ارتمت على سريرها وهي تدفن وجهها بين كفيها وتنشج بالبكاء في حرارة .. لم تدر هيلين كم ظلت من الوقت تبكي واصوات الهدم والتكسير تبلغ سمعها فتشعر كأنها معاول تهدم أعماقها حتى ساد الصمت ولم يعد يسمع أي صوت .. نهضت هيلين في بطء واتجهت نحو الشرفة وهناك وقع بصرها على المنزل أو على بقايا المنزل وقد تهدم أغلبه وشعرت بقبضة باردة تعتصر قلبها .. شعرت بيد توضع على كتفها في رفق فاستدارت لتجد والدها واقفا في الشرفة ويتطلع لها في اشفاق.. اندفعت هيلين في احضان والدها ودفنت رأسها في صدره ودموعها تعود لتنهمر من عينيها.. فمسح والدها بيده على رأسها في حنان وتركها تفرغ انفعالاتها في صدره حتى هدأت قليلا ..وهنا أمسك والدها بذقنها ورفع رأسها في هدوء وهو يقول بابتسامة حنونة :هيلين.. اعلم ان هذا الامر احزنك كثيرا لكن الحياة لم تنته بعد .. ربما كان هدم المنزل شيء مؤسف لكنك بذلت مافي وسعك ولم يكن هناك طريقة يمكن ايقاف هذا بها .. أومأت هيلين برأسها في صمت ولم تعلق بحرف فتابع والدها :حسنا .. سأتركك الان لترتاحي قليلا لكن أتمنى ان لا تعذبي نفسك كثيرا ... انصرف والدها وبقيت هي في غرقتها صامتة حزينة .. لم تشعر برغبة حتى في الأكل او عمل أي شيء .. ظلت في مكانها إلى أن حل الظلام فنهضت الى الشرفة وظلت هناك في نفس المكان الذي تعودت ان تجلس عليه تنتظر مجيء عازف الكمان .. لم تكن تريد ان تحول بصرها ناحية المنزل فتراه وهو بهذا الشكل لذلك تشاغلت بالنظر الى الناحية الأخرى طوال الوقت... مرت ثلاثة أسابيع على ذلك اليوم ولم يفارق الحزن قلب هيلين التي اصبحت تعيش في جمود وآلية وهي تذهب للمدرسة نهارا ثم تعتكف في غرفتها ليلا .. لم تعد حتى تجلس في الشرفة كما اعتادت.. وفي تلك الليلة كان القمر مكتملا ورواد هيلين الامل في ان ذلك العازف قد يأتي فقبعت في الشرفة طوال الليل تنتظر ولكن دون جدوى .. وتكرر الامر في الليلتين التاليتين .. وأدركت هيلين ان ذلك العازف قد رحل الى الابد وانها لن تسمع مجددا تلك الالحان الساحرة الحزينة ... كم تمنت لو انها تستطيع ان تكلمه ولو لمرة واحدة وتخبره عن اسفها وحزنها لما حدث .. وفي اخر ليلة ظهر فيها القمر شعرت هيلين أنها تودع ذلك العازف إلى الأبد وأمتلأت أعماقها بالحزن وهي قابعة في مجلسها في الشرفة حتى غلبها النعاس فنامت حيث هي .. لم تدر هيلين كم ظلت نائمة لكنها أحست بشعور غريب يدفعها لأن تفتح عينيها وحين فعلت كان الليل لا يزال يلف المكان وضوء القمر يأتي من بين الغيوم ليبدد قليلا من ظلمة الليل .. وحين نظرت هيلين للأسفل سرت في جسدها قشعريرة عجيبة وشعرت بقلبها يخفق في قوة.. لقد كان واقفا هناك.. عازف الكمان بثيابه السوداء وكمانه الصغير .. لم تصدق هيلين ما تراه وتسمرت في مكانها تماما وهي تراقب الشاب الذي كان يقف هذه المرة وهو ينظر لها وابتسامة عذبة ترتسم على شفتيه ..وقبل أن تفهم هيلين شيئا شعرت بصوت يتردد في أعماقها قائلا : " تعالي .." شعرت هيلين بالدهشة من هذا , فالصوت الذي سمعته كان كأنه ينبعث في أعماقها ومن داخل عقلها.. لم تدر كيف ولا متى قطعت المسافة من شرفتها إلى الخارج.. لم تشعر إلا وهي تقف وجها لوجه أمام ذلك العازف الذي لم تختف ابتسامته وهو يتناول يدها في رقة ويقودها في رفق إلى ذلك الكرسي لتجلس عليه .. " شكرا لكل مافعلته .. " مرة أخرى تردد الصوت في عقل هيلين وهي تحدق في دهشة في الشاب الذي لم تنفرج شفتاه وهو ينظر لها وابتسامته تتألق على شفتيه .. حتى الجو المحيط بها كان غريبا للغاية .. شعرت هيلين ان الزمن ذاته توقف وأن هدوءا عجيبا يلف المكان بأكمله ويشترك مع ضوء القمر الشاحب في اضفاء السحر والغموض على كل شيء .. شعرت هيلين بإسترخاء شديد يغمرها .. وبسعادة كبيرة وهي لاتصدق ان عازف الكمان يجلس إلى جوارها على ذلك الكرسي .. وحين نظرت إليه وجدته يرمق بقايا المنزل في أسى فشعرت بالحزن يعتصر قلبها وهتفت بدون تفكير : " هل تشعر بالحزن " لم تكد تنطق عبارتها حتى اصابها الذهول .. فعلى الرغم من أنها واثقة أنها فتحت شفتيها لتقول ما قالت الا انه خيل اليها ان عبارتها لم تنطلق من شفتيها بل عبرت عقلها وترددت فيه مثل الصدى ... ويبدو ان الشاب سمعها لانه استدار إليها .. " نعم .. كانت هناك ذكريات جميلة في هذا المكان ..." مرة أخرى تشعر هيلين بالصوت يتردد في أعماقها فخفضت رأسها .. " لقد حاولت أن أحول دون هذا لكني لم استطع ... سامحني " ابتسم عازف الكمان في عذوبة وهو ينظر في عينيها .. " أعلم ... ولهذا أتيت .." رفعت هيلين رأسها ونظرت إليه في دهشة ... " ماذا تعني .. " " لم أشأ أن أرحل قبل أن اتي لرؤيتك وتوديعك .. اعلم بكل مافعلته من أجلي ولهذا جئت اليوم من أجلك.. من أجلك أنت فقط ..." شعرت هيلين بسعادة غامرة وهي تستمع لهذه الكلمات .. اذن فقد جاء من أجلها هي .. كم تشعر بالفرحة والسعادة كان كل هذا حلم جميل تخشى أن تستيقظ منه .. " اليوم سأعزف من أجلك أيضا .. ولاخر مرة " رأته هيلين يمسك بالكمان ويرفعه إلى كتفه ويبدأ بالعزف .. ولم تعد هيلين تشعر بأي شيء من حولها ... لقد كانت الالحان هذه المرة في قمة السحر والعذوبة كما لم تعهدها ابدا من قبل ... شعرت أن الانغام تأخذها وتحلق بها في عوالم وأزمنة أخرى.. لم تعد تشعر بأي مشاعر أخرى سوى الانسجام مع اللحن الساحر الذي تسمعه ... كانت تشعر بالأنغام تتسلل لاعمق أعمق كيانها فتبعث فيها استرخاء لم يسبق ان شعرت بمثله في حياتها من قبل.. خيل لهيلين أن كل شيء من حولها يتفاعل مع هذا اللحن الملائكي الرقيق .. وفجأة توقفت الألحان الحزينة وافاقت هيلين من نشوتها لتجد الشاب واقفا أمامها وهو يبتسم في رقة ... لم يقل شيئا لكن عيناه قالتا الكثير .. " هل .. هل سترحل .." " لم يعد لي أي شيء هنا .." " كم أتمنى لو كنت معك ..." " من تملك روحا شفافة كروحك ستجد يوما كل السعادة مع من تستحق .." اغرورقت عينا هيلين بالدموع .. وشعرت بحزن بالغ يسري في كيانها كله ... " هل سأراك ثانية .." أخرج الشاب وردة صغيرة وضعها في يد هيلين برقة .. " أنا لست سوى ذكرى حزينة لابد لها أن تختفي يوما ما .. مجرد غروب يلفظ أنفاسه الأخيرة كل يوم وحان له أن يستريح إلى الأبد ..." نهض الشاب واقفا واستدار كي يبتعد ... وشعرت هيلين بالدموع تسيل لتغرق وجهها في صمت ... " ما اسمك ... " التفت اليها عازف الكمان ومنحها ابتسامة حزينة ثم استدار مبتعدا في هدوء والظلام يبتلعه .. ويبتلعه ... وفجأة انتفضت هيلين في قوة وشعرت بقشعريرة باردة تسري في جسدها كله وهي تفتح عينيها لتجد نفسها في شرفتها وفوق مقعدها .. كان الليل يلفظ انفاسه الاخيرة وضوء الشفق يبدو من بعيد باهتا شاحبا ... وشعرت هيلين بالبرد وهي تتلفت حولها في دهشة .. هل كان كل هذا حلما راودها وهي نائمة في الشرفة أم كان حقيقة هل يعقل انها قابلت عازف الكمان ودار بينهما كل هذا الحوار ... انها تذكر كل كلمة .. بل كل حرف ... بل لا زالت تلك الانغام الساحرة التي عزفها يتردد صداها في أعمق أعماق روحها ... " وهكذا أشرقت الشمس في ذلك اليوم وانا لازلت في حيرة من كل ماحصل هل كان حلما أم حقيقة ..." نطقت هيلين العبارة السابقة وهي تنظر بمرح إلى فتاة شقراء نحيلة تجلس مقابلة لها , فمطت هذه الاخيرة شفتيها وقالت : " يا الهي هيلين .. يالها من قصة عجيبة " ابتسمت هيلين قائلة : " لكنها حصلت بالفعل معي ورغم مرور اكثر من ثلاث سنوات منذ ذلك الحين الا انني لم استطع نسيانها قط .." هزت الفتاة كتفيها قائلة : " لا زلت أجدها قصة عسيرة التصديق هيلين ..." مالت هيلين ناحيتها وقالت : " ليديا أنا وأنت نتشارك نفس الغرفة منذ وقت طويل .. نأكل سويا وندرس سويا وننام سويا , فهل تظنين أنه يمكنني أن اختلق أمرا ما وأكذب عليك " أشارت ليديا بكفها وقالت في مرح : " بالطبع لا هيلين .. لكني قصدت انها قصة عجيبة بالفعل خصوصا مسألة لقائك بذلك العازف .. " شردت عينا هيلين وكأنها تستعيد ذكرى بعيدة وهي تقول : " لا ألومك كثيرا في قولك هذا أنا نفسي حين استعيد كل ماحدث أشعر أنه كان اقرب الى الخيال .." تساءلت ليديا في فضول : " لكن اخبريني هيلين .. لماذا لم تخبرينني بتلك القصة من قبل اننا نعيش معا هنا منذ سنتين ولم أسمعك تذكرين حرفا واحدا عن قصة عازف الكمان هذا " ابتسمت هيلين وقالت : " لست أدري ربما شعرت في النهاية أنني اريدك ان تشاركيني هذه القصة الساحرة , وربما لانني خشيت ان حكيتها لك من قبل ان لا تصدقينني " غمزت ليديا في مرح قائلة : " لذلك كنت تحرصين دوما على الجلوس في الهواء الطلق في ليالي الصيف المقمرة .. " ابتسمت هيلين في مرح ولم تعلق فتابعت ليديا بنفس المرح : " ولهذا ايضا سجلت اسمك في صف تعلم عزف الكمان لقد تساءلت وقتها لماذا اخترت هذا الصف بالذات " ظلت هيلين صامتة وهي محتفظة بابتسامتها فقالت ليديا في فضول : " ولكن أخبريني .. ألم تعودي ابدا لزيارة تلك البلدة مجددا .. " هزت هيلين رأسها بالنفي وقالت : " لا .. وإن كنت أتمنى أن افعل هذا يوما ما .. لم نمكث هناك كثيرا لان والدي اضطر لتغيير مكان عمله وهكذا سافرنا مجددا وجئنا إلى هنا منذ ثلاث سنوات .. وبعد أقل من سنة كان على والدي أن يسافر مرة أخرى ولكي يوفر علي عناء التنقل هذه المرة قرر أن أظل هنا واقطن في المدرسة الداخلية هنا ..وربما كان هذا من حسن حظي لانني تعرفت لصديقة رائعة مثلك .." هتفت ليديا في مرح : " أوه هيلين أشكرك .. انت لطيفة جدا " بادلتها هيلين الابتسام وبدا أن ليديا تذكرت شيئا ما فقالت : " ولكن ماذا عن تلك السيدة العجوز .. ماذا قلت اسمها " قالت هيلين : " السيدة يازوسكي ... إنني اتبادل معها الرسائل من حين لاخر .. لا يمكنني أن أنساها فهي إمرأة طيبة للغاية ولولاها لما عرفت ابدا قصة ذلك العازف " عادت ليديا تسألها : " ولكن ألا ترين هيلين ان قصة ذلك الشاب بائسة بالفعل .. حتى انه في النهاية فقد حبيبته ولم يظفر بيوم واحد يعيشه معها .. يا للمسكين " وافقتها هيلين بإيماءة من رأسها وهي تقول في حزن : " بالفعل إنها قصة محزنة للغاية.. لكن لابد أن روح ذلك العازف ارتاحت في النهاية.. هل تعلمين أحيانا اشعر ان هدم منزل حبيبته كان أفضل.. لقد كان هذا بمثابة القيد الذي يحيط بروح العازف فلما زال تحررت روحه وانطلقت .. هو نفسه قال هذا.. ومن يدري ربما تلاقت روحاهما في نهاية المطاف .. " تطلعت اليها ليديا في صمت للحظات ثم قالت : " هيلين هل لي أن أسألك سؤالا ..." تمتمت هيلين : " بالتأكيد ..." نظرت ليديا في عينيها مباشرة وهي تقول : " لماذا يخيل لي أن هناك شيء ما يجعلك واثقة أن لقائك بذلك العازف كان حقيقة وليس وهما " ابتسمت هيلين ولم تعلق فتابعت ليديا : " هيلين هل تخفين شيئا ما عني .. " هزت هيلين رأسها نفيا وإن بدت ابتسامتها غامضة لليديا التي لم تلبث أن نفضت الامر عن رأسها وهي تتمنى لهيلين ليلة سعيدة وتطفىء المصباح الصغير المجاور لسريرها ... أما هيلين فقد ظلت مستلقية على سريرها لبعض الوقت وهي تحدق في سقف الغرفة في شرود.. ثم نهضت من سريرها واتجهت للخزانة الصغيرة المجاورة لسريرها ففتحتها والتقطت منها شيئا ما قبل ان تتجه نحو النافذة فتفتحها مصراعيها لتسمح لضوء القمر بالتسلل إلى الغرفة وجذبت كرسيا وضعته جوار النافذة وجلست عليه تتأمل القمر الذي بدا مكتملا في تلك الليلة وهو ينشر عباءته الفضية الرقيقة في كل مكان .. وتنهدت هيلين تنهيدة حارة من أعمق أعماق روحها .. برغم أنها لم تر ذلك العازف مجددا منذ ذلك اليوم .. وبرغم كل تلك السنوات التي مضت إلا أن الأمل لازال يراودها في أن تسمع ألحانه يوما ما ... تلك الألحان العذبة التي لم تستطع نسيانها إلى الان .. لن تفقد الأمل أبدا في رؤية ذلك العازف .. ولازالت رؤية القمر تذكرها به وبألحانه الساحرة .. وتذكرها بذلك اللقاء الرائع ...اللقاء الذي لن تنساه ما حيت ... حين وصلت بأفكارها لهذه النقطة تذكرت سؤال صديقتها ليديا لها عن لقائها بعازف الكمان .. وخفضت هيلين بصرها إلى يدها التي كانت مضمومة لتفتحها في بطء ... وهناك بين أناملها كان يستقر شيء عجيب ... كانت بقايا وردة صغيرة ذابلة شاحبة ... الوردة التي قدمها لها قبل أن يرحل ذلك العازف... عازف الكمان .... تمت بحمد الله
  5. الجزء الثالث أومأت العجوز برأسها ايجابا وقالت :لم يدم زواج ماريانا طويلا.. فزوجها كان رجلا سيئا يدمن على الشرب ولعب القمار ويتعامل معها كأنها جارية وليست زوجة والمسكينة صابرة محتملة في صمت.. وفي أحد الأيام كان زوجها يلعب القمار كعادته في أحد الحانات حين وقعت مشاجرة بينه وبين أحد الأشخاص وتطورت المشاجرة بسبب الخمر التي تناولوها وانتهت بقتل زوج ماريانا و إلقاء جثته في أحد الطرقات..وهكذا وجدت المسكينة نفسها بعد مضي عام ونصف أرملة لم تتجاوز العشرين من عمرها بعد.. وعادت ماريانا الى منزل والديها كسيرة حزينة وعلم عازف الكمان بعودتها فقرر ان يذهب إلى والدها مرة أخرى ويواجهه لعله يستطيع أن يجعله يغير رأيه .. تمتمت هيلين مقاطعة :ولكن الاب لم يقبل بالطبع .. تنهدت العجوز للمرة الثانية وقالت :بل العجيب ان الاب وافق في هذه المرة.. لا احد يدري ما السبب ربما ان رؤيته لابنته وهي بهذا الوضع جعلت قلبه يلين في النهاية .. أو أن رؤيته لعزيمة الشاب وحبه الصادق لابنته قد ساهما في تغيير رأيه .. المهم انه في النهاية وافق ان يتزوج الشاب ابنته .. تهللت أسارير هيلين وهتفت وهي تصفق بكفيها كالأطفال :وهكذا التئم شملهما أخيرا نظرت لها العجوز في صمت .. ثم ابتسمت في حزن وهي تستطرد :في الواقع كان حظ الاثنين سيئا ففي تلك الفترة اندلعت الحرب ووجد الشاب نفسه يُطلب - هو وآلاف غيره - للالتحاق بالجيش والمشاركة في الحرب المندلعة بقوة حينها, وهكذا وجد الشاب نفسه يقاتل على الجبهة بعيدا عن محبوبته بآلاف الأميال.. كانت الحرب مشتعلة في عدة بلدان وهناك أكثر من جبهة والشهور تمر دون ان تلوح في الافق بادرة تلوح بقرب نهاية الحرب.. وحين هدأت الاوضاع قليلا بدأت الاخبار ترد من جبهات القتال المختلفة وبدأ البعض ممن بقوا على قيد الحياة يعودون لقراهم لكن عازف الكمان لم يكن من بين الذين عادوا وبرغم ذلك لم تفقد ماريانا الامل وظلت تنتظر في صبر ولهفة عودة حبيبها .. إلى أن كان ذلك اليوم ... صمتت العجوز للحظة وخيل لهيلين انها تلمح دمعة تترقرق في عينيها قبل ان تقول :كان أحد العائدين صديقا لعازف الكمان شارك معه في القتال على نفس الجبهة وحين عاد كان يحمل أخبارا سيئة.. قال أن عازف الكمان قد لقى مصرعه اثناء القتال . شهقت هيلين حين وصلت العجوز إلى هذا الجزء من القصة ووجدت نفسها تهتف في حسرة :يا للمسكين هزت العجوز رأسها في إشفاق وقالت :بل قولي يا للمسكينة.. فقد كان وقع الخبر كالصاعقة على ماريانا التي انهارت تماما حين ادركت انه لن يكتب لها رؤية حبيبها مرة أخرى .. تساءلت هيلين وهي تشعر بغصة تجثم على روحها :وماذا عن والد الشاب تنهدت العجوز وتمتمت في أسى :الأب جوستاف لقد كان أحسن حظا من ماريانا فقد كان قد لقى مصرعه على يد قوات العدو حين وصلوا لهذه البلدة.. كان أول شخص اعدموه هو الأب جوستاف وهكذا فارق الحياة قبل أن يعرف بمصرع ابنه غمغمت هيلين في أسف :يالها من قصة مأساوية تطلعت العجوز إليها لحظات في صمت ثم قالت وهي تنظر في عيني هيلين :هل تظنين أن القصة انتهت هنا أطلت الحيرة من عيني هيلين وهي تقول :ألم تقولي ان الشاب قد لقى مصرعه ابتسمت العجوز في مرارة وقالت :بلى .. ولكن ماذا عن ماريانا رددت هيلين في حيرة :ماريانا أومأت العجوز برأسها ايجابا وهي تقول :نعم ماريانا المسكينة التي أصابها المرض من هول الصدمة.. اصبحت كالجثة الحية لا تكلم أحدا ولا تفعل أي شيء سوى الجلوس في شرفتها وهي ترمق الافق بعينين حزينتين كانها تناجي روح حبيبها.. كانت البلدة كلها تشعر بالأسى حيال ما جرى لها فقد كانت لا تزال في عمر الزهور لكن لم يكن أحد يستطيع ان يعيد اليها حبيبها الذي فقدته.. حتى والدها تغير حاله تماما ولان قلبه اكثر واصبح كسيرا حزينا لايدري ماذا يفعل كي يعيد الحياة الى ابنته.. ظلت ماريانا على هذا الحال لاكثر من ثلاثة أشهر وفي الشهر الرابع اشتد بها المرض حتى انها اصبحت ملازمة للفراش.. ورغم ان والدها جلب لها أبرع الاطباء لكن احدا لم يستطع ان يشفيها مما بها..كانت كانها قد فقدت الرغبة في الحياة ذاتها بعد أن علمت بموت حبيبها . توقفت العجوز قليلا لتلتقط أنفاسها ثم تابعت :وفي أحد ايام الربيع المشمسة حصلت المعجزة .. كنا نلعب جوار الكنيسة كالعادة حين سمعنا من يصيح ويقول ان عازف الكمان قد عاد تألقت عينا هيلين وهي تستمع للعجوز في شغف وهي تتابع :جرينا في فضول لنتيقن من الخبر.. وبالفعل عند مدخل البلدة رأيناه.. كان يبدو شاحبا للغاية وقد نحل جسده لكنه كان حيا يرزق وقد أحاطت ضمادة برأسه.. شعرنا بفرحة بالغة حين رأيناه أمامنا.. لم يكن احدنا يتصور انه لازال على قيد الحياة.. وقد علمنا فيما بعد أنه اصيب اصابة بالغة أثناء القتال وظن رفاقه انه قد لقى مصرعه لكنه بمعجزة ظل على قيد الحياة ووجده بعض القرويين فحملوه لقريتهم وظلوا يحاولون علاجه بما يملكون من وسائل بسيطة.. كانت حالته خطيرة وجراحه عديدة لكنه جسده استجاب للحياة أخيرا واستطاع ان يستعيد عافيته بعد اسابيع عديدة من بقائه معهم .. تنهدت هيلين وهي تقول في ارتياح :حمدا لله .. وهكذا انتهت القصة نهاية سعيدة على الاقل فوجئت هيلين بالعجوز تقول في حسرة :ليتها كانت كذلك يا ابنتي أطل التساؤل واضحا من عيني هيلين دون ان تنبس ببنت شفة فأطرقت العجوز برأسها وقالت :في نفس اليوم الذي وصل فيه عازف الكمان للبلدة كانت ماريانا تلفظ أنفاسها الأخيرة في هدوء .. شعرت هيلين بقبضة باردة تعتصر قلبها والعجوز تشيح بوجهها لتخفي الدموع التي انسابت لتغرق خديها وهي تقول في مرارة :حين وصل عازف الكمان لمنزل ماريانا كانت هذه الاخيرة قد أسلمت الروح وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة كأنها علمت ان حبيبها قد جاء ولكن بعد فوات الأوان .. صمتت العجوز بعد هذه العبارة وأغلقت عينيها في أسى .. ولم تدر هيلين متى ولا كيف انسابت الدموع من عينيها لتغرق خديها وهي تستمع لهذه القصة المأساوية .. وبصوت متحشرج غمغمت هيلين :وماذا فعل عازف الكمان بعد هذا ظلت العجوز صامتة للحظات ثم اجابت بصوت يملؤه الأسى والحزن :كانت صدمة قاسية جدا عليه.. فقد كتبت له الحياة من جديد بعد ان كان على شفا حفرة من الموت وظن انه اخيرا سينعم بلقاء حبيبته فاذا به يجدها قد فارقت هي الحياة.. وعلم ايضا ان والده قد مات.. أي انه فقد كل أحباؤه ولم يعد لديه أحد .. ظل في منزله شهر كامل لا يراه فيها أحد.. لم يكن يكلم أحدا وكأنه قد انعزل عن كل ما يحيط به وصار يعيش في عالم اخر منفصل.. وفي أحد الايام شاهدناه يحمل كمانه الصغير ويتجه لمنزل ماريانا ليجلس على الكرسي المقابل لشرفتها وهو يرتدي السواد ..وبعد ان جلس هناك طويلا وهو صامت تماما التقط كمانه وبدأ يعزف عليه .. تنهدت العجوز في حسرة وكأنها تسترجع ذكرى مؤلمة وهي تقول :كانت أنغاما حزينة وساحرة يصعب وصفها في كلمات.. كان الجميع ينصت لعزفه في افتتان وأسى الى ان انتهى من العزف وبعد ذلك اليوم لم يره أحد قط وعلمنا انه قد غادر البلدة وذهب ليعيش عند قريب له في بلدة أخرى بعيدة.. ومن حين لاخر كان يأتي ليزور منزل محبوبته ويقضي الساعات أمام المنزل ثم يمضي لا يلوي على شيء..وأحيانا كان يجلب معه الكمان ويعزف عليه .. تذكرت هيلين الانغام الساحرة التي كانت تسمعها والتي سحرتها بالفعل من فرط عذوبتها ورقتها وشعرت بقشعريرة تسري في جسدها وهي تستمع للعجوز التي تابعت :مرت السنون تلو السنون ونسى الناس قصة ذلك العازف الشاب وعادت الحياة تأخذ مجراها المعتاد .. إلى أن كان ذلك اليوم الذي استيقظ فيه سكان الحي ليلا على أنغام لحن عذب حزين .. لم يدر أحد من أين أتت ومن اين مصدرها وإن كان البعض قد تذكر ذلك العازف الشاب وخمن انه هو و قد عاد أخيرا لبلدته .. وفي اليوم التالي تصور سكان الحي انهم سيجدون ذلك الشاب في منزله القديم الصغير لكن لم يظهر له أدنى أثر وتناسى الناس الأمر وظنوا انه قد غادر مجددا لكنهم كانوا مخطئين .. وفيما بعد عرف الجميع أن ذلك العازف قد مات وهو في تلك البلدة عند قريبه .. مات في نفس الليلة التي استيقظ فيها الناس على صوت تلك الالحان وكأن روح الشاب جاءت لتودع منزل حبيبته قبل أن ترحل للأبد ... انهمرت الدموع من عيني هيلين وهي تستمع للعجوز في صمت وقلبها يخفق في حزن ولوعة .. يا لهذا الشاب المسكين .. لقد عانى كثيرا في حياته وقاسى من العذاب ما لايطاق .. ولكن اذا كانت هذه القصة قد حدثت منذ اكثر من ثلاثين سنة فكيف يمكن تفسير ما تراه هي منذ اسابيع معدودة همت بسؤال العجوز عن هذا الامر لولا انها استطردت في نفس اللحظة :مرت منذ ذلك اليوم سنين عديدة ومن حين لاخر يتكلم البعض عن انغام حزينة يسمعونها في جوف الليل أحيانا ومنهم من كان يربط هذا بالقصة التي يعرفها عن ذلك العازف .. البعض كان يقول أن عازف الكمان يظهر في الليالي التي يكتمل فيها القمر تماما كما كان يفعل حين كان واقعا في غرام ماريانا وكان يجلس تحت شرفتها ليعزف لها في الليالي المقمرة , لكن لم يكن هناك شيء مؤكد إذ لم تتسنى رؤيته لكثيرين , كان بعض سكان البلدة يقول أن روح عازف الكمان تأتي من حين لاخر لتزور منزل حبيبته وتعزف تلك الالحان لكن كما قلت لك لم يكن هناك رواية مؤكدة حول هذا الامر ولم يستطع أحد أن يؤكده أو ينفيه .. ومع الوقت تغير المكان وهجره الكثيرون ولم يعد هناك في الحي الا بعض المنازل الصغيرة .. لكن العجيب ان مبنيين ظلا كما هما لم يطرأ عليهما تغيير هما الكنيسة القديمة ومنزل ماريانا .. تذكرت هيلين ما سوف يحل بمنزل ماريانا الذي اشتراه السيد اندرسون وشعرت بقلبها يخفق في قوة وهي تتذكر منظر الفتى الحزين الذي بدا عليه في اخر مرة .. الان فقط فهمت لماذا كان يشعر بالحزن .. لقد عرف أن منزل حبيبته سيهدم ولن يعود كما كان فأحزنه هذا ... وفي أعماقها تمنت هيلين أن لا يهدم المنزل .. لكن كيف السبيل إلى هذا أخرجها من أفكارها صوت العجوز وهي تسألها :ما الذي تفكرين به يا ابنتي انتفضت هيلين وكانها تفيق من غيبوبة ووجدت نفسها تهتف في قوة :سيدة يازوسكي هل تعلمين أن منزل ماريانا سوف يهدم قطبت العجوز حاجبيها الأشيبين وهي تغمغم في تساؤل :ماذا هل أنت متأكدة يا ابنتي امسكت هيلين كتفي العجوز وقالت وحماسها يتضاعف :أجل متأكدة ويجب ان نحاول أن نمنع هذا ... تراجعت العجوز في مقعدها وهي تتساءل :وما الفائدة يا بنيتي ان بقى المنزل او هدم فقد مرت ثلاثون عاما على هذه القصة ولم يعد المنزل قيمة لاحد .. هزت هيلين رأسها في قوة قائلة :بل هناك من يهمه كثيرا ان لايهدم هذا المنزل .. نظرت اليها العجوز في شك وقالت :من تعنين هتفت هيلين في حرارة :عازف الكمان .. رددت العجوز في دهشة :عازف الكمان أومأت هيلين برأسها في قوة وهي تقول :سيدة يازوسكي .. لقد رأيته بنفسي .. رأيت عازف الكمان .. اتسعت عينا السيدة يازوسكي وهي تقول في دهشة :أحقا أحقا رأيتيه يا ابنتي هل انت متأكدة من هذا أومأت هلين برأسها ايجابا وهتفت في حرارة :نعم رأيته وسمعت عزفه ايضا.. ولم أكن اعرف ان له هذه القصة الحزينة.. في البداية ظننته انسانا من لحم ودم لكن بعد ان سمعت قصتك تبين لي غير هذا .. هزت العجوز رأسها في قوة كأنما تنفض مابه وهي تقول :ولكن يا ابنتي قليلون جدا من رأوه.. حتى انا لم اسمع منذ سنين عديدة عن شخص راه أو سمع عزفه .. هتفت هيلين في حماس :لست ادري تفسيرا لهذا لكني متأكدة من انني رأيته.. وفي اخر مرة رايته فيها كان حزينا للغاية والان فهمت سر حزنه .. انه يعلم انهم سيهدمون المنزل .. تنهدت العجوز وقالت :يبدو ان لديك روحا شفافة للغاية يا ابنتي فحتى أنا لم تسنح لي فرصة رؤيته ولو مرة واحدة رغم كل هذه السنين .. لكن ليس بيدنا مانفعله اذا ما كان احدهم قرر ان يهدم المنزل .. قالت هيلين في إصرار :سأبذل كل جهدي لأحول دون هذا .. تأملتها العجوز في اشفاق وتمتمت في خفوت :أتمنى ان تنجحي في هذا يا ابنتي فسيكون من المحزن حقا أن يهدم ذلك المنزل طالما أنه لازال يمثل هذه القيمة لروح عازف الكمان .. ظلت عبارة العجوز الاخيرة تتردد في ذهن هيلين وهي تعبر الطريق عائدة لمنزلها وعقلها يستعيد أحداث تلك القصة الحزينة لعازف الكمان .. وما أن عاد والدها من عمله حتى قررت هيلين أن تطلب مساعدته في الأمر .. لذلك بادرته قائلة وهما على المائدة يتناولا الطعام :أبي .. هل أخبرك السيد اندرسون متى ينوي أن يهدم ذلك المنزل غمغم والدها في هدوء :أظن انهم سيشرعون في ذلك غدا أو بعد غد .. لماذا تسألين تمتمت هيلين في خفوت :وهل من الضروري أن يهدم المنزل لم لايسكن فيه ويكتفي ببعض التجديدات نظر إليها والدها في دهشة وقال :هذا شأنه على كل حال .. ولكن ما سر اهتمامك بهذا الامر أطرقت هيلين برأسها للحظات وغمغمت في خفوت : أبي أريد أن اطلب منك معروفا صغيرا هل لك أن تكلم السيد اندرسون وتحاول اقناعه بعدم هدم المنزل نظر لها والدها في حيرة وهم بقول شيء ما لكنها ابتدرته قائلة :أرجوك يا ابي لا تسألني الان عن سر اهتمامي بهذا الامر لكن يكفي ان تعرف انه يهمني كثيرا .. ظل والدها يتطلع اليها في صمت للحظات وكأنه يحاول سبر أغوارها ثم لم يلبث ان هز كتفيه قائلا :فليكن .. سأرى ما يمكنني عمله في هذا الشأن .. قفزت هيلين تتعلق بعنقه وهي تهتف في سعادة : أشكرك كثيرا يا أبي .. أزاح والدها ذراعيها في رفق وهو يطبع قبلة حانية على رأسها ثم نهض وقال :أظن انني سأجد السيد اندرسون غدا في وقت مبكر اذا كان قد عزم ان يشرع في هدم البيت وحينها سأحاول أن أكلمه في الامر .. لم تعلق هيلين وهي تتابع والدها ببصرها حتى دلف الى غرفته وظلت هي في مكانها تفكر.. لماذا لم تخبر والدها بقصة ذلك العازف لعله يتحمس أكثر لكن شيء ما في قرارة نفسها جعلها تتردد وتحجم عن اخباره بالقصة .. قررت ان تنتظر وترى نتيجة مقابلته للسيد اندرسون .
  6. اكمل الجزء الثاني الجزء الثاني وكان من حسن حظها ان اليوم التالي لم يكن فيه عمل كثير فقد كانوا قد انتهوا تقريبا من ترتيب وتنسيق كل شيء .. وانصرف والدها إلى عمله وبقيت هي في المنزل وحيدة .. لم تكن الدراسة قد بدأت بعد ناهيك عن أن إكمال إجراءات انتقالها لإحدى المدارس هنا يحتاج إلى تنسيق وإجراءات طويلة يقوم بها والدها , بالتالي كان لديها متسع من الوقت لتفعل فيه أي شيء .. كانت قد أحضرت معها كمية كبيرة من الكتب كي تقرأها في وقت فراغها الذي قدرت انه سيطول كثيرا خصوصا وهي لا تعرف أحدا بعد في هذا المكان الجديد.. وهكذا امسكت بأحد الكتب وبدأت في قراءته .. لكنها لم تستطع ان تركز مع الكتاب على الاطلاق .. طوال الوقت كانت أفكارها تتجه إلى ذلك المشهد الذي رأته مرتين .. وكلما حاولت التركيز وطرد الامر عن ذهنها تكتشف أنها تفشل في هذا تماما .. إلى أن شعرت بالضيق من هذا كله فطوحت بالكتاب جانبا وأرجعت رأسها إلى الوراء وهي تحاول أن تسترخي في مجلسها .. كان ذلك المشهد يشغل تفكيرها ويشعل فضولها الانثوي الى اقصى حد وادركت انها مهما فعلت لن تستطيع ان تبعد ذلك الامر عن ذهنها .. وهكذا قررت أن تخرج قليلا وتتعرف على هذا الحي الصغير الذي تقطنه .. كان الحي يقع في منطقة هادئة للغاية.. مما جعل الشارع الصغير الذي يقع منزلها فيه اشبه بالمكان المهجور.. هناك العديد من الشوارع التي تشبه في مظهرها وحجارتها المرصوفة شارعها والبيوت الصغيرة تصطف على الجانبين بحدائقها الصغيرة الجميلة وذلك النهر يغير اتجاهه من مكان لاخر حتى يصل مجراه إلى ذلك الطريق العريض الذي يقع فيه منزلها.. كانت بلدة صغيرة وجميلة في نفس الوقت.. لم تستغرق جولتها طويلا اذ سرعان ماشعرت بالملل فعادت أدراجها وحين وصلت الى قرب الشجرة العجوز وذلك الكرسي العتيق اسفلها شعرت برغبة في أن تجلس عليه قليلا.. كان الكرسي مريحا إلى حد ما وحين جلست عليه لاحظت ان ذلك المنزل يبدو واضحا أمامها بطابقيه وتلك الشرفة التي تبرز من واجهته لتطل على الناحية التي تجلس عليها الان.. شرفتها ايضا كانت واضحة من هذا المكان لكن العجيب ان ذلك الشاب يبدو وكأنه لا يهتم لاي شيء حوله سوى بذلك المنزل الغامض مثله .. كان الجو صحوا إلى حد ما مما جعلها تسترخي لفترة في مكانها وهي تستمع لاصوات العصافير العذبة وفي أعماقها كانت تشعر ان عزف ذلك الفتى أكثر عذوبة من غناء هذه العصافير.. بعد أن مكثت في مكانها لأكثر من ساعة شعرت هيلين أن عليها العودة للمنزل وهناك كان والدها قد عاد فأمضت بعض الوقت معه وسألته عن احوال عمله الجديد وقضيا بعض الوقت في الكلام وتناول طعام الغداء .. حين أقبل المساء هذه المرة خيل لهيلين أنه تأخر دهرا كاملا .. فقد كانت ترتقب موعد الليل الذي يصل فيه ذلك العازف الغامض ليسحر الجو والمكان بألحانه العذبة .. وفي تلك الليلة تكرر نفس المشهد بحذافيره .. وظلت هي في مكانها في الشرفة تراقب ذلك العازف حتى انتهى من عزفه وغادر المكان في هدوء وصمت .. وهكذا كانت هيلين في اليوم التالي تتمنى لو استطاعت ان تجعل ساعات النهار تنقضي بسرعة كي يأتي الليل وتمتع أذنيها بذلك العزف الرقيق.. تلك الألحان الملائكية سحرتها تماما وجعلتها تتلهف على سماعها وتنتظرها في شوق ولهفة .. وحين جاء الليل اخيرا اتخذت نفس المجلس في شرفتها وهي ترمق الشارع مترقبة وصول ذلك الفتى في موعده الثابت الذي عودها عليه لثلاث ليال متصلة .. ولكن الوقت مضى دون ان يظهر ذلك العازف .. وطال الوقت حتى ايقنت هيلين أنه لن يأتي في هذه المرة.. ولكن لماذا ظل هذا السؤال يشغلها طوال الليل وهي تتقلب في فراشها وتتساءل عن سر إختفاء الشاب في هذه الليلة هل اصيب بمكروه اضطره للبقاء في بيته ولكن هل له بيت أصلا أنه يبدو كما لو انه يجيء من العدم ذاته أنها لا تعرف عنه أي شيء وربما يكون شيئا ما اصابه وعطله عن المجيء .. شعرت بغصة في أعماقها حين وصلت لهذه النقطة من التفكير ووجدت نفسها تتمنى في اعماقها ان لا يكون قد اصيب بأي مكروه وشعرت بالعجب من افكارها هذه .. ماعلاقتها هي بهذا العازف الغامض ولماذا تتمنى في اعماقها ان يكون بخير وأن يأتي مجددا ظلت تخوض في هذه الأفكار والأسئلة حتى طلع النهار ولم يغمض لها جفن .. وحين عاد والدها لاحظ أن ابنته تبدو شاحبة ومتغيرة قليلا لكنه عزا هذا الى كونها لم تتأقلم بعد مع المكان الجديد أو ربما شعرت بالحنين لبلدتها الأولى .. أما هيلين نفسها فلم تكن أفكارها تدور طوال الوقت الا حول ذلك العازف الغامض وسبب اختفائه غير المبرر .. وحين جاء الليل جلست كالعادة في الشرفة منتظرة ومترقبة وإن أنبأها قلبها بأنه لن يأتي هذه الليلة ايضا .. وصدق حدسها للاسف .. ومرت الساعات ولم يظهر أثر لذلك الفتى ... وشعرت هيلين بحسرة بالغة واسف كبير .. وطوال الاسبوع الذي تلى تلك الليلة لم تكف عن الجلوس في الشرفة في كل يوم حين يجن الليل على أمل ان يظهر ذلك العازف ولكن بدون أي فائدة .. وأنتابها الضيق الشديد جراء هذا وودت لو أنها تعرف فقط ما الذي جرى لذلك الفتى ولماذا لم يعد يجيء وفي الاسبوع التالي كانت إجراءات تسجيلها في المدرسة قد تمت وبدأت تذهب للمدرسة يوميا وتعود في موعد ثابت لتجد والدها بانتظارها في البيت.. وبين الحين والحين يأخذها والدها للنزهة وللتعرف على هذه البلدة الصغيرة التي انتقلا إليها.. وقد بذل والدها جهدا كبيرا وهو يحاول ان يرفه عن ابنته الوحيدة ولا يجعلها تشعر بالغربة او الملل.. لكن هيلين لم تكن تشعر بهذه المشاعر بذات القوة بسبب قصة ذلك العازف التي استولت على معظم تفكيرها .. وفي المدرسة كانت تحاول ان تركز في الدروس وتحاول أن تتأقلم مع وضعها الجديد , كانت تشعر أحيانا بالحنين الى مدرستها القديمة وبلدتها الصغيرة لكنها كانت تحاول ان تتناسى هذا .. وهكذا مضت الايام رتيبة عادية بالنسبة لهيلين وإن واظبت كل يوم على الجلوس في الشرفة لعل ذلك العازف يظهر ولكن بدون فائدة .. ومر شهر كامل منذ أول ليلة رأته فيها هيلين ذلك الشاب.. وفي تلك الليلة كانت في غرفتها تقرأ في احد الكتب وقد يئست من الجلوس في الشرفة وإذا بأنغام حزينة عذبة تتسلل إلي مسامعها لم تدر هيلين كيف قطعت المسافة التي تفصلها عن الشرفة وهي تقتحمها في لهفة لتقع عيناها على ذلك العازف وهو يعزف على كمانه الصغير تلك الالحان الساحرة .. كان يرتدي نفس الثياب ويجلس ذات الجلسة التي راته عليها لاول مرة .. لكن هيلين شعرت بقلبها يتواثب في فرح وسعادة وهي تتطلع اليه وتسرح مع تلك الانغام .. وحين أنتهى الفتى من العزف وانصرف في هدوء كعادته كانت هيلين في قمة السعادة وهي لازالت في مكانها غير مصدقة أنه جاء أخيرا .. واشتعلت لهفتها مرة أخرى لمعرفة قصته .. تمنت لو امتلكت الشجاعة لتذهب اليه وتساله مباشرة لكنها لم تجد في نفسها الجرأة لفعل شيء كهذا .. في اليوم التالي وحين عادت من المدرسة وهي تشعر بحيوية ونشاط افتقدتهما لايام عديدة كانت تقطع الطريق متجهة لمنزلها حين مرت بذلك البيت الصغير الذي يقع في طرف الشارع ورأت على شرفته إمرأة مسنة تبدو الطيبة واضحة على ملامحها وهي تحمل كيسا فيه مشتريات كثيرة وتحاول ان تحمله إلى المنزل .. تقدمت هيلين من المراة العجوز وعرضت أن تساعدها في حمل الكيس فرحبت العجوز بذلك وشكرتها كثيرا وأصرت أن تدعوها لتناول كوب من الشاي في بيتها .. كان الوقت لا يزال مبكرا ولم تشا هيلين ان ترفض دعوة هذه العجوز الطيبة, ووجدت نفسها جالسة مع العجوز في دارها ترتشف الشاي الساخن وتتأملها في صمت .. كانت إمرأة في حوالي الخمسين من العمر .. تبدو الحيوية واضحة في عينيها برغم سنوات عمرها الكبير وقد كانت بسيطة وطيبة في تعاملها مما اشعر هيلين براحة كبيرة .. سألتها العجوز وهي تقدم لها كوب الشاي وتجلس مقابلها :أنتم الساكنون الجدد في منزل آل جيلر .. أليس كذلك أومأت هيلين برأسها إيجابا وهي تقول :نعم .. لقد انتقلنا إليه منذ حوالي الشهر .. قالت العجوز في ود : لابد انك تشعرين بالكثير من الملل لان هذا الحي الصغير هادىء للغاية .. ابتسمت هيلين وقالت :الحقيقة نعم .. فالبلدة بأكملها هادئة كثيرا .. من قبل كنا نقطن في حي يموج بالحركة كثيرا لهذا يبدو لي السكون هنا غريبا وغير معتادا .. وافقتها العجوز بايماءة من رأسها وقالت :أستطيع ان افهم شعورك.. انا نفسي وبعد كل هذه السنين لازلت اجد ان المكان هادئ بدرجة كبيرة.. لست اشعر بالراحة كثيرا خصوصا وانا أعيش لوحدي هنا لكن ليس أمامي خيار آخر منذ أن رحل ولداي عن هذا البيت وتزوجا وانتقلا للعيش في مدينة أخرى .. تساءلت هيلين: وأين زوجك بدت مسحة من الحزن في عيني العجوز وهي تقول :توفى منذ زمن بعيد .. تمتمت هيلين في حرج :أرجو المعذرة .. تنهدت العجوز وقالت :لا عليك يا ابنتي .. صحيح انه رحل منذ زمن بعيد لكني لازلت اعيش مع ذكراه في كل لحظة.. هذا المنزل الصغير بكل مافيه يذكرني دائما به .. كل ركن وكل زواية كانت لنا فيها الكثير من الذكريات الجميلة .. كانت صحبة العجوز مسلية وقد وجدتها هيلين في غاية الطيبة واللطف حتى انها دعتها لزيارتها في أي وقت, وهكذا ودعتها هيلين بعد أن وعدتها بتكرار الزيارة , شعرت هيلين بالشفقة تجاه هذه العجوز الطيبة التي تعيش بمفردها وحتى ولداها لا يربطها بهما الا بضع رسائل يرسلانها بين الحين والاخر ليطمئنا على والدتهما .. قاسية هي هذه الحياة .. هكذا كانت تفكر هيلين وهي في طريق العودة لمنزلها .. وحين وقع بصرها على ذلك الكرسي اسفل الشجرة تداعت ذكريات ذلك العازف إلى ذهنها مجددا وأزاحت عنه كل الافكار السابقة وراحت تتساءل هل ستراه الليلة ياترى لفت نظرها وهي تتجه لمنزلها منظر رجلين كانا واقفين أمام ذلك البيت المهجور يتحدثان.. كان أحدهما رجل يميل للبدانة قليلا أخضر العينين غليظ الملامح تبدو عليه معالم الثراء والاخر كان شابا أشقر الشعر يمسك في يده بلوح صغير وكان يتكلم وهو يشير طوال الوقت إلى المنزل .. واصلت هيلين طريقها وهي تتساءل عن كنه هذين الرجلين وما صلتهما بذلك المنزل هل هما من سكانه القدامى أم ماذا يا ترى وحين أقبل الليل كانت هي في الشرفة كالعادة تنتظر وصول ذلك العازف الليلي .. كانت تشعر ان الوقت يمضي ببطء شديد وهي تنتظر قدومه ولم يبدد مللها ذلك الضوء الساحر الذي يلقيه القمر في تلك الليلة والذي يتألق على صفحة الماء وعلى أرضية الشارع في مزيج جذاب .. ومن بعيد لمحت خيال الشاب وهو يتقدم ببطء كعادته في طريقه الى ذلك الكرسي .. وحبست أنفاسها وهي تشاهده يدنو حتى صار على قيد متر واحد من الكرسي .. توقعت هيلين ان يجلس ويبدأ العزف كعادته لكن الشاب لم يجلس في هذه المرة وإنما ظل واقفا يتطلع الى ذلك المنزل في صمت وسكون دون ان يبدي أي حركة .. وعلى ضوء القمر فقط وبالرغم من بعد المسافة نسبيا إلا أن هيلين لاحظت شيئا خفق له قلبها في قوة.. لقد كانت هناك نظرة تقطر حزنا وأسى في عين العازف وهو في وقفته الثابتة تلك .. بحر من الحزن كان ينعكس في عينيه الساحرتين جعل قلب هيلين يخفق في أسى وكأنه يشاركه هذا الحزن ... وطالت وقفة الشاب في مكانه حتى تمنت هيلين أن تنزل اليه وتريح رأسه على حجرها وتجعله يفرغ كل حزنه وألمه الذي تراه الان في عينيه .. ثم استدار الشاب فجأة وبدأ يسير في الاتجاه المضاد وهيلين تتابعه في حيرة وهي تتساءل عن الذي حصل له اليوم .. فلأول مرة ياتي ويمضي بدون ان يعزف تلك الألحان الساحرة .. وفي تلك الليلة لم تستطع هيلين أن تنام وهي تفكر في سر حزن الفتى الشديد هذه المرة.. صحيح انها كانت تلمح في عينيه حزنا من قبل لكنه يختلف عن مارأته هذه الليلة.. كان حزنه هذه المرة قويا جدا وكاسحا كأنه فقد عزيزا لديه ولكن مهلا .. ماذا لو كان هذا ماحدث بالفعل لكن أي عزيز هذا الذي فقده هذا الشاب ان ذلك المنزل مهجور من الاصل ولا يسكن فيه أحد فما سر تعلق هذا الشاب به وهكذا طلع النهار وهيلين غارقة في تلك الافكار .. نهضت وهي مشوشة مرهقة ولم تستطع ان تركز في المدرسة جيدا.. كانت تود ان يمضي الوقت بسرعة كي تعود لمنزلها وتحصل على قسط من الراحة .. وحين ترجلت من تلك الحافلة العامة التي تستقلها في العادة ثم يكون عليها أن تقطع مسافة لا بأس بها لتصل إلى منزلها ومع ذلك فقد كانت تستمتع كثيرا بالمناظر الجميلة التي تمر بها وهي في طريق عودتها.. وبينما هي متجهة لمنزلها لمحت أمام ذلك البيت الغامض ذلك البدين وفي هذه المرة كان واقفا يتحدث مع والدها.. حين راها والدها ابتسم وأشار لها ان تقترب وهو يقول :تعالي ياهيلين.. اقتربت هيلين منهما ووالدها يتابع :مستر اندرسون هذه ابنتي هيلين.. هيلين أقدم لك السيد أندرسون جارنا الجديد صافحها اندرسون في هدوء وهو يقول :سررت بمعرفتك انستي .. أومأت هيلين برأسها في صمت ولم تعلق بينما قال والدها في مرح :لقد عدت اليوم من العمل مبكرا وكانت هذه فرصة طيبة لاتعرف على السيد اندرسون..إنه سيسكن هنا ابتداء من الاسبوع المقبل .. ظلت هيلين صامتة ووالدها يحيط كتفيها بذراعيه وهو يقول لجارهم :مارأيك بأن تشرفنا ونتناول الغداء سويا ابتسم أندرسون وهو يقول في لباقة :أشكر لك دعوتك الكريمة سيدي لكني مضطر للإنصراف لان عندي بعض الاعمال العاجلة .. تمتم والد هيلين مودعا: فليكن .. سررت كثيرا بمعرفتك وأتمنى ان تزورنا قريبا .. أومأ أندرسون برأسه مودعا بدوره واستدار والد هيلين مع ابنته متجهين إلى منزلهما وهيلين صامتة تماما وما أن استقر بها المقام مع والدها على مائدة الغداء حتى سألته هيلين في فضول :من هو هذا السيد يا أبي أجابها والدها في بساطة :إنه - كما أخبرني - رجل أعمال يمتلك عددا من المشاريع التجارية في هذه البلدة .. عادت هيلين تسأل والدها : هل هو متزوج هز والدها رأسه علامة النفي وهو يقول :لا ليس متزوجا ... تساءلت هيلين في حيرة :أليس غريبا ان يصل لهذا السن ولم يتزوج بعد ألتفت إليها والدها في دهشة للحظة ثم وضع الملعقة جانبا وقال :هيلين.. لم أعهد فيك الفضول بهذه الدرجة من قبل .. هل لي أن اعرف لماذا يثير السيد اندرسون فضولك إلى هذا الحد كانت هيلين تبدو وكأنها توقعت هذا السؤال من والدها فقد قالت مباشرة :الحقيقة إنني أريد أن اعرف سر قدومه ليعيش في منزله في هذا الوقت بالتحديد بعد ان تركه كل هذه المدة تطلع إليها والدها في هدوء لبعض الوقت وكأنه يسعى لمعرفة ما يدور في خلد ابنته ثم عاد يتابع الأكل وهو يقول :الواقع أنه ليس صاحب المنزل الأصلي إنما اشتراه من ورثته منذ أيام قليلة وقد أخبرني أنه يود أن يهدمه كي يعيد بناءه بالشكل الذي يروق له .. انتفضت هيلين عند سماعها هذا الجزء من كلام والدها ووجدت نفسها تصيح في استنكار :يهدمه تطلع والدها اليها في دهشة فتنحنحت في حرج وتمتمت في ارتباك :أعني.. لماذا يقوم بهدم منزل جميل كهذا ويجشم نفسه عناء البناء من جديد .. لم لايسكن فيه ويكتفي ببعض التجديدات غمغم والدها في هدوء :هذا شأنه على أية حال .. كادت هيلين تخبره ان هذا ليس من شأنه لكنها اثرت ان تصمت ولم تشأ ان تثير استغراب والدها اكثر .. تابعت طعامها في صمت وهي تفكر في هذا الامر الذي عرفته الان .. إذن هذا السيد أندرسون يريد أن يهدم المنزل ولكن هل لهذا علاقة بذلك العازف هل هذا هو سر حزنه وما الذي يمثله هذا البيت لذلك الشاب أفاقت من خواطرها على صوت والدها وهو يقول :ما رأيك في أن نذهب سويا للتنزه في البلدة قليلا تمتمت هيلين :الحقيقة انني مرهقة اليوم كثيرا وأود أن أنال قسطا من الراحة .. لم يعلق والدها وهو يتناول منشفة صغيرة ويمسح بها شفتيه , فتابعت هيلين :فيما بعد قد أذهب لزيارة المسز يازوسكي قليلا . تساءل والدها في حيرة :مسز يازوسكي أومأت هيلين برأسها ايجابا وقالت :نعم .. إنها جارتنا التي تقطن في اخر الشارع.. أرملة طيبة كثيرا ووحيدة وقد وعدتها بزيارتها كلما سنحت الفرصة . أومأ والدها برأسه وقال وهو ينهض :فليكن .. أظنني سأنال قسطا من النوم الان .. انصرف والدها إلى غرفته وانهمكت هي في رفع المائدة وتنظيف الأطباق وترتيب المنزل.. ثم اتجهت لغرفتها وفتحت باب الشرفة على آخره لتسمح للنسيم اللطيف بالدخول واستلقت على فراشها الصغير .. كانت تخطط للراحة قليلا ثم الذهاب لزيارة الأرملة العجوز لكن ما أن وضعت رأسها على الوسادة حتى راحت في سبات عميق .. ولم تستيقظ إلا على أضواء الغروب الأخيرة وهي تتسلل من الشرفة وتغمر أرضية غرفتها على استحياء .. نظرت هيلين في ساعتها وقدرت أن الوقت متأخر الان لزيارة مسز يازوسكي وشعرت بالضيق لهذا فقد كانت حقا ترغب في قضاء بعض الوقت مع تلك العجوز الطيبة.. ثم إنها كانت تخطط لسؤالها عن ما اذا كانت تعرف شيئا ما عن قصة ذلك المنزل المهجور الذي اشتراه السيد اندرسون علها تعرف شيئا ما يبدد غموض ذلك العازف ..لو كان هناك من أحد يعرف شيئا ما فهو بالتأكيد تلك المرأة التي عاشت فترة طويلة في هذا الحي .. كان الوقت لا يزال مبكرا على مجيء ذلك العازف ولم تشعر هيلين بالرغبة في الاستذكار, نزلت الى الطابق السفلي لتجد والدها مستغرقا في القراءة.. ولوهلة فكرت في ان تقص عليه قصة ذلك العازف ومايحيط بها من غموض لكنها أحجمت عن ذلك في اللحظة الأخيرة وفضلت ان تتروى قبل ان تخبر والدها بشيء .. وفي الليل اتخذت هيلين مجلسها المعتاد في الشرفة منتظرة قدوم ذلك الشاب الغامض وهي تتساءل هل سياتي أم لا في هذه الليلة الواقع انه ليس لديه موعد ثابت ياتي فيه فقد مر شهر منذ راته أول مرة حين ظهر ثانية .. مرت الساعات بطيئة ثقيلة كالعادة وهيلين في مكانها تنتظر في صبر.. إلى أن لمحت ظله قادما من بعيد فتحفزت كل خلية في جسدها وهي تتابعه ببصرها وهو يخطو الى مكان ذلك الكرسي ويجلس عليه بصمت .. ولوهلة خيل لهيلين أن الهواء ذاته تجمد في مكانه وهي تراقب الشاب في فضول ولهفة والصمت يغلف المكان تماما .. وفجأة استند الشاب بوجهه على راحتيه وأطرق برأسه في صمت وظل على هذا الوضع لبضع دقائق ثم رفع رأسه في بطء وهو ينظر ناحية ذلك المنزل . وشعرت هيلين بقلبها ينتفض بين ضلوعها في قوة وهي تلاحظ تلك الدموع الصامتة التي انسابت على خدي الشاب في هدوء حزين .. ودون أن تدري وجدت هيلين نفسها تشاركه البكاء في صمت .. ولم تدر كم مر من الوقت حتى فوجئت به ينهض بنفس الهدوء ويبتعد بذات البطء .. خيل لهيلين في هذه المرة ان خطواته ذاتها تقطر حزنا وأسى وظله يبتعد... ويبتعد .. ويبتعد .. وظلت هيلين في مكانها لفترة طويلة والصمت يغلف ما حولها ودموعها تنساب في بطء لتبلل وجنتيها وهي تتساءل بكل الحيرة واللهفة في أعماقها عن قصة هذا الشاب كانت تشعر ان الشاب حزين لان المنزل سيهدم ولكن ماسر تعلقه بهذا البيت هل هو أحد ورثته السابقين مثلا تمنت لو استطاعت ان تسأل السيد اندرسون عن كيفية شراءه لهذا المنزل وما قصة اصحابه بالتحديد لكن هل اذا سالته يجيبها ويبدد حيرتها انه يبدو شخصا عاديا لكنها لم تستطع ان تشعر بالراحة له لسبب لا تدريه .. وفي تلك الليلة قبل ان تخلد للنوم قررت في عزم ان تذهب في اليوم التالي للأرملة العجوز وتحاول ان تعرف منها أي شيء قد يزيل هذا الغموض .. وفي اليوم التالي عرجت هيلين على منزل السيدة يازوسكي بعد ان عادت من المدرسة ورحبت بها العجوز في حرارة وسرور بالغين .. لم تشأ هيلين أن تضيع الوقت كما أن نيران اللهفة والفضول كانت مستعرة في أعماقها لذلك بادرت العجوز بالسؤال فور ان استقر بهما المقام جوار المدفأة العتيقة في غرفة الجلوس :سيدة يازوسكي هل بإمكاني أن أسألك عن شيء ما فأجابت العجوز في ود :بالطبع يا ابنتي .. ما الذي تودين معرفته قالت هيلين مباشرة وهي تنظر في عيني العجوز :أود أن أسألك عن قصة ذلك المنزل المهجور الذي يقع جوار منزلنا .. قطبت السيدة يازوسكي حاجبيها الاشيبين وهي تقول في شك :ولماذا تفترضين ان لذلك المنزل قصة ارتبكت هيلين للحظة ثم قالت وهي تنظر للأرض :الواقع.. أن.. هناك اشياء غريبة لاحظتها منذ جئنا للعيش هنا .. لم تعلق العجوز بحرف وهي تنظر لهيلين في تساؤل فتابعت هذه بمزيج من التردد والارتباك :لقد .. رأيت شابا غريبا يأتي ليجلس امام ذلك المنزل يراقبه في صمت وهو يرتدي السواد و.. قاطعها العجوز فجأة قائلة في لهفة :هل تعنين عازف الكمان انتفضت هيلين وهي تسمع هذا اللقب من بين شفتي العجوز لاول مرة ونظرت لها في حيرة فابتسمت السيدة يازوسكي في حنان وقالت :هلم .. أخبريني بكل ماعندك يا ابنتي .. ترددت هيلين للحظة ثم قررت ان تلقي بكل ما لديها للعجوز وكأنما ناء صدرها بحمل ذلك السر فاندفعت تروي لها قصة ذلك العازف منذ أن رأته في اول يوم والعجوز تستمع لها في صبر وعيناها تتألقان ببريق عجيب يجمع بين الحزن واللهفة.. حتى انتهت هيلين من قصتها وساد الصمت للحظات بينهما ثم قالت السيدة يازوسكي في هدوء :هل ترغبين حقا في معرفة قصة عازف الكمان هذا أجابت هيلين في حماس :بالتأكيد .. ابتسمت العجوز في حزن ورمقت الفراغ في صمت وكأنها تخترق حجب الزمان ببصرها وتابعت والابتسامة الحزينة لازالت على شفتيها :إنها حكاية قديمة للغاية .. ربما يكون مر عليها الان اكثر من ثلاثين عاما .. ارتفع حاجبا هيلين في دهشة وهي تسمع هذا.. وآثرت الصمت وهي تستمع للعجوز التي تابعت حديثها بينما الاخشاب الموضوعة في المدفأة تحترق وتصدر قرقعة قوية تختلط بصوت العجوز فتضفي على الجو بأكمله رهبة وسحرا عجيبا : كنت في ذلك الوقت اصغر منك بقليل.. وكان الحي مختلفا عما ترينه الان, كان يموج بالحركة والحياة.. كان الاطفال يلعبون ويمرحون في ساحة الكنيسة, واجراسها تدق بأصواتها المميزة .. كل شيء كان مختلفا ويمتلئ بالحيوية والحياة.. كنت أعيش مع والداي في منزل اخر على مقربة من هذا البيت الذي أعيش فيه الان, وكان الأب جوستاف قس الكنيسة وراعيها يعيش هو وابنه فيها.. لست أذكر اسم الابن للاسف لكننا جميعا كنا نطلق عليه لقب " عازف الكمان " لانه برع في العزف على هذه الآلة منذ صغره .. وكثيرا ما كان يجتمع اليه الكل في ساحة الكنيسة ليستمعوا إلى الحانه الساحرة العذبة.. توقع له الجميع مستقبلا باهرا في العزف على هذه الالة ,كان الكل يحبه لبساطته وخلقه الجميل في التعامل مع الجميع ... لكنه كان شديد الاهتمام بفتاة واحدة فقط.. كانت في مثل سنك الان.. شقراء فاتنة لها وجه ملائكي وقلب مرهف تدعى ماريانا.. هام بها حبا وبادلته هي ذات المشاعر في صمت.. كانت ماريانا تعيش في ذلك المنزل الذي يقع جوار منزل آل جيلر.. كان والدها محاميا شهيرا كثير التنقل والأسفار في أرجاء البلد لكنه لم يكن انسانا طيبا فقد كان يعمل مع بعض الجماعات الخارجة على القانون وكان أهل البلدة يتحاشون الاحتكاك به.. وحين علم بقصة الحب التي تجمع ابنته بعازف الكمان حبسها في المنزل ومنعها من الخروج او زيارة الكنيسة, وكثيرا ما كان ياتي عازف الكمان ليجلس أمام منزل محبوبته ويعزف لها الالحان الساحرة.. كان الكل في الحي يعلم بقصتهما ويتمنى أن يلتئم شمل العاشقين لكن والد ماريانا لم يكن موافقا على تزويج ابنته من ابن الراهب جوستاف البسيط وحين علم بما يفعله الشاب أمام منزله ذهب للأب جوستاف وهدده باستخدام نفوذه والتسبب في ابعاد الراهب وابنه عن البلدة بأسرها إن لم يجعل ابنه يبتعد عن طريق ماريانا للأبد ولم تجد توسلات الاب جوستاف لوالد ماريانا بأن يوافق على تزويج ابنته من ابنه ..وهكذا لم يجد الاب جوستاف بدا من أن يأمر ولده بأن يبتعد تماما عن طريق ماريانا خصوصا أن والد ماريانا هدده بأن أي شيء يمكن ان يحصل للفتى إن لم يبتعد عن ماريانا ..لم يوافق عازف الكمان على هذا الامر في البداية لكنه اضطر ان يرضخ في النهاية على مضض خوفا وإشفاقا على أبيه الذي ترجاه كثيرا أن يفعل ما يطلبه منه.. لكن في أعماق الفتى كان حبه الملتهب يزيد تأججا في كل لحظة وكان هذا نفس الحال مع ماريانا .. صمتت العجوز قليلا وهي مطرقة برأسها فهتفت هيلين تستحثها على المتابعة :وماذا حصل رفعت العجوز رأسها في صمت وقالت في حزن :مرت سنة كاملة على ذلك الوضع ولم ينقص الحب الذي جمع بين قلبيهما طوال تلك المدة برغم انهما لم يلتقيا ابدا.. لكن حالة ماريانا النفسية ساءت كثيرا في تلك المدة ولم تكن تأكل تقريبا أو تكلم أحدا من اسرتها ولم تفلح كل محاولات والدها في جعلها تنسى ذلك الشاب فقرر أن يزوجها من قريب لها .. هتفت هيلين في حسرة :وتزوجت أومات العجوز برأسها في صمت وتابعت :تزوجت ماريانا أحد أقربائها وسافرت معه لبلدة أخرى وكان هذا صدمة عنيفة لعازف الكمان.. تصور أن حبيبته غدرت به ولم يستطع ان يصدق انها قبلت ان تتزوج أحدا سواه.. لكن الحقيقة اتضحت بعد ذلك وعرف أحد أصدقاء والدي - الذي كان قريبا لوالدة ماريانا - أن والدها أجبرها على الزواج وهددها ان رفضت بأنه سيسبب الكثير من الأذى لذلك الفتى وقد يصل الامر الى حد قتله.. ولم تحتمل ماريانا ان يصاب حبيبها بسوء فوافقت خوفا على حياته .. تساءلت هيلين في أسف :وهل عرف عازف الكمان هذا غمغمت العجوز :نعم عرف ذلك بعد مضي سنة على زواج ماريانا لكن هذا زاده ألما وعذابا واصبح يرى طوال الوقت شاحبا حزينا ليس له صديق يجلس اليه او يكلمه الا ذلك الكمان الذي كان لا يفارقه والذي كان يعزف عليه أنغاما ساحرة وهو يجلس أمام منزل محبوبته .. غمغمت هيلين في أسى :يالها من قصة حزينة تنهدت العجوز وقالت في حزن :لم تنتهي القصة بعد يا ابنتي ... صاحت هيلين في دهشة :حقا
  7. الجزء الاول تسللت نسمات رقيقة حانية في تلك الليلة من ليالي الصيف الحارة.. وبددت بحركتها قليلا من الحر السائد منذ أيام عديدة .. وفي غرفتها الصغيرة كانت هيلين مستلقية فوق سريرها الصغير وهبات النسيم الرقيقة تتسلل من نافذة الشرفة الملحقة بغرفتها وتتخلل خصلات شعرها الأشقر الناعم وتعبث بالستارة الوردية الرقيقة المثبتة على باب الشرفة الذي فتحته لتسمح للنسيم بالمرور.. كان الجو حارا قليلا ويغري بالاسترخاء مما جعل هيلين تغمض عينيها في تراخ وتسمح لجسدها بأن يتمتع بالراحة بعد يومها الذي كان شاقا .. وفجأة تناهت إلى مسامعها أنغام رقيقة للغاية تقطر حزنا وعذوبة تأتي من الخارج .. اعتدلت هيلين في جلستها وأصاخت السمع أكثر كي تتأكد أن ما تسمعه ليس وهما .. بالفعل أنها نغمات رقيقة جدا تأتي من جهة شرفتها وتتسلل في رفق وحنان إلى داخل غرفتها بل الى أذنيها وكيانها كله.. نغمات حزينة شعرت أنها تتغلغل إلى أعمق أعماق روحها فتحرك فيها عشرات المشاعر والأفكار .. وتسمرت هيلين في مكانها تماما وهي منسجمة مع النغمات الحزينة لذلك اللحن الساحر وشعرت بكيانها كله يسبح بعيدا جدا وكأنه اصبح في مجرة أخرى من الكون .. ثم توقف اللحن فجأة وانتفضت هيلين مع انقطاعه المباغت وكأنها تستيقظ من حلم.. وشعرت بلهفة بالغة لمعرفة من اين جاء هذا اللحن الحزين, فقفزت من فراشها في خفة ودست قدميها الرقيقتين في الخف الموضوع اسفل الفراش وأسرعت الى الشرفة تزيح الستارة الرقيقة وتحاول أن تستشف مصدر هذه الموسيقى العذبة .. ولوهلة.. خيل إليها ان ذلك الشارع الهادىء الذي تطل عليه شرفتها خال تماما لكنها بعد أن أمعنت النظر استطاعت أن تراه جالسا هناك .. كان فتىً وسيما له ملامح جميلة وتقاطيع نبيلة كأنها لاحد فرسان العصور الوسطى بشعره الأسود الفاحم وعيناه السوداوان اللتان تنافسان سواد شعره .. أما أغرب مافي هيئته فكان ثيابه .. كانت ثيابه من لون واحد هو الاسود فقط.. حتى ربطة العنق التي يرتديها كانت سوداء وحذاءه ذا لون أسود أيضا واشترك كل هذا مع هيئته ليضفي عليه هالة غامضة وجذابة في نفس الوقت .. وكان يمسك في يده بكمان صغير قدرت هيلين أنه مصدر تلك الالحان الحزينة .. كان القمر مكتملا في تلك الليلة مما جعل الرؤية واضحة تماما لعيني هيلين.. وكان ضوء القمر يسقط على ذلك الشاب فيكسبه هالة ساحرة من الغموض والروعة في مزيج لا يوصف .. لم يكن الشاب ينظر لها على الإطلاق بل كان جالسا على مقعد عتيق عريض يستقر هناك في جانب الشارع .. وكان يمسك في يده بذلك الكمان الصغير وينظر إلى ناحية المنزل المجاور لمنزل هيلين.. كان الشاب يبدو وكأنه لا يشعر بأي شيء حوله وهو يرنو ببصره لذلك المنزل الذي يبدو مظلما تماما ولا حياة فيه.. مرت ثوان وهو في هذا الوضع وخيل لهيلين وكأن الهواء ذاته قد توقف في هذه الثوان.. ثم نهض الشاب من جلسته وبدأ يتحرك في هدوء وبطء ليقطع الشارع ويتوارى في الظلام الذي بدد القمر المكتمل الكثير من عتمته .. ولدقائق لم تدر عددها ظلت هيلين في مكانها مسمرة غير مصدقة لهذا المنظر العجيب الذي رأته قبل قليل .. ثم انتفضت فجأة وكأنها تستفيق من حلم لذيذ وسرت في جسدها قشعريرة خفيفة وهي ترنوا ببصرها محاولة اختراق حجب الظلام .. لم يكن هناك سوى الصمت وضوء القمر الذي يفترش أرضية الشارع الذي كان ساكنا خاليا.. ولم تجد هيلين بدا من العودة لغرفتها وهي تتساءل في حيرة عن كنه هذا الشاب الغامض صاحب الكمان وعن الذي يفعله في هذا الوقت وفي هذا المكان بالذات لم تستطع النوم بسهولة وهي تفكر في ذلك المشهد وتستعيد تلك الانغام الساحرة التي أخذتها لعالم اخر تماما .. ترى من يكون هذا الشاب وما الذي يبحث عنه في المنزل المقابل كانت هيلين وأسرتها الصغيرة المكونة منها ومن والدها بعد رحيل والدتها منذ سنوات قد أنتقلوا للعيش في هذه البلدة بسبب ظروف عمل والدها التي جعلته يسافر مع ابنته الوحيدة ويستأجرا هذا المنزل منذ أيام معدودة .. بالتالي لم تكن تعرف الكثير بعد عن المنطقة والحي الذي تقطن فيه لكنها كانت تعلم على الاقل ان ذلك المنزل المجاور مهجور تماما ولا يسكن فيه أحد ..كان ذلك ظاهرا لاي شخص ينظر الى المنزل من الخارج ويلاحظ الابواب الموصدة والنوافذ التي لا ينبعث منها أي ضوء في الليل .. وبعد أن تقلبت كثيرا في فراشها قررت ان تنسى الأمر ولو مؤقتا وان تحاول ان سنحت الفرصة ان تعرف أكثر عن ذلك المنزل الغامض لعلها بالتالي تعرف ما قصة هذا الشاب .. كان اليوم التالي عاديا وانشغلت هيلين في تجهيز العديد من الامور في المنزل ومساعدة والدها في ترتيب بعض الاشياء واللوازم الضرورية وقد استغرق هذا النهار بأكمله مما جعلها تنسى حكاية ذلك العازف لبعض الوقت .. وحين أقبل الليل وهي في غرفتها عادت تفكر في أحداث الليلة السابقة وتتساءل في سرها هل سيظهر ذلك الشاب مرة أخرى وفي هذه المرة لم تستطع ان تمكث في غرفتها فغادرتها إلى الشرفة الصغيرة وجلست على كرسي صغير موضوع هناك وهي ترنو ببصرها هنا وهناك وكأنها تبحث عن ذلك الشاب الغامض .. كان ذلك الشارع الذي تظل عليه غرفتها عريضا إلى حد ما يحده من جانبه الأيسر منزل هيلين وذلك المنزل المهجور وبيت اخر صغير يقع في اقصى طرف الشارع وفي الوسط هناك كنيسة قديمة لها ساحة عريضة تبدو مهجورة أيضا.. ومن الجانب الأيمن يطل الشارع على مجرى لنهر صغير يمتد لمسافة طويلة ويفصله عن الشارع سور حديدي قديم نوعا ما.. وارض الشارع نفسها مرصوفة بحجارة رمادية عريضة تعطيه مظهرا جميلا برغم قدمها ..وهناك جهة الكرسي الذي جلس عليه العازف توجد سنديانة عتيقة يستند ظهر الكرسي على جذعها القديم .. كانت هيلين تتأمل كل هذه التفاصيل بينما ضوء القمر يفترش الأرض أمامها ويلامس سطح النهر فتتألق قطراته بضوء فضي هادىء يبعث النشوة في النفس .. وغرقت هيلين تماما في تأملاتها ولم تفق منها الا حين لمحت خيال ذلك العازف وهو يدنو ببطء من ذلك الكرسي.. والغريب ان خطواته لم يكن لها صوت مسموع ولولا دخوله في مجال رؤيتها لما عرفت بقدومه .. وفي هدوء شديد اتخذ ذلك الشاب مجلسه.. كان يرتدي نفس الملابس السابقة والكمان الصغير بين يديه وعيناه في إتجاه ذلك المنزل المهجور .. وحبست هيلين أنفاسها وهي تراقب هذا المشهد في فضول وافتتان بدون ان تبدر عنها أدنى حركة.. وبعد لحظات قصيرة رفع ذلك الشاب الكمان إلى كتفه وبدأ يعزف عليه دون أن تفارق عيناه ذلك المنزل .. وانطلقت الالحان العذبة الساحرة وشعرت هيلين بأنه لم يعد لها وجود مادي وهي تحلق في عوالم أخرى خيالية وتشعر انها تكاد تمتزج بذرات الكون ذاتها لتشاركها رقصتها الأبدية .. لم تدر كيف ولا متى توقفت الالحان إلا حين شعرت بذلك الصمت يطبق على كل شيء وكأنما يشعر الهواء ذاته بالاعجاب تجاه تلك الالحان حتى انه توقف وتجمد تماما .. ولم تشعر هيلين بنفسها الا وهي تصفق بكفيها في حرارة واعجاب بذلك العزف الفريد الذي سمعته.. ثم توقفت فجأة وقد خيل اليها ان الشاب سينتبه إليها مع سماع صوت تصفيقها ووضعت يدها على فمها في ترقب وهي تتابعه ببصرها منتظرة ردة فعله .. لكن العجيب أن الفتى لم يبد وكأنه سمع شيئا وهو لا يزال في مكانه بنفس وضعيته السابقة ينظر في هدوء إلى ذلك المنزل .. ثم - بنفس الهدوء - نهض من جلسته واستدار منصرفا ومبتعدا عن مجال نظر هيلين .. ولم تنبس بحرف وهي تتابعه ببصرها في اهتمام والظلام يبتلعه .. ويبتلعه .. لم تغير من جلستها هناك لاكثر من ساعة كاملة وهي تفكر في هذا كله .. ما هذا الذي يحدث أمامها من هذا الشاب ومن اين جاء ولماذا يجيء الى هذا المكان بالتحديد هل هو يأتي كل ليلة ويفعل نفس الشيء .. مستحيل والا كانت شعرت به من قبل وهم في هذا المنزل منذ أربعة أيام تقريبا .. ما السر الذي يخبئه خلف مظهره الغامض وعزفه الساحر ثم ما قصة ذلك المنزل الذي يجلس في مقابله ولا يرفع بصره عنه شعرت هيلين أن عقلها يكاد ينفجر من شدة التفكير .. واكتنفها إرهاق شديد جراء جهد النهار فقررت ان تخلد للنوم وهي عازمة على أن تفعل المستحيل لتعرف سر هذا الشابا الكاتبة:درازية
  8. مشكورة حبيبتي على الرد احارس البنت بعد تكتب التكملة
×
×
  • Create New...