Jump to content
منتدى البحرين اليوم

][][§¤°^°¤§][ أنت لي ][§¤°^°¤§][][


Recommended Posts

الحلقه الثلاثون

 

و جلس سامر إلى جانبي الآخر ، و رغد إلى جانب دانة ...

 

 

قال :

 

 

" فيم كنتما تتحدثان ؟؟ "

 

قالت دانة :

 

" فيكما أنت و رغد ! كنت أخبر وليد أنكما حتى الآن لم تتخذا قرارا نهائياحاسما بشأن موعد الزفاف ! "

 

 

سامر ابتسم و قال :

 

 

" أنا جاهر و في انتظار أوامر العروس ! "

 

 

العروس هي رغد ! و رغد هي صغيرتي الحبيبة ... التي كنت أحلم بالزواج منها ذات يوم ... ثم فقدتها للأبد ... فهل لكم أن تتخيلوا حالي هذه اللحظة ؟؟

 

 

 

قالت دانة :

 

" هيا يا رغد ! قولي نعم و دعينا نحتفل سوية ! "

 

ثم غيرت النبرة و قالت مداعبة :

 

" و لكن كوني واثقة من أنني سأكون الأجمل بالتأكيد ! "

 

 

أذناي طارتا نحوها ، حتى كادتا تلتصقان بشفتيها أو حتى تخترقان أفكارها لأعلم ما ستقوله قبل أن تقوله ... تكلمي رغد ؟؟

 

 

رغد ظلت صامتة ... و أنا أذناي تترقبان بصبر نافذ ... هيا يا رغد قولي أي شيء ... ارمني بسهام الموت واحدا بعد الآخر ...

 

اطعنيني بخناجر الغدر و حطمي قفصي الصدري و مزقي الخافق الذي ما فتئ يحبك مذ ضمك إليه طفلة يتيمة وحيدة ... توهم أنها خلقت من أجله فجاءت قذائفك تدمر قلعة الوهم التي بنيتها و عشت بداخلها 15 عاما ... أو يزيد ...

 

 

و أقسم ... أقسم أنك لو تزوجت مع شقيقتي في نفس الليلة ، فإني سأتخلى عنها و أخذلها و أدفن نفسي بعمق آلاف الأميال تحت الأرض ، لئلا أحضر أو أشارك أو أبارك ليلة تزفين فيها إلى غيري ... مهما كان ...

 

 

 

 

بعد كل هذه المشاعر التي تصارعت في داخلي في ارتقاب كلمتها التالية ... و أذاني تصغيان باهتمام و تركيز شديد أكاد معه أسمع دبيب النمل ...

 

بعد كل هذا ... جاءني السهم المباغت التالي :

 

 

" وليد ... ما رأيك ؟؟ "

 

 

أنى لي أن أصف ما أود وصفه و أنا بحال كهذه ؟؟

 

 

تسألينني أنا عن رأيي ؟؟ رأيي في ماذا ؟؟

 

في أن تتزوجي شقيقي اليوم أو غدا أو بعد قرن ؟؟

 

في أن تذبحيني اليوم أو غدا ... أو بعد قرن ؟؟

 

أتشهد أيها البحر ؟؟

ألا يا ليتك تبتلعني هذه اللحظة ... فأمواجك العاتية ستكون أكثر لطفا و رحمة بحال رجل تسأله حبيبة قلبه : ما رأيك بموعد زفافي !

 

 

 

تحركت يداي إلى علبة السجائر الموضوعة على الأريكة الجالسة خلفي ، و تناولت واحدة و أشعلتها في محاولة مستميتة للفرار من جملة رغد ، التي كنت قبل ثواني أتوق لسماعها و أرسل أذنيّ نحو لسانها لالتقاط الجملة بسرعة فور خروجها ...

 

 

بدت اللحظة التالية كالساعة بل كالقرن في طولها ..

 

سحبت نفسا عابقا بالدخان المنبعث من السيجارة المضغوطة بين شفتي ...

 

و أطلقت زفرة قوية ... حسبت معها أن روحي قد انطلقت ، و الدخان قد لوث الكرة الأرضية بكاملها ...

 

 

قلت ... بعدما عثر لساني على بضع كلمات مرمية على جانبية :

 

 

" الأمر عائد إليكما "

 

 

و وقفت ...

 

 

و قلت :

 

 

" معذرة ... سأدخن في مكان آخر "

 

 

 

و انصرفت عنهم ...

 

 

سرت مبتعدا ، و وقفت موليا إياهم ظهري ... انفث السموم من و إلى صدري و أقاوم آلام قلبي و معدتي ... و أحترق .

 

 

 

 

 

بعد فترة ، انتهت رحلتنا و آن أوان العودة إلى البيت ...

 

 

لم أكن أريد أن أركب سيارة سامر ... فقربه و قربها مني يعني مزيدا من الألم و الاحتراق ، لكنني حين رأيت دانة تركب سيارة والدي ، و رغد تقف عند سيارة سامر ... توجهت تلقائيا و جلست على المقعد الأمامي ، لأمنعها من الجلوس عليه !

 

 

مشوار العودة كان طويلا مملا ... فقد التزمنا الصمت ... و رغد نامت !

 

 

 

" وصلنا عزيزتي ! "

قال سامر ذلك و هو يلتفت إلى الوراء ، ليوقظ رغد ...

 

كنا قد وصلنا قبل الآخرين ...

 

فتحت أنا الباب و هبطت من السيارة ، و رأيت رغد تستفيق ...

 

ذهبت إلى مؤخرة السيارة أفرغ حقيبتها من حاجيات الرحلة ، ثم أحملها إلى داخل المنزل ...

 

 

و أقبل سامر يساعدني ، و حين وصلت إلى الباب ، جاءت رغد بمفتاح سامر و فتحته لي ... و انطلقت مسرعة نحو الباب الداخلي تفتحه على مصراعيه لأدخل بما تحمل يداي ، و أتجه نحو المطبخ ...

 

وضعت الأشياء في المطبخ و استدرت راغبا في العودة لجلب البقية ... رغد واقفة عند باب المطبخ تراقبني ...

 

 

 

حين مررت منها ...

 

 

" وليد "

 

 

وقفت ... و عاودني الشعور بالألم في معدتي فجأة ... يكفي أن أسمعها تنطق باسمي حتى تتهيج كل أوجاعي ...

 

 

لم أرد ، و لكنني توقفت عن السير منتظرا سماع ما تود قوله ...

 

" وليد "

 

عادت تناديني ... تعصرني ...

 

" نعم ؟؟ "

 

قالت :

 

" ألم يعد يهمك أمري ؟؟ "

 

فوجئت بسؤالها هذا فالفت إليها مندهشا ...

 

كانت عيناها حمراوين ربما من أثر النوم ... و لكن القلق باد عليهما ...

 

" لم تقولين ذلك !؟ "

 

قالت :

 

" لم لم تبد رأيك بشأن زواجي ؟؟ "

 

تصاعدت الدماء المحترقة إلى شرايين وجهي و ربما إلى حلقي لكنني ابتلعتها عنوة

 

 

قلت :

 

" إنه أمر يخصكما وحدكما ... و لا شأن لي به "

 

 

رغد هزت رأسها اعتراضا ثم قالت :

 

" لكن وليد ... أنا ... "

 

 

و لم تتم الجملة ، إذ أن أخي سامر أقبل يحمل بعض الأغراض ، فسرت أنا خارجا لجلب المتبقي منها ...

 

 

 

 

فيما بعد ، و سامر يحمل بطانية و وسادة قاصدا الذهاب للنوم في غرفة الضيوف و تركي أنام في غرفته ، كما أصر ... و قبل أن يخرج من الغرفة توقف و قال :

 

 

" وليد ... هل لي بسؤال ؟ "

 

" تفضل ؟؟ "

 

تأملني لحظة ثم قال :

 

"وليد ... لماذا ... قتلت عمّار ؟؟ "

 

ذهبت مباشرة إلى غرفتي ، قبل أن تحضر أمي و دانه ثم تطلبان مني مساعدتهما في الغسل و التنظيف ...

 

 

فأعمال المنزل هي آخر آخر شيء أفكر بالقيام به في هذه الساعة ، و هذه الحال

 

يكاد قلبي ينفطر أسى ... لحقيقة مرة أتجرعها رغما عني

 

وليد لم يعد يهتم لأمري ... و لم أعد أعني له ما كنت و أنا طفلة صغيرة ...

 

 

ربما ظن الجميع أنني أويت لفراشي و نمت ... فعادتي أن أنام مبكرة ، ألا أنني قضيت ساعات طويلة في التفكير و الحزن ... و الألم و الدموع أيضا

 

لماذا يعاملني وليد بكل هذا الجفاء و يبتعد كلما اقتربت ؟؟

 

و دليل آخر ... تكرر صباح اليوم التالي ...

 

 

فقد نهضت متأخرة ... و وجدت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون حول أمور شتى ...

 

 

دخلت الغرفة فتوقف الجميع عن الحديث ، و ألقيت تحية الصباح ... ثم خطوت باتجاه أحد المقاعد راغبة في مشاركتهم أحاديثهم ...

 

 

و الذي حدث هو أن وليد نهض ، و هم بالمغادرة ...

 

شعرت بألم حاد في صدري ...

 

قلت :

 

" كلا ... ابق حيث أنت ... أنا عائدة إلى غرفتي ... اعتذر على إزعاجكم "

 

و استدرت بسرعة مماثلة للسرعة التي بها انهمرت دموعي ...

و غادرت المكان ...

 

 

 

ذهبت إلى غرفتي و سبحت في بحر دموعي ...

 

وافتني أمي بعد قليل و رأتني على هذه الحال

 

 

 

" رغد يا عزيزتي ... لا تأخذي الأمر بهذه الحساسية ! إنه لا يقصد شيئا ... لكنه الحياء ! "

 

 

انفجرت و تفوهت بجمل لم أفكر فيها إلا بعد خروجها ، من شدة تأثري ...

 

قلت :

 

" إذا كان وجودي في هذا البيت يزعجه فأنا سأرحل إلى بيت خالتي ... ليأخذ حريته التامة في التجول حيثما يريد "

 

 

أمي صدمت بما قلت ، و حملقت بي باندهاش ...

 

" رغد ! كيف تقولين ذلك ؟؟ "

 

 

" إنه يتعمد تجاهلي و تحاشي ّ ... كأنني فتاة غريبة و موبوءة ... أ لهذا الحد لم يعد يطيقني ؟ ألم أعد أعني له شيئا ؟؟ ألم يكن يعني لي كل شيء في الماضي ؟؟ "

 

 

و سكت ، التقط بعض الأنفاس و أمسح الدموع بكومة من المناديل متكدسة في يدي ... كنت أبكي بانفعال ...

 

والدتي قالت فجأة :

 

" و الآن ؟؟ "

 

 

نقلت بصري من كومة المناديل المبللة في يدي ، إلى عيني أمي و نظراتها المقلقة ...

 

و الآن ؟؟

 

 

أعتقد أن أمي كانت تلمح إلى شيء ، لم تجرؤ على التصريح به ... و إن قرأت بعض معالمه في عينيها ...

 

 

إنها نفس النظرة التي رمقتني بها تلك الليلة ، ليلة رحيل وليد السابق ، قبل أذان الفجر ...

 

 

و خفت ... من الحقيقة التي لا أريد أن أكتشفها أو يكتشفها أي كان ... حقيقة الشعور بالحرارة التي تتأجج داخلي كلما كان وليد على مقربة ..

 

 

 

 

 

 

في ذات اليوم ، أصررت على الذهاب إلى بيت خالتي و تناول الغذاء مع عائلتها

 

كنت أريد أن أبتعد مسافة تسمح لي بالهدوء ، فنبضاتي لا يمكن أن تهدأ و وليد في مكان قريب ...

 

 

 

هناك فوجئت بأمر آخر !

 

 

خالتي انفردت بي لبعض الوقت في إحدى الغرف و بدون أية مقدمات سألتني :

 

" هل صحيح أنك ... أنك لا ترغبين في الزواج من ابن عمك سامر ؟؟ "

 

دهشت و هالني ما سمعت ... قلت بذهول :

 

" أنا ؟ من ... قال ذلك ؟؟ "

 

 

خالتي كانت تحدثني بجدية و قلق واضحين ...

 

قالت :

 

" لقد سمعَتْك سارة تخبرين نهلة بهذا ذات مرة ... و ذكرت الأمر على مسمع مني و من حسام ... و من حينها و هو و أنا معه في جنون ! "

 

 

 

لم أع ِ الأمر بالسرعة المفروضة ، بل بقيت أحملق بدهشة و بلاهة في عيني خالتي ... و ربما هي فسرت صمتي موافقة على ما تقول ...

 

 

" رغد ... أخبريني بكل شيء ... فإن لم تكوني ترغبين في الزواج من ذلك المشوه فثقي بأنني لن أسمح لهذا الزواج بأن يتم أبدا "

 

 

فيما بعد ، كنت أجلس مع نهلة في غرفتها دون وجود سارة ـ لوحدنا أخيرا !

 

 

قلت :

 

" و تقولين أنها لا تعي شيئا ؟ إنها أخطر مما ظننت ! يا لجرأتها ... كيف تخبر خالتي و حسام بأمر كهذا !؟ هل أنا قلت ذلك ؟؟ "

 

 

نهلة تنهدت و قالت :

 

" هذا ما ترجمه دماغها الصغير ! لقد قلت أنك لا تريدين الزواج الآن ! أخضعتني أمي لاستجواب مكثف ، و أخي حقق معي مطولا بسبب هذا الأمر ! "

 

" يا إلهي ! "

 

 

ابتسمت نهلة ابتسامة سخرية ماكرة ، ثم وقفت فجأة و نفخت صدرها هواء ً ، و رفعت كتفيها عاليا ، و قطبت حاجبيها و عبست بشكل غريب مرعب و قالت بنبرة خشنة ـ تقلد حسام :

 

 

" أمي يجب أن تتأكدي من الأمر لأنني إن اكتشفت أنهم أرغموها على هذا الزواج أو استقلوا كونها يتيمة و صغيرة و ضعيفة ، فأقسم بأنني سأشوه النصف الآخر من وجه ذلك اللئيم الماكر "

 

 

 

قفزت أنا واقفة بغضب ...

 

" نهلة ! "

 

ألا أنها تابعت تمثيل المشهد :

 

 

" قلت لك يا أمي ... تدخلي و امنعي هذا الارتباط منذ البداية ... أترين أن فتاة في الرابعة عشر هي مدركة بالقدر الكافي لتحديد مصيرها في أمر كهذا ؟؟ كيف تجرءوا على فعل هذا كيف ؟؟ كيف ؟؟ ويل لذاك المشوه مني "

 

 

" يكفي نهلة ... "

 

 

قلت بعصبية ، فعادت نهلة إلى شخصيتها الطبيعية ، و قالت :

 

" هذا ما كان يحصل كل يوم ! تعرفين أن حسام يبغض خطيبك من ذلك الحين ! "

 

 

قلت :

 

" لا أقبل أن ينعته أحد بالمشوه ... و تشوه وجهه ليس شيئا يستحق أن يعير عليه"

 

 

 

نهلة جلست على السرير ، و قالت :

 

" ليس بسبب التشوه هو ناقم منه ! تعرفين ! إنه بسببك أنت ! لازال مولعا بك ! "

 

 

انزعجت من هذا ... فقد كنت أظن أن الأمر قد انتهى ... لكن ...

 

 

" أرجوك نهلة لنغير الموضوع ... لقد أكدتُ لوالدتك أن سارة فهمت خطأ ... و إن بدا عليها عدم الاقتناع ... لكن لندع الأمر ينتهي الآن ... "

 

 

و أتيت و جلست قربها ... ثم اضطجعتُ مسترخية على السرير ...

 

 

" إذن ... ماذا قررت ؟ مع دانه أم بعدها ؟؟ "

 

 

تنهدت بانزعاج من الموضوع برمته ... قلت :

Link to comment
Share on other sites

  • Replies 83
  • Created
  • Last Reply

Top Posters In This Topic

الحلقة الواحد والثلاثون

 

" لم أقرر يا نهلة ... لماذا يطاردني الجميع بهذا السؤال ؟؟ "

 

 

نهلة أمسكت بيدي اليمنى و أخذت تحرك خاتم الخطوبة حول إصبعي البنصر و تقول :

 

" لأن هذا الخاتم سئم البقاء حول هذا الإصبع ! إنها أربع سنوات يا رغد ! "

 

 

قلت :

 

" لكنني لا أزال صغيرة ! ألا ترين ذلك ؟؟ أريد أن أتخرج من الجامعة أولا.. و أريد أن ... تتغير علاقتي بسامر فأنا لا أشعر بشيء مميز تجاهه "

 

 

كنت أنظر إلى السقف ، و لكن رأس ابنة خالتي ظهر أمامي فجأة ... و أجبرني على النظر إلى عينيها ...

 

 

قالت :

 

" تقصدين لا تحبينه ... "

 

 

و كان تقريرا إجباريا لا سؤالا ...

 

التفت يمينا فأمسكت هي بوجهي و أعادته حيث كان و أجبرتني على النظر إلى عينيها الناطقتين بالحق ...

 

" لا تهربي رغد ! أنت لا تحبينه ! "

 

 

استسلمت ... و غضضت بصري ... أتحاشى تلك النظرة الثاقبة الفاهمة ...

 

نهلة هي أكثر شخص يفهمني و أبوح إليه بأسراري و كل ما يختلج مشاعري ...

 

 

 

نهلة مسحت على رأسي بعطف و قالت :

 

" رغد ... لا تتزوجيه إذا لم تكوني ترغبين في ذلك ... إنه كالأخ بالنسبة إليك ! أبقيه أخا فأنت بحاجة إليه كأخ لا كزوج ! "

 

 

" نهلة ! ... "

 

 

و ضربت أنفي بإصبعها ضربة خفيفة و هي تقول :

 

" أليس كذلك ؟؟ "

 

 

 

عدت أحدق بها ... في حيرة من أمري ...

 

قلت :

 

" من أتزوج إذن ؟؟ "

 

 

هي ابتسمت و قالت بمكر :

 

 

" أخي حسام ! "

 

 

رفعت رأسي و صدمت جبينها بجبيني عمدا ثم جلست و أخذت هي تمثل دور المتألمة !

 

" آه ... رأسي ! كسر في الجمجمة ! انجدوني ! "

 

 

 

قلت بنفاذ صبر :

 

" قلت لك ! لا تتوبين !"

 

قالت و قد بدت عليها الجدية الآن :

 

" صدقيني يا رغد ... إنه مهووس بك ! "

 

قلت :

 

" و الآخر كذلك ! لم تظنينه يلح علي بالزواج ؟ إما أن نتزوج أو يفتش عن وظيفة أخرى تبقيه قربي ! "

 

 

قالت ، تنظر إلي بعين شبه مغمضة و حاجبيها مرفوعين أقصاهما :

 

" من مثلك ! عاشقان في وقت واحد ! يا للحظ ! كم أنا مسكينة ! "

 

 

" قلت لك لا تتوبين ! أوه نهلة ! لسوف أطلب من خالتي التفتيش عن عريس لك حتى أتخلص منك كما تخلصت من دانه ! "

 

 

ضحكت نهلة و قالت :

 

" سأتزوج من شقيق زوجك حتى آتي للعيش معك ! لن تتخلصي مني ! "

 

 

و استمرت في الضحك ...

 

 

الجملة أثارتني كثيرا ... غضبت و قلت بانفعال لا يتناسب و دعابتها العفوية :

 

" قلت لك دعي وليد و شأنه ... لا تأتي بذكر هذا ثانية أ فهمت ِ ؟؟ "

 

 

 

نهلة ابتلعت ضحكتها و نظرت إلي بشيء من التعجب و الحيرة ...

 

" ما الأمر رغد ! كنت أمزح ... لم انفعلت هكذا ؟؟ "

 

 

خجلت من نفسي فأنا لا أعرف لم انفعلت بهذا الشكل بينما هي تمزح ليس إلا ...

 

بل ، و حتى لو كان كلامها غير مزاح ... لم علي الانفعال هكذا ؟؟

 

 

اعتقد أن وجهي تورد ... فنظرات نهلة توحي بأنها تلحظ شيئا غريبا على وجهي ...

 

التفت نحو اليسار أخفي شيئا مما قد يكون ظاهرا على وجهي دون أن أملك القدرة على مواراته لكن توتري كان أوضح و أفصح من أن يغيب عن ذهن نهلة ... التي تعرفني عز المعرفة ...

 

 

 

" رغد ... ماذا دهاك ؟؟ "

 

" أنا ؟ لا شيء ... لا شيء "

 

 

 

و الآن استدرت كليا ، و أوليتها ظهري ... بل و سرت نحو المجلة الموضوعة على المنضدة قرب سرير نهلة ... متظاهرة بالبرود ...

 

 

قالت تحاصرني :

 

" وليد غائب الآن ؟؟ "

 

قلت :

 

" لا ... عاد إلينا منذ يوم أمس الأول ... "

 

 

و أمسكت بالمجلة ، و جلست على السرير ، و أخذت أقلب صفحاتها و ألْهي نفسي بالتفرج على الأزياء و المساحيق و العطور ... و حتى الأخبار السياسية و الرياضية ... و صور اللاعبين !

 

" أوف ! "

 

أغلقت المجلة بسرعة ، بعد أن وقعت عيناي على صورة نوّار يبتسم !

 

يا إلهي ! كم أنفر من هذا الشخص ! رغم أنه محبوب من قبل الكثيرين و الكثيرات !

 

 

" ماذا دهاك ؟؟ "

 

" إنه ذلك المغرور ! من أمنيات حياتي ... أن أتصفح مجلة ذات يوم ثم لا أجد صورة له فيها ! يا له من شخص بغيض ! أتساءل ما الذي يجذب هؤلاء البشر إليه ؟؟ دانه المسكينة ! "

 

" و لم مسكينة ..؟ ألست تقولين أنها تحبه ؟؟ "

 

" كثيرا ! إنه سيعود الليلة من رحلته و ستقيم الدنيا و تقعدها من أجله ! لابد أنها الآن تعد أطباق العشاء و الكعك من أجله ! الحمد لله إنني لست معها في المطبخ هذه الساعة ! "

 

 

و ضحكنا بمرح ...

 

ثم قالت :

 

" و خطيبك سيرحل اليوم ؟ "

 

" نعم ... خلال ساعتين "

 

" إذا ... ألا يجدر بك أن تكوني معه الآن ؟؟ "

 

 

 

وقفت ... و سرت في الغرفة بضع خطوات حائرة ... فقد خرجت من منزلي منذ الصباح ، و هاهي الساعة تتجاوز الثالثة ظهرا ... و لابد أن سامر ينتظر عودتي الآن ...

 

 

قلت :

 

" إنه مع وليد ... الكل محتفٍ بعودته و مشغول به ! من سيذكرني هذه اللحظة ؟؟ "

 

قالت :

 

" هل سيرحل وليد عاجلا ؟ "

 

" لا .. على ما أظن و أتمنى "

 

" تتمنين ؟؟ "

 

 

 

وقعت في شركي ! قلت محاولة التصحيح و التعديل :

 

" أقصد نتمنى جميعا ... فلا أحد يود رحيله و والداي سيحزنان كثيرا جدا كالمرة السابقة و التي سبقتها إن رحل ... أتمنى أن يستقر هنا و يريح الجميع "

 

 

ربما كان الحمرة تعلو وجهي هذه المرة أيضا ...

 

و الآن ... إي شيء أشغل يدي به تغطية على اضطرابي هذا ؟ ألا يوجد في الغرفة مجلة أخرى ...؟؟

 

وقع بصري على مجموعة زجاجات العطر أمام مرآة الغرفة ، فذهبت أليها أشمها واحدة تلو الأخرى ...

 

 

أقبلت نهلة و وقفت إلى جانبي ...

 

 

قالت :

 

" ربما لديه ارتباطات هامة هناك ! عمل ... منزل ... عائلة ... زوجة ! "

 

 

 

استدرت إليها و قد اكفهر وجهي ... و قلت بسرعة :

 

" إنه غير متزوج "

 

" أحقا ؟؟ "

 

 

كانت نظراتها تشكيكية مخيفة ! قلت :

 

" طبعا ! و هل تظنين أنه سيتزوج دون إبلاغنا ! مستحيل ! ما يبقيه هناك هو العمل ... ليته يجد فرصة للعمل هنا و يستقر معنا ... "

 

 

قالت :

 

" لتضمنوا عدم رحيله ... زوجوه ! "

 

 

و أضافت و هي تبتسم بمكر :

 

" أنتم الثلاثة في ليلة واحدة ! و نتخلص منكم ! "

 

 

رفعتُ إحدى زجاجات العطر أمام وجهها بغتة و تأهبتُ لرش العطرعلى عينيها !

 

 

" أوه لا لا رغد كنت أمزح ! "

 

 

و فرّت و صرت أطاردها حتى جلسنا على السرير نضحك بشدة !

 

 

بعد قليل ... قلت :

 

" علي العودة للبيت ! سامر ينتظر اتصالي ! "

 

و قمت ، متوجهة إلى الهاتف الموضوع على مكتب نهلة ...

 

و اتصلت بالمنزل ... و إذا بالدماء تتصاعد من جديد و بغزارة إلى وجهي ... و نهلة تقترب مني و تراقبني ...

 

 

" وليد ؟ إنها أنا "

 

" ( مرحبا ... رغد ) "

 

" إمم .. أود التحدث إلى سامر "

 

" ( سامر ... أظنه يستحم الآن ! هل تريدين شيئا ؟ ) "

 

" أأأ ... أريد أن يأتي إلي ّ ... هل لا أبلغته بأنني أنتظره ؟ "

 

" ( حسنا ) "

 

" شكرا "

 

" العفو ... صغيرتي "

 

 

 

و أغلقت السماعة بصعوبة ... فقد كانت يدي ترتجف !

 

و بدأت أتنفس بعمق و أشعر بالحر ... و أيضا ... أتصبب عرقا !

 

 

نهلة وقت أمامي مباشرة تشاهد الاضطراب الذي اعتراني فجأة ... بحيرة و فضول

 

 

" رغد ... "

 

" نعم ؟؟ "

 

" لماذا تنفعلين كلما جيء بذكر وليد !؟ "

 

" أنا ؟؟ من قال ذلك !؟ "

 

 

و مدت نهلة يدها و تحسست جبيني براحتها ...

 

" إنك تغلين ! وجهك أحمر ناضج و جبينك مبلل بالعرق ! "

 

 

أربكتني كثيرا كلمات نهلة ... و حاولت التملص من نظراتها لكنها حاصرتني ...

 

 

ابتعدت عنها و ذهبت إلى حيث أضع عباءتي لأرتديها استعدادا للمغادرة !

 

 

" و لكن خطيبك لم يحضر بعد ! "

 

" سأستعد ... "

 

 

كنت أريد أن أنشغل بشيء بعيدا عن نظرات نهلة التي تخترق أعماقي ...

 

 

كنت أضبط حجابي مولية إياها ظهري ...

 

قالت :

 

" خطيبك شاب جيد يستحق فتاة رائعة مثلك ! "

 

تابعت ترتيب حجابي دون أن أعير جملتها هذه اهتماما ...

 

قالت :

 

" و أخي شاب جيد و يستحق فتاة رائعة مثلك ! "

و لم ألتفت إليها ! حتى لا أدع لها مجالا لفتح الموضوع مجددا !

 

و تابعت ارتداء عباءتي ...

 

" و وليد شاب جيد و يستحق فتاة رائعة مثلي ! "

 

 

استدرت فجأة نحو نهلة ... باضطراب و توتر و انزعاج جلي شديد ! ...

 

اصطدمت نظراتنا الحادة العميقة ... و بقينا لبضع ثوان نحملق في بعضنا البعض ...

 

نهلة أوقعت بي ...

 

إنها خبيثة !

 

كنظراتها التي ترشقني بها الآن ...

 

أتت نحوي ... و رفعت يدها و أمسكت بعباءتي و سحبتها ...

 

" رغد يا ابنة خالتي العزيزة ... لن تخرجي من هنا حتى أعرف ما حكايتك مع وليد ! "

 

 

 

 

 

 

 

بعد عشر دقائق كنت أجلس في السيارة إلى جانب سامر ...

 

" هل تحبين أن نتجول قليلا قبل العودة ؟؟ "

 

" كما تشاء "

 

قضينا قرابة الساعة نجول في شوارع المدينة ... و نتبادل الأحاديث ...

 

سامر ... و الذي لم يجد الفرصة السانحة قبل الآن لفتح الموضوع ، سرعان ما تطرق إليه ...

 

" الوقت يمضي يا رغد ... لقد بدأت أضيق ذرعا بالوحدة هناك ... لا أريد أن أخسر وظيفة ممتازة كهذه ، لكنني لا أريد أن أبقى بعيدا أطول من ذلك ... "

 

 

حرت و لم أجد تعقيبا ملائما ... و ربما صمتي أحبط سامر ... ففقد حماسه للمتابعة بعد بضع جمل ...

 

 

 

حينما وصلنا إلى المنزل ، وجدنا والدي ّ و وليد يجلسون في الفناء الخارجي ، حول الطاولة الصغيرة القريبة من الشجرة الطويلة ، بجانب الباب الداخلي ...

 

 

كان الجو جميلا ... و العصافير تغرد بحماس على أغصان الشجرة ... و الدخان يتصاعد من أقداح الشاي الموزعة على الطاولة ...

 

 

سامر كان يمسك بيدي ، ثم أطلقها و سار نحوهم بسرعة ...

 

" شاي أم وليد ! أين نصيبي ؟؟ "

 

و انضم إليهم ...

 

ألقيت نظرة على وليد فرأيته ينظر نحوي و لكن سرعان ما بدد نظراته نحو الفراغ ... لم يكن يريد النظر إلي ...

 

علي أن أنصرف قبل أن ينهض مغادرا ظانا بأنني سأنضم إليهم ...

 

 

توجهت نحو الباب و دخلت إلى الداخل ...

 

 

كنت بالفعل أتمنى أن أشاركهم ! و لكن لو فعلت ... فبالتأكيد سيغادر وليد ...

 

 

 

ما أن دخلت حتى وصلتني رائحة الكعك الشهية ! و سرت إلى المطبخ !

 

 

" دانه ! رائحة كعكتك زكية جدا ! دعيني أتذوقها ! "

 

 

" عدت ِ أخيرا ! لا يا عزيزتي ! هذه لنوّار و نوّار فقط ! "

 

 

" و هل سيأكل الكعكة كاملة ! مسكين ! كيف سيلعب إذا انفجرت معدته ؟ "

 

 

نظرت إلي ّ بانزعاج و صرخت :

 

 

" رغد ... انصرفي فورا ! "

 

 

ضحكت و خرجت ، متوجهة إلى غرفتي حيث وضعت حقيبتي و عباءتي ، و وقفت أمام المرآة أتأمل وجهي ...

 

 

لم يكن الإفلات من محاصرة نهلة سهلا ... أي حكاية لي مع وليد ؟؟؟ ما أكثر الحكايات !

 

 

أريد أن أنضم إليهم !

 

 

على الأقل ... سأراقبهم من النافذة !

 

 

و بسرعة خرجت من غرفتي قاصدة الذهاب إلى النافذة المشرفة على الفناء الأمامي ... حيث هم يجلسون ...

 

 

 

من تتوقعون صادفت في طريقي ؟؟

 

نعم وليد !

 

دخل للتو ... و حينما رآني توقف برهة ... ثم سار مغيرا طريقه ...

 

 

ربما كان يود القدوم من ناحيتي ألا أنه غير مساره و انعطف ناحية المطبخ ...

 

 

أ لهذا الحد لا يريد أن يراني أو حتى يمر من ممر أقف أنا فيه ؟؟

 

 

" وليد "

 

 

ناديته بألم ... إذ أن تصرفه هذا جرحني ...

 

 

لم يلتف إلي ، و رد ببرود :

 

 

" نعم ؟ "

 

 

تحشرج صوتي في حنجرتي ... و بصعوبة نطقت ، فجاء صوتي خفيفا ضعيفا لم أتوقع أنه سمعه ... لكنه سمعه !

 

 

" أريد أن أتحدث إليك "

 

" خيرا ؟ "

 

 

كل هذا و هو مدير ظهره إلي ... أمر ضايقني كثيرا ...

 

" وليد ... أنا أحدثك ! أنظر نحوي ! "

 

استدار وليد بتردد ، و نظر إلى عيني نظرة سريعة ثم طارت أنظاره بعيدا عني ...

Link to comment
Share on other sites

الحلقة الثانية والثلاثون

 

كم آلمني ذلك ...

 

قلت :

 

" لماذا لا تود التحدث معي ؟؟ "

 

بدا مضطربا ثم قال :

 

" تفضلي ... قولي ما عندك "

 

و تنهد بضيق ...

 

قلت بمرارة :

 

" إذا كنت لا تود الاستماع إلي ... و لم يعد يهمك أمري ... فلا داعي لقول شيء "

 

وليد التزم الصمت ...

 

ثم و بعد أن طال الصمت بنا ، استدار راغبا في الانصراف ...

 

 

أنا جن جنوني من إهماله لي بهذا الشكل ... و أسرعت نحوه و قبضت على يده و قلت بحدة و مرارة :

 

 

" انتظر ... "

 

 

وليد سحب يده و استدار نحوي بغضب ... و رأيت النار تشتعل في عينيه ... كان مرعبا جدا ...

 

 

الدموع تغلبت علي الجفون ... و تحررت من قيودها و شقت طريقها بإصرار و شموخ على الخدين ...

 

وليد توتّر ... و تلفت يمنة و يسرة ... ثم قال :

 

" لماذا تبكين الآن ؟؟ "

 

 

قلت بعدما أغمضت عيني أعصر دموعها ... ثم فتحتهما :

 

" لماذا لم تعد تهتم بي ؟ لماذا تتحاشاني ؟ لماذا تعاملني بهذه الطريقة القاسية و كأنني لا أعني لك شيئا ؟؟ "

 

 

الرعب ... و الذعر و الهلع ... أمور أثارتها نظراته الحادة المخيفة التي رماني بها بقسوة ... قبل أن يضربني بكلماته التالية :

 

 

" يا ابنة عمي ... لقد كبرت ِ و لم تعودي الطفلة المدللة التي كنتُ أرعاها ... أنت الآن امرأة بالغة ... و على وشك الزواج ... لدي حدود معك لا يجوز تخطيها ... و لديك سامر ... ليهتم بأمرك من الآن فصاعدا "

 

 

 

و تركني ... و سار مبتعدا إلى الناحية التي كان يريد سلكها قبل ظهوري أمامه ...

 

 

 

اختفى وليد ... و اختفت معه آمال واهية كانت تراودني ... وليد الذي تركني قبل تسع سنين ، لم يعد حتى الآن ..

 

 

 

مسحت بقايا دموعي و آثارها ... و خرجت إلى حيث كان والدي ّ و سامر يجلسون حول الطاولة ...

 

 

أقبلت نحوهم فوقف سامر مبتسما يزيح الكرسي المجاور له إلى الوراء ليفسح المجال لي للجلوس ...

 

 

سامر ... كان دائما يعاملني بلطف و اهتمام بالغ ، و يسعى لإرضائي و إسعادي بشتى الوسائل ...

 

 

 

اقتربت من سامر و نقلت بصري منه ، و إلى والديّ ، ثم إلى أكواب الشاي و الدخان الصاعد من بعضها ... ثم إلى الخاتم المطوق لإصبعي منذ سنين ... ثم إلى عيني سامر اللتين تراقباني بمحبة و اهتمام ... ثم قلت :

 

 

" سامر ... لقد اقتنعت ... سنحتفل مع دانه "

 

بدأت أشعر بأن وليد يهتم بي ... إلى حد ما ... و هو شعور جعلني أحلق في السماء ...

 

 

و اليوم ، تأخر عن موعد حضوره للجامعة عصرا ، و بعدما وصل خرجت أنا و بعض زميلاتي كل واحدة في طريقها لسيارتها ...

 

 

 

وليد كان يقف قرب حارس البوابة ... و هو شخص غير محترم ... نبغضه جميعنا..

 

رأتني إحدى زميلاتي أنظر ناحية وليد فسألتني :

 

 

" إلى من تنظرين !؟ "

 

قلت باستياء :

 

" من تظنين ؟ الحارس ؟ طبعا إلى ابن عمّي "

 

قالت و هي تنظر إليه :

 

" تعنين هذا الرجل ؟؟ "

 

" نعم "

 

قالت :

 

" واو ! كل هذا ابن عمك !؟ حجم عائلي ! "

 

و ضحكت هي و فتيات أخريات ضحكات خفيفة !

 

و قالت أخرى :

 

" ما شاء الله ! مع أنك صغيرة الحجم ! أنت و ثلاث أخريات معك مطلوبات من أجل التوازن ! "

 

و ضحكن كلهن !

 

قلت بغضب :

 

" مهلا فليس هذا هو خطيبي "

 

 

ثم ودعتهن على عجل و سرت نحوه ...

 

 

 

عندما عدنا إلى البيت و نحن نأكل البوضا باستمتاع ، وجدت سامر هناك فدهشت ...

 

لم يكن قد أبلغنا بأنه قادم ، كما و أنه غير معتاد على الحضور نهاية أسبوعين متتاليين !

 

 

أخبرني في وقت لاحق بأنه اشتاق إلي .. و يريد أن نتحدث عن الزفاف المرتقب ، و الذي لم يسعه الوقت للحديث حوله في المرة الماضية ...

 

 

قضينا أمسية عائلية هادئة لم يشاركنا فيها وليد معللا بآلام معدته المزعجة ...

 

أظن أن السبب هو التدخين !

 

 

 

 

 

في اليوم التالي ، أيقظتني أمي لتأدية صلاة الفجر ...

 

عندما رأيتُ عينيها حمراوين متورمتي الجفون ، سألت بقلق :

 

" أمي .. ماذا هناك ؟؟ "

 

 

 

أمي مسحت براحتها على رأسي و قالت بحزن :

 

 

" رحل وليد "

 

 

 

جن جنوني ...

 

و قفزت ... و ركضت خارجة من غرفتي ... إلى غرفة سامر ... فوجدتها خالية ... و جلت بأنحاء المنزل غير مصدقة و غير مقتنعة ... لا يمكن أن يكون قد رحل !

 

لقد وعد بألاّ يرحل دون وداعي ...

 

أقسم على ذلك ...

 

تدفقت دموعي كمياه السد المتهدم ... تجري بعنف و تدمر كل أمل تصادفه في طريقها ... باب المنزل كان موصدا... والدي و سامر قد ذهبا للمسجد ... فتحت الباب ... و خرجت للفناء مندفعة ... ثم إلى البوابة الخارجية ... فتحت منها القدر الذي يكفي لأن أرى الموقف خال ٍ من أي سيارات ... استدرت ... و هرولت أقصد المرآب ... والدتي أوقفتني ... و أمسكت بكتفي ...

 

 

" لا داعي يا رغد ... لقد ودعنا قبل قليل ... "

 

 

لا !

 

لا يمكن أن يفعل ذلك !

 

لا يمكن أن يختفي من جديد ...

 

 

 

صعقت ... و انفضت أطرافي ... و صحت :

 

 

" لماذا لم يودعني ؟؟ "

 

 

أمي هزت رأسها بأسى ...

 

 

صرخت :

 

 

" لماذا يفعل بي هذا ؟؟ لماذا ؟؟ لماذا ؟؟ "

 

و مسكت بعضدي أمي بقوة و انفعال ... و زمجرت بقوة و عصبية و بكاء أجش :

 

" لماذا يعاملني بهذا الشكل ؟؟؟ لقد وعد بألا يرحل دون وداعي ... إنه كاذب ... كاذب ... كان يسخر مني ... كان يستغفنلي و يهديني البوضا ! ... كما فعل سابقا

أنا أكرهه يا أمي ... أكرهه ... أكرهه ... أكرهه ... "

 

 

 

لم يكن العثور على مزرعة نديم بالأمر السهل ... قضيت وقتا لا بأس به في التفتيش ، خصوصا و أنا أقدم إلى هذه المدينة للمرة الأولى .

 

 

المدينة الشمالية هي مدينة زراعية تكثر فيها الحقول و المزارع ، و بها من المناظر الطبيعية الخلابة ما يبهج النفس المهمومة و يطرد عنها الحزن ...

 

 

كان الوقت ضحى عندما وصلت أخيرا إلى مزرعة نديم بعد مساعدة البعض .

 

كنت مرهقا جدا ، فأنا لم أنم لحظة واحدة منذ نهضت صباح الأمس ... و لم أهدأ دقيقة واحدة مذ رأيت الخائنين يتعانقان أمامي ...

 

عدا عن هذا ، فإن معدتي لم ترحم بحالي و عذبتني أشد العذاب طوال هذه الساعات

 

كانت مساحة المزرعة صغيرة ، محاطة بالسياج ، و بها الكثير من الأشجار المثمرة ...

 

ركنت سيارتي جانبا و دخلت عبر البوابة الكبيرة المفتوحة ...

 

كنت أسير ببطء و أراقب ما حولي ، و رأيت منزلا صغيرا في آخرها .

 

فيما أنا أسير نحو المنزل لمحت سيدة تقف عند الأشجار ، و إلى جانبها عدة صناديق خشبية مليئة بالثمار ..

 

كانت السيدة تقطف الثمار و تضعها في تلك الصناديق . و كانت ترتدي جلبابا واسعا و تلف رأسها بوشاح طويل ...

 

اقتربت ببطء من السيدة و أصدرت نحنحة قوية للفت انتباهها .

 

السيدة استدارت نحوي و نظرت إلي بتساؤل ، و من الوهلة الأولى توقعت أن تكون امرأة أجنبية ، في الأربعينات من العمر .

 

قلت :

 

" معذرة سيدتي ، إنني أبحث عن مزرعة السيد نديم وجيه و عائلته "

 

قالت السيدة :

 

" من أنت ؟؟ "

 

أجبت :

 

" أنا صديق قديم له ، أدعى وليد شاكر "

 

تهلل وجه السيدة ، و قالت :

 

" أنت صديق نديم ؟؟ "

 

قلت :

 

" نعم ... في الواقع كنت زميلا له في ... "

 

و صمت ّ لحظة ، ثم تابعت :

 

" في السجن ... "

 

علامات الاهتمام ظهرت جلية على وجه السيدة و أخذت تحدق بي ، فخجلت و غضضت بصري ...

 

قالت :

 

" أنا زوجة نديم ... أحقا تعرفه ؟ "

 

" نعم ... سيدتي و هو من دلّني إليكم "

 

قالت :

 

" و أين هو الآن ؟؟ ألا يزال في السجن ؟؟ "

 

صعقت لدى سماعي هذا السؤال و رفعت بصري إليها فوجدتها تكاد تخترقني بنظراتها القوية المهتمة جدا و القلقة ...

 

عادت تكرر بخشية :

 

" أما زال في السجن ؟؟ "

 

رباه ! لقد قتِل نديم قبل سنين ! ألم يخبروا أهله بذلك ؟؟ بم أجيب هذه السيدة الآن ؟؟

 

السيدة رفعت يدها إلى صدرها كمن يتوقع خبرا سيئا ، قرأته في عيني ...

 

أنا هربت بعيني ... نحو أشياء عدة ... ألا أنني في النهاية عدت أواجه نظراتها الملهوفة ... و قلت بنبرة حزينة :

 

" البقاء لله "

 

السيدة هلعت ... و انفتحت حدقتاها على مصراعيهما و انفغر فاها ...

 

ثم ضربت على صدرها ... و رأسها ... و صرخت :

 

" يا ويلي "

 

أنا كنت أريد أن ... أعتذر عن نقل خبر مفجع كهذا ... و لكني لم أعثر على الكلمات الملائمة ... كما و أنني شغلت بحالة السيدة المفجوعة ...

فجأة ... ترنحت السيدة و هوت أرضا !

 

اقتربت منها و قلت بصوت خائف قوي :

 

" سيدتي ! "

 

 

و ظهر لي أنها فقدت الوعي ...

 

عدت أنادي دون جدوى ... ارتبكت و لم أعرف ما أفعل ...

 

تلفت يمنة و يسرة و لم أجد أحدا ، و ناديت بأعلى صوتي :

 

" أيسمعني أحد ؟؟ ساعدوني ... "

 

و لم أسمع أو أرى أي تجاوب ... لم يكن في المزرعة على ما يبدو غير هذه السيدة ...

 

ركضت بسرعة نحو ذلك المنزل و أنا أنادي :

 

 

" أمن أحد هنا ؟ أرجوكم ساعدوني "

 

وقفت أمام المنزل ثانية ، ثم اقتحمته !

 

كنت أنادي و استنجد ... و كانت أبواب المنزل مفتوحة ...

 

فجأة وصلني صوت ٌ من خلف أحد الأبواب :

 

" من هناك ؟؟ "

 

قلت بسرعة و اضطراب :

 

" أسرعوا ... السيدة في الخارج فقدت وعيها "

 

اندفع الباب منفتحا فجأة و بقوة كادت تصدّع الجدار الذي اصطدم به ، و انطلق من الداخل شهاب ٌ ذهبي !

 

" أمي ! "

 

صرخت الفتاة الشقراء التي ظهرت مسرعة و ركضت مسرعة كالبرق نحو الخارج و أنا ... أتبعها ...

 

 

وصلنا إلى حيث السيدة ، و بدأت الفتاة تصيح و تصرخ بذعر ...

 

 

" أمي ... أمي ... ردي علي أرجوك ... "

 

و هوت إلى جانبها تحاول إيقاظها

 

 

أنا وقفت ُ مذهولا مسلوب الإرادة و التفكير ...

 

 

الفتاة أخذت تنادي بصوت قوي :

 

 

" خالي ... تعال بسرعة "

 

 

تلفت أنا من حولي و لم أر أحدا ...

 

نهضت الفتاة الشقراء بسرعة و ركضت مبتعدة و هي تنادي

 

" خالي ... أسرع "

 

يا إلهي ... هل ماتت السيدة ؟؟

 

إنني من تسبب في موتها ...

 

ماذا أفعل الآن ؟؟

 

لحظة شعرت ُ فيها برغبة قوية في الهروب ...

 

ألا أن رجليّ لم تسعفاني ...

 

ظهرت الآن الفتاة الشقراء ، تمسك بيد رجل عجوز أشقر ، تجبره على الركض ، و هو لا يقوى عليه ...

 

 

و أخيرا وصلا إلينا ... في نفس اللحظة التي بدأت فيها السيدة تفتح عينيها ...

 

 

أقبلت الفتاة بسرعة لمساعدة أمها في الجلوس و هي تقول بفزع :

 

" أمي ... ماذا جرى لك ؟؟ "

 

 

السيدة بدت متعبة و منهارة ، وضعت رأسها على صدر ابنتها و أغمضت عينيها ...

 

 

الفتاة نظرت الآن و لأول مرة نحوي أنا !

 

" من أنت ؟؟ ماذا حدث ؟؟ "

 

 

أنا ارتبكت و بدأت أتأتئ....

 

 

الرجل العجوز اقترب من السيدة و قال :

 

" ليندا ! ماذا جرى لك ؟؟ "

 

قالت الفتاة :

 

" يجب أن نأخذها إلى المستوصف يا خالي هيا بسرعة "

 

 

و تعاونا الاثنان على إسنادها ...

 

قال العجوز :

 

" السيارة في المؤخرة ! "

 

قالت الفتاة :

 

" أوه كلا ! "

 

 

حينها أنا تدخلت و قلت :

 

" أيمكنني المساعدة ؟؟ لدي سيارة تقف بالخارج ... على مقربة "

 

 

نظر العجوز إلى ، و كأنه ينتبه لوجودي الآن فقط ، و قال :

 

" من أنت ؟؟ "

 

قلت :

 

" أنا ... وليد شاكر ... صديق نديم "

 

الفتاة نظرت إلي باهتمام ، ألا أن والدتها تأوهت ، فأهملت الفتاة نظراتها إلي و نادت :

 

" أمي ... تماسكي أرجوك ... "

 

قلت :

 

" تعالوا معي ... "

 

 

و لم يتردد الآخرون كثيرا ، بل ساروا خلفي مباشرة ...

 

 

وُضعت السيدة في السيارة ، و جلس الرجل العجوز إلى جانبي ، ثم ذهبت الفتاة مسرعة و عادت خلال ثواني ، و جلست إلى جانب أمها في على المقاعد الخلفية

 

Link to comment
Share on other sites

الحلقه الرابعة والثلاثون

تولّى العجوز إرشادي إلى أقرب مستوصف من المزرعة ، و هناك تم إسعاف السيدة و إجراء اللازم ...

 

 

الأحداث جرت بسرعة مدهشة ، حتى أنني لا أذكر بقية التفاصيل !

 

 

قال الطبيب :

 

" نوبة قلبية ... يجب أن تنقل للمستشفى من أجل الملاحظة و العلاج "

رباه !

هل تسببت ُ دون قصد ٍ مني في نوبة قلبية لزوجة صديقي ؟؟

كم أنا نادم على الحضور ... بل نادم على تذكر وصيتك يا نديم ... فعوضا عن مساعدة عائلتك هاأنا أتسبب بمرض زوجتك !

 

 

الذي حدث هو أن صحة السيدة تحسنت شيئا فشيئا ، و رفضت هي الذهاب للمستشفى و أصرت على العودة إلى البيت ...

 

 

بصعوبة أقنعتها ابنتها بالبقاء بعض الوقت ، حتى تتحسن أكثر ...

 

 

تُركت السيدة في غرفة للملاحظة ، و بقينا أنا و العجوز في على مقربة ...

 

الآن تخرج الفتاة من الغرفة ، و تأتي نحونا

 

 

العجوز يبادر بالسؤال :

 

" كيف هي ؟؟ "

 

" نائمة ، لكنها أفضل "

 

 

و بعدها تنظر إلي أنا ...

 

 

غضضت أنا بصري ... فسألتني :

 

 

" من أنت ؟؟ "

 

أجبت :

 

" وليد شاكر ... كنت أحد أصدقاء السيد نديم وجيه "

 

قالت :

 

" إنه والدي "

 

قلت :

 

" نعم ... عرفت "

 

قالت :

 

" و لم جئت لمزرعتنا ؟ ألا تعرف أن أبي في السجن منذ زمن ؟؟ "

 

صمت ... ما ذا بإمكاني القول ؟؟

 

 

قال :

 

" بم أخبرت أمي ؟؟ "

 

و أيضا بقيت صامتا ...

 

قالت :

 

" والدي قُتِل ... أليس كذلك ؟؟ "

 

 

رفعت نظري إليها مندهشا ... و متندما ... و أسِفا ... و كم كانت تعبيرات وجهها تنم عن القوة و الجرأة ...

 

 

ثم نظرت إلى الرجل العجوز ... فرأيته هو الآخر يحملق بي ...

 

قلت :

 

" أنا ... آسف ... "

 

خشيت أن تأتي ردة فعل الفتاة كأمها لكنني عجبت من هذه القوة و الصمود اللذين تملكاها ... قالت :

 

" كنت أتوقع ذلك ... "

 

 

ثم انصرفت عائدة نحو الغرفة ...

 

بعد ذلك بدأ العجوز يستجوبني ... و سردت عليه بعض أخبار نديم و أوضاعه في السجن قبل موته ... و علمت أنهم منعوا من زيارته و لم يبلغوا بوفاته ...

 

 

و كم أثار ذلك حزني و حنقي ...

 

 

أبعد العذاب الذي صبوه عليه كل تلك المدة ، يقتلونه و يدفنونه ثم لا يبلغون أهله حتى بأنه مات !؟

 

 

أ تركوا العائلة تعيش مرتقبة عودته فيما هو رميم تحت الأرض ..؟؟

 

 

طال الانتظار ، و لم أعرف ... أعلي الذهاب و تركهم ؟؟ أم علي البقاء و مساعدتهم ؟

 

و لكنني آثرت البقاء ... من باب الأدب و الوفاء لصديقي الراحل ...

 

 

بعد فترة ، اشتد علي الألم ، و التعب و بدأت أحس بالدوار ...

 

 

لم أكن قد تناولت شيئا بعد تلك البوضا الأخيرة ... لذلك أحس باضطراب ...

و قد لاحظ العجوز اضطرابي و وهني ، إذ كنت أسند رأسي إلى الحائط القائم خلف المقعد الذي أجلس عليه ..

 

" هل أنت على ما يرام ؟؟ "

 

سألني العجوز ... أجبت :

 

" أشعر بالإعياء ... "

 

قمت بصعوبة ، بالكاد أحمل نفسي و سرت خطى متعثرة حتى وصلت إلى عيادة الطبيب ...

 

 

انهرت على السرير هناك و قلت :

 

" أنا مرهق ... ساعدني ... "

 

 

اشتد بي الدوار و بدأت أتقيأ ... عصارة ممزوجة بالدم ...

 

 

بعد أربعين دقيقة من العلاج شعرت بتحسن كبير ... و شكرت الطبيب ...

 

الطبيب سألني عدة أسئلة عرف منها عن آلام معدتي المتكررة و الدماء التي تخرج من جوفي ،

فأجرى لي بعض الفحوص ثم رتب لإرسالي إلى قسم المناظير لإجراء منظرة لمعدتي ...

 

الرجل العجوز كان يأتي للاطمئنان علي بين الفينة و الأخرى ...

 

" أ أنت بخير يا هذا ؟ "

 

" أنا بحال أفضل الآن . شكرا لسؤالك أيها العم ، ماذا عن السيدة ؟ "

 

" لا تزال نائمة و يريد الطبيب نقلها إلى مستشفى أكبر ، لكن ظروفنا لا تسمح بذلك "

 

 

و الآن دخلت الممرضة في الغرفة التي كنت ُ أنا فيها و قالت :

 

" هيا يا سيد ، سنأخذك إلى قسم المناظير "

 

 

الرجل العجوز نقل بصره بيني و بينها في تساؤل ، فقلت :

 

" سأعود بسرعة "

 

 

و ذهبنا إلى قسم المناظير و تم إجراء منظرة لمعدتي ... و بعد الفراغ من ذلك قال لي الطبيب :

 

" إنها قرحة نازفة ... في معدتك أيها السيد "

 

 

خمس ساعات مضت و نحن في ذلك المستوصف ، ننتظر تحسن السيدة زوجة نديم كي نغادر

 

وصف لي الطبيب أدوية اقتنيتها من صيدلية مجاورة ، بسعر باهظ ... كما و أنني دفعت مبلغا كبيرا نسبيا من أجل مستحقات الطبيب و الفحوص و المنظرة

أتساءل ، أي مبلغ خسرت عائلة نديم يا ترى ؟؟

 

أقف الآن عند المخرج ، و أرى الفتاة ابنة نديم تدفع كرسي العجلات الذي تجلس عليه والدتها ، و إلى جانبهم العجوز الطيب .

 

 

حينما صاروا قربي ، انطلقت نحو السيارة و أنا أقول :

 

" من هنا رجاءً "

 

أخذ الثلاثة يتبادلون النظرات ، ثم نظروا إلي ...

 

في أعينهم كانت آثار الدموع واضحة ، كما علامات الحيرة و التردد ...

 

قلت :

 

" سأوصلكم إلى المزرعة ... إن لم يكن لديكم مانع ؟؟ "

 

 

وصلنا إلى المزرعة و طلب مني العجوز أن أوقف السيارة في الداخل ، إمام المنزل مباشرة

 

 

قام الاثنان بمساعدة السيدة على السير حتى دخلوا المنزل ، و أنا واقف أراقب إلى جانب سيارتي ... بعد قليل حضر العجوز و ناداني :

 

" تفضل بالدخول يا ... ما قلت اسمك ؟ "

 

" وليد ... وليد شاكر أيها العم "

 

" تفضل يا وليد شاكر "

 

 

ترددت قليلا ، ألا أنني آثرت البقاء معهم لبعض الوقت ، إذ لابد أنهم يودون معرفة شيء من تفاصيل موت نديم ، رحمه الله

 

 

المنزل كان صغيرا و بسيطا ، و أثاثه عادي و قديم ، ما يعطي الزائر انطباعا عن المستوى المادي البسيط الذي تعيش به هذه العائلة الصغيرة .

 

 

أخذني العجوز إلى الصالة الرئيسية في المنزل ، و بعد أن جلست بدأ يرحب بي ...

 

 

" أهلا بك ... نحن شاكرون لك صنيعك النبيل "

 

قلت :

 

" لا داعي لأي شكر أيها العم ، لم أفعل شيئا "

 

قال :

 

" و كيف تشعر الآن ؟؟ هل تحسنت ؟؟ "

 

" كثيرا و لله الحمد ، كل ما في الأمر أنني قضيت ساعات طويلة بلا نوم و لا طعام لذا داهمني الدوار و الإعياء ! "

 

 

قال :

 

" نعم أجل ... الطعام "

 

 

و نهض و ذهب إلى غرفة مجاورة ، و عاد مع الفتاة ...

 

 

الفتاة ألقت تحية علي ، و نطقت ببعض كلمات الترحيب ، ثم استأذنت ...

 

 

و أخذنا أنا و العجوز نتحدث عن أمور متفرقة ، أتى ذكر نديم و مأساة وفاته في معرضها ...

 

 

" لقد كنا نتوقع ذلك ، فجميع من سجنوا معه بلغتنا أنباء وفاتهم ، كل هذه السنين و نحن لسنا على يقين من حياته أو موته ... ليندا لم تفقد الأمل في عودته ذات يوم "

 

 

كم شعرت بالأسى ... لأجل هذه العائلة البائسة ... التي عاشت محرومة من معيلها كل تلك السنين ، و بعد كل هذا الانتظار تكتشف أنه مات !

 

 

كيف يفعلون هذا ؟؟ يسجنونه و يعذبونه و يقتلونه ، ثم لا يخبرون أهله بأنه مات ؟؟

 

 

قلت :

 

" يوم وفاته ... طلب مني نديم أن أزور عائلته و أطمئن على أحوال أهله ... كان ذلك قبل سنين ... أربع تقريبا ... ألا أنني ... "

 

العجوز كان يراقبني باهتمام شعرت معه بالخجل ، و برغبة في الاختفاء في الحال !

 

قال :

 

" هانحن نعيش حياتنا و الحمد لله .. أدعوه أن يحفظ لي صحتي و قوتي لأرعى أختي و ابنتها "

 

 

و هنا دخلت ( ابنتها ) تحمل صينية ملأى بالطعام ...

 

وضعت الصينية على الطاولة الماثلة أمامي و عادت ترحب بي ... ثم قالت :

 

" تفضل يا سيد وليد "

 

و انصرفت

 

شعرتُ بالخجل ... فأنا وسط عائلة غريبة علي ... أناس لم يسبق لي رؤيتهم قبل اليوم ... و هم على ما يبدو كرماء !

 

 

" تفضل يا بني ... طعام خفيف لحين موعد العشاء "

 

 

دهشت ! قلت :

 

" العشاء !؟ "

 

" نعم .. فأنت ستتناول عشاءك معنا هذه الليلة "

 

" أوه كلا ... إنني ... إنني سأنصرف بعد قليل "

 

 

و أصر العجوز على استضافتي ليس فقط على العشاء ، بل و للمبيت عندهم هذه الليلة !

 

 

العشاء كان لذيذا جدا ، علمت أن الفتاة هي التي أعدته ! كما علمت أن حالة السيدة قد تحسنت كثيرا ، و لذا فإنها و ابنتها كذلك شاركتانا الجلسة و الأحاديث بعد الوجبة .

 

الثلاثة يبدون متشابهين في المظهر ! جميعهم من السلاسة الشقراء !

 

 

السيدة كانت تمطرني بالأسئلة عن نديم و ما حصل معه ، و أنا أحاول الإجابة بالقليل الذي لا يسبب لها انتكاسة ، ألا أنها مع ذلك أخذت تبكي ، و تبعتها ابنتها ...

 

 

قالت الابنة بانفعال و هي لا تملك منع نفسها عن البكاء :

 

" أرجوك يا أمي توقفي عن البكاء ... كنت تعرفين أنه لن يعود ... جميعنا نعلم أنهم و لا شك قتلوه ... الظلمة القساة الحقرة ... الأوغاد المجرمون ... احرقهم يا رب جميعا ... انتقم منهم فأنت العزيز ذو الانتقام ... و افعل بهم ما فعلوه بنا ... و أفظع "

 

 

أما أنا فقد كنت أردد دعوتها عليهم في صدري ...

 

يا رب انتقم منهم جميعا ...

 

 

عاد بي شريط الذكريات إلى سنين السجن ... و عذاب السجن ... و الزنزانة ... و الطعام الرديء ... و الأسرّة المهترئة ... و الحشرات ! ... و الرائحة العفنة ... التي اختزنت في ذاكرة أنفي ! أكاد أشمها !

 

رفعت يدي إلى أنفي كمن يريد منع رائحة كريهة من التسلل إلى تجويف أنفه ، فلامست أصابعي الحفرة الصغيرة التي تركها السجن علامة عليه ... شعرت بنار تتأجج في صدري ... نار كنت أخالها قد خمدت بعد هذه الشهور التي قضيتها خارج السجن ... ألا أنني ... و أنا أرى المناحة و البؤس و الدموع المنسكبة من أعين الأرملة و اليتيمة ... و أتذكر نديم و هو يحتضر ... و الكدمات و الجروح التي كانت تغطي جسمه أكثر من شعيرات جلده ... عقدت العزم على ألا تواتيني فرصة للنيل منهم إلا و اقتنصتها ...

 

 

و من خلال الساعات التي قضيتها في تبادل الأحاديث معهم ، شعرت بقربي لهم و قربهم مني ... و كأنني وسط عائلتي ، و كأنني أعرفهن من سنين ...

 

 

لقد ألفت ُ هذه العائلة و أحببتها في الله !

 

 

في اليوم التالي ، و رغم أنني نمت باكرا كما نامت العائلة ، استيقظت قرابة الساعة الحادية عشرة ...

 

 

كنت قد نمت في غرفة صغيرة في الطابق السفلي للمنزل مفترشا فراشا أرضيا بسيطا و ملتحفا ببطانية ثقيلة .

 

 

على الأقل ، وفرت كلفة ليلة واحدة كنت سأبيتها في فندق أو ما شابه ...

 

 

نهضت و خرجت من الغرفة و أنا أتنحنح ...

 

بعد قليل ، كنت أقف في الصالة الرئيسية وحيدا ، تلفت من حولي فلم أشعر بأي حركة توحي بوجود كائن حي على مقربة مني !

 

 

مضيت نحو المخرج ، و خرجت من المنزل راغبا في استنشاق الهواء العليل العابق برائحة الأشجار و الزهور ...

 

 

كم كان منعشا و باعثا للنشاط !

 

 

أخذت أتجول سيرا حول المنزل و في ممرات المزرعة ... و أتأمل الجمال الطبيعي من حولي ، و أستمع إلى غناء العصافير و أشاهد استعراضاتها الجميلة في السماء ...

 

 

المكان كان غاية في الروعة ... و أي امرئ يقضي هنا سويعات معدودة ، لا شك أنه سيخرج بنفس مبتهجة و نفسية مرتاحة !

 

 

فيما أنا أسير ... وجدت السيدة و الفتاة على مقربة ...

 

 

كانتا ترتديان ملابس سوداء ... ربما حدادا على تأكيد موت نديم ، رحمه الله ... و كانتا تسحبان صناديق مليئة بالثمار ... تجرانها جرا ... إلى حيث تقف سيارة حوض زرقاء ، يعلو حوضها الرجل العجوز ،و يقوم بترتيب صناديق الثمار المكشوفة ، التي ترفعها السيدة و الفتاة متعاونتين و تضعانها في الحوض .

تفعلان ذلك ، ثم تعودان لجر المزيد من الصناديق ...

 

 

اقتربت من السيارة و ألقيت التحية على العجوز المنهمك في ترتيب الصناديق ، و يبدو أنه لم يسمع !

 

 

تبعت السيدتين إلى حيث وجدت مجموعة من الصناديق المليئة بالثمار تنتظر دورها للشحن في السيارة ...

Link to comment
Share on other sites

قوة خيووو ..

بسألش عندش نهاية للقصه او لا .. لان ما ابغي اقراها وما اليها نهاية ..

قريتها من قبل في منتدى نسيج وكانت الكاتبة مو راضية تكملها ولا راضية تحط لها نهاية.. فيا ليت اعرف منش اذا لها نهاية او لا عشان احدد موقفي اذا بقراها او لا ..

سي يووو .. بايوووووو ssm9.gif

Link to comment
Share on other sites

الحلقة الخامسة والثلاثون

 

و هاهما تسيران نحوي و تجر كل واحدة منهما صندوقا جديدا ...

 

 

" صـ باح الخير "

 

حييتهما فتركتا الصندوقين و ردتا التحية ، ثم قالت السيدة :

 

" هل نمت جيدا ؟ أتمنى ألا يكون الفراش قد أتعبك ؟؟ "

 

قلت :

 

" على العكس ... نمت بعمق ... شكرا لكم جميعا "

 

السيدة قالت مخاطبة ابنتها :

 

" أروى اذهبي و أعدي الفطور لضيفنا "

 

 

الفتاة نظرت إلى الصندوق ثم إلى أمها و قالت :

 

" حسنا "

 

و همت بالذهاب ...

 

أنا قلت :

 

" شكرا لكن لا داعي لذلك ... لا أشعر بالجوع الآن "

 

قالت السيدة :

 

" بلى ! سيكون فطورك جاهزا خلال دقائق ، و معذرة فأخي مشغول الآن لكن تصرف بحرية "

 

ثم التفتت إلى الفتاة و قالت :

 

" هيا أروى "

 

 

الفتاة ذهبت في طريقها إلى المنزل ... و السيدة تابعت سحب صندوقها ...

 

 

سرت أنا نحو الصندوق الآخر ، و حملته و نقلته إلى حوض السيارة ... فيما هي لا تزال تجر صندوقها !

 

 

الآن انتبه العجوز إلي !

 

 

" صباح الخير أيها العم "

 

" أوه ! شاكر ... نهضت إذن ! لابد أنك كنت متعبا جدا ! صباح الخير "

 

وضعت الصندوق في السيارة و قلت :

 

" كنت ، لكنني الآن بحالة ممتازة و الحمد لله . شكرا لكم . اسمي وليد أيها العم !"

 

 

سحب العجوز الصندوق ليصفه بنظام قرب أخوته ثم قال :

 

" أجل تذكرت ! وليد . سآخذ هذه إلى السوق ، أتفضل انتظاري أو مرافقتي ؟ "

 

نظرت ناحية السيدة المقبلة تجر الصندوق ، ثم إلى العجوز و قلت :

 

" أفضل مساعدتكم ! "

 

 

ثم بدأت بنقل الصناديق واحدا تلو الآخر ... و طلبت من العجوز أن يطلب من السيدة أن ترتاح ، فقد عاشت أزمة قلبية يوم أمس !

 

 

 

أقبلت الفتاة بعد ذلك ، و رأتني أحمل أحد الصناديق ... فتعجبت ! ثم قالت :

 

" طعامك جاهز أيها السيد ... تفضل إلى المنزل "

 

و مضت نحو ما تبقى من الصناديق و جرّت أحدها ...

 

وضعت ما بيدي في حوض السيارة ، و عدت ناحية الصناديق ...

 

كانت الفتاة تجر صندوقها بجهد ... قلت :

 

" دعي الأمر لي سيدتي أستطيع نقلها جميعا وحدي دون عناء "

 

 

فتركت صندوقها و تنحت جانبا ، فحملته و نقلته إلى السيارة ، و سارت هي من بعدي حتى صارت واقفة إلى جوار والدتها ...

 

 

انتهيت من مهمتي ، فشكرني الجميع ثم قالت السيدة الأم :

 

" لقد برد فطورك ! أرجوك تفضل لتناوله "

 

 

شعرت بالخجل ، و نظرت نحو الأرض بحياء ، فنادت السيدة على العجوز

 

" إلياس ... تعال لتكرم ضيفنا ! "

 

 

نزل العجوز أرضا ، و رافقنا نحو المنزل ...

 

 

هناك جلست عند المائدة أتناول فطوري الشهي ، و إلى جانبي العجوز يشرب الشاي ، بينما السيدة و ابنتها تراقباننا عن بعد و تتابعان أحاديثنا !

 

 

في معرض الحديث ، قال العجوز :

 

" ليتني أعود لمثل شبابك و قوتك ! اخبرني ... ماذا تعمل ؟؟ "

 

 

توقفت عن مضغ اللقمة الموجودة في فمي ، و ابتلعتها كما هي !

 

قلت :

 

" في الواقع أيها العم الطيب ... أنا عاطل عن العمل ! "

 

دهش العجوز ، فأخبرته بأن تخرجي من السجن حال دون قبولي في الوظائف التي حاولت الالتحاق بها ، و أخبرته إنني هنا في المدينة الشمالية للبحث عن عمل ...

 

 

قال :

 

" شبّان هذه الأيام يحبون الوظائف المكتبية و الإدارية التي لا تتطلب منهم سوى الجلوس و تقليب الأوراق ! سيصعب عليك العثور على وظيفة كهذه في هذه المدينة ! "

 

قلت :

 

" سأجرب ! فإن فشلت ، عدت ُ من حيث أتيت ! "

 

قال :

 

" إذن ... ما هي خطتك الآن ؟؟ "

 

قلت :

 

" سأذهب إلى قلب المدينة ، استأجر شقة صغيرة ، و أبحث عن وظيفة ... عسى الله أن يوفقني هذه المرة "

 

 

بعد ذلك رافقت العجوز إلى السوق ، حيث قام ببيع الثمار على أحد تجار الخضار و الفاكهة ، ثم عدنا إلى المزرعة ....

 

 

حينما وصلت ، و فيما أنا في طريقي إلى سيارتي ، لمحت السيدتين واقفتين عند الأشجار ، تقطفان الثمار و تجمعانها في السلات و الصناديق ...

 

نظرت إلى العجوز السائر جواري و قلت :

 

" ألا يساعدكم أحد في العناية بهذه المزرعة ؟؟ "

 

قال :

 

" كلا ! نحن الثلاثة من يعتني بها ، لكننا نستأجر بعض العمال لقطف الثمار أو التنظيف أو ما إلى ذلك من حين لآخر ! "

 

يا للحياة الشاقة التي تعيشها هذه العائلة !

 

 

لو تعلم يا نديم ... !

 

 

قلت :

 

 

" دعوني أساعدكم قبل المغادرة ! "

 

 

و بدأت العمل !

 

 

قطفنا كميات كبيرة من الثمار ، و وزعناها على الصناديق ، و تركناها قرب بعضها البعض ، لحين الغد ، حيث سيتم نقلها إلى السيارة من جديد ...

 

 

بعد ذلك قمنا بجمع الأوراق و الثمار المتساقطة و تنظيف الأرض !

 

 

كل ذلك استغرق منا ساعات من العمل ، و كلما حاول العجوز ثنيي أو الاعتذار ، قلت له :

 

" هذا واجبي ، و نديم يستحق أكثر من ذلك "

 

 

بعد ذلك ، دخلنا إلى المنزل و من ثم تناولت وجبة الغداء المتأخرة مع العجوز الطيب ... ، شكرته على حسن ضيافته و وعدته بالعودة لزيارتهم كلما أمكنني ...

و خرجت من المنزل و ركبت سيارتي الواقفة أمام المنزل ، و سرت بها ...

 

 

عبرت على مجموعة الصناديق ، و فكرت ... في العناء الذي ستلاقيه السيدتان غدا في نقلها إلى السيارة الزرقاء ... غدا و بعده و كل يوم ... اعتقد أن من واجبي تقديم المزيد من المساعدة لهذه العائلة التي أوصاني صديقي الراحل بها خيرا

 

أوقفت السيارة و عمدت إلى الصناديق و جعلت انقلها إلى السيارة الزرقاء المركونة على مقربة ، واحدا تلو الآخر ... دون علم أحد !

 

 

الشمس كانت على وشك المغيب ... لم أكن أشعر بأي تعب أو إعياء يذكر ، كما و أن آلام معدتي قد اختفت تقريبا بعد العلاج السحري الذي وصفه لي الطبيب ! أو ربما العلاج السحري في هذه المزرعة الجميلة و مناظر الطبيعة الخلابة ، و الهواء المنعش ...

 

 

كم أنا سعيد لأنني استطعت خلال الساعات الماضية طرد آلامي الجسدية و النفسية ... و أفكاري المهمومة ... بما فيها الخائنة رغد !

 

 

رغد ...

 

 

ما تراك تفعلين الآن ؟؟؟

 

و ما تراك فعلت ِ بعد علمك برحيلي ؟؟

 

ما تراك فاعلة إن علمت ِ أنني لن أعود إليك مرة أخرى ... و أنني في سبيل الابتعاد عنك مستعد لهجر أهلي للأبد ؟؟؟

 

 

" ماذا تفعل ! "

 

 

روعتُ فجأة حين سمعت صوتا آت ٍ من خلفي ، و استدرت بفزع !

 

 

كانت ابنة نديم !

 

 

كنت أحمل الصندوق على ذراعي و أسير نحو السيارة الزرقاء ، و أفكر برغد !

 

ثم وجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه ، أمام ابنة نديم ... تنظر نحوي بدهشة !

 

 

تتأتأتُ في الحديث ، قلت :

 

" أأأ ... فكرت في ... بما أنني لازلت هنا ... يمكنني المساعدة قبل ... معذرة فأنا لم أقصد سوءا ! "

 

 

و خفضت بصري نحو الأرض ...

 

شعرت بثقل الصندوق فوق يدي ، فرفعته أكثر ، ثم اعتذرت ، و ذهبت إلى السيارة لأضعه فيها ...

 

 

الفتاة تبعتني ، و أخذت تنظر إلى الصناديق الموضوعة في السيارة بتعجب !

 

 

قالت :

 

 

" لم كلّفت نفسك عناء كل هذا !؟ لم يكن واجبا عليك ذلك ! "

 

قلت :

 

" بلى ... من واجبي و من دواعي سروري أيضا ! نديم كان صديقي الحميم في السجن ... ليتني أملك أكثر من هذا لأفعله من أجله ... و أجل عائلته "

 

 

الفتا قالت بعد صمت قصير :

 

" شكرا لك ... أنت رجل نبيل "

 

 

و صمتت تارة أخرى ، ثم قالت :

 

" لماذا دخلت السجن ؟؟ "

 

 

و لما لم تجد مني جوابا ، قالت :

 

" اعتذر ... تجاهل سؤالي إن كان يزعجك ... "

 

أنا كنت في غاية الاضطراب ، هناك مواقف كثيرة في الحياة لا أعرف التصرف حيالها ، و هذا أحدها !

 

 

سرت إلى الصناديق و تابعت عملي بصمت و هدوء ، و إن كان داخلي متوترا مضطربا ، و الفتاة واقفة على مقربة !

 

متى تنقشعين !؟

 

يبدو أنها امرأة قوية و جريئة !

 

ربما لأن أمها ـ و كذلك خالها ـ من أصل بلدة أخرى ... ذات طباع و شخصيات أخرى ... غريبة و مختلفة عما تعودت أنا عليه !

 

بعد فراغي من نقل الصناديق ، قالت لي :

 

" شكرا لك يا سيد وليد ... والدي يعرف كيف يختار أصدقاءه ... "

 

قلت بخجل :

 

" العفو ... سيدتي "

 

ثم ابتعدت و أنا أقول :

 

" مع السلامة "

 

" وقعت ِ أخيرا ! "

 

 

صاحت نهلة بصوتها العالي و هي تشير بإصبعها نحوي ، و تضيق الحصار علي !

 

تلفت من حولي و قلت :

 

" نهلة أرجوك ! اخفضي صوتك ! لابد أن أمي تسمعه في المطبخ ! "

 

 

نهلة أقبلت نحوي و هي لا تزال تمد بسبابتها نحوي حتى تكاد تفقأ عيني !

 

 

قالت بحدة و مكر :

 

" اعترفي يا رغد ... لن يجدي الإنكار أو المواراة ! أنت مهووسة بابن عمّك ! "

 

 

مددت يدي و أمسكت بعنقها و ضغطت عليه !

 

" سأخنقك ِ يا نهلة ّ "

 

 

نهلة الأخرى طوقت عنقي بيديها و قالت تمثل دور المخنوقة :

 

" سأنطق بالحق حتى النفَس الأخير ... رغد تحب ابن عمّها وليد... دون أن تدرك اللهم إني بلّغت ، اللهم فاشهد ! "

 

 

و بالفعل كدتُ أخنق هذه الفتاة !

 

 

طرقُ على الباب منع جريمتي من الوقوع !

 

 

تركت عنق ابن خالتي و مضيت ُ لفتح الباب ... كانت دانه !

 

" رغد ... وليد على الهاتف ! إن كنت ِ ترغبين بإلقاء التحية ! "

 

 

حدّقت ُ بها لثوان شبة واعية لما قالت ، ثم انطلقت مسرعة إلى حيث كانت والدتي تمسك بسماعة الهاتف و تتحدث إلى وليد ...

 

 

عندما رأتني أمي قالت له :

 

" بني ... هذه رغد ترغب في التحدث معك "

 

و مدت السماعة إلي ...

 

 

أخذت السماعة و ألصقتها في إذني و فمي ! بقيت صامتة لثانيتين ، ثم قلت :

 

" وليد ؟؟ "

 

أستوثق من كونه هو من على الطرف الآخر ...

 

صوت وليد وصلني خافتا مترددا و هو يقول :

 

" مرحبا ... صغيرتي "

 

بمجرد أن سمعت صوته ، انفجرت !

 

 

قلت بصرخة منطلقة مندفعة قوية حادة مجنونة :

 

" كذّاااااااااااااب "

 

 

و أعدت السماعة بسرعة إلى والدتي ، و جريت نحو غرفتي ، و صفعت الباب و أوصدته بانفعال !

 

 

نهلة أخذت تنظر إلي بذهول و استغراب ...

 

 

" رغد !؟؟ "

 

 

صرخت بانفعال ...

 

 

" رغد تكره وليد .... أفهمت ِ ؟؟ تكرهه ... تكرهه ... تكرهه "

 

 

و لم أتمالك منع دموعي من الانسياب بغزارة من محجري ...

و مضيت إلى سريري فجلست و سحبت الوسادة ، و غمرت وجهي فيها ... حتى كدت اختنق !

 

 

بعد قليل ، نهلة ربتت على كتفي و قالت :

 

" نعم ... مفهوم "

 

 

أبعدت أنا الوسادة عن وجهي و تنفست الصعداء ... و سمحت لنظرات نهلة باختراقي مباشرة ... الدموع كانت تجري بانسياب مبللة كل ما تصادفه في طريقها ...

 

 

" عزيزتي ... "

 

 

ما أن قالت نهلة ذلك حتى انهرت تماما ... و رميت برأسي في حضنها و طوقتها بذراعي باستسلام و أسى ... قلت و أنا في غمرة الحزن ... في لحظة صدق و اعتراف

 

" لماذا رحل دون وداعي ؟؟ لماذا كذب علي ؟؟ لماذا كذبوا كلهم علي ؟؟ أخبروني بأنه لن يعود ... لكنه عاد ... لكنه تركني ... لم يعد يهتم بي ... لأنني سأتزوج سامر ... لكني لا أحب سامر ... لا أحبه ... "

 

و أبعدت ُ وجهي عن حضنها و نظرت إليها باستنجاد مرير ...

 

" نهلة ... أنا ... لا أحب سامر ... أنا ... لا أريد أن أتزوج منه "

 

 

نهلة وضعت يدها بسرعة على فمي لكتم كلماتي ، و تلفتت ، ثم عادت تنظر إلي ...

قالت :

 

" اخفضي صوتك ... "

 

 

شعرت باليأس و فقدِ الأمل ... و طأطأت برأسي أرضا باستسلام لحكم القدر ...

 

كيف لي أن أقول هذا ... و لا تفصلني عن موعد الزفاف غير أسابيع ؟؟

 

لا يحق لي حتى مجرد التفكير ... فقد قضي الأمر ... و انتهى كل شيء ...

 

بعدما هدأت من نوبة بكائي ... و لزمت و نهلة الصمت لعدة دقائق ، قالت هي :

 

رغد ... لم يفت الأوان بعد ... دعي أمي تتدخل و توقف هذا الزواج في الحال "

 

 

هززت رأسي نفيا و اعتراضا و قلت بعدها :

لا ... كلا كلا ... نهلة إياك و الإقدام على هذا ... "

 

" لكن يا رغد ... "

Link to comment
Share on other sites

الحلقة السادسة والثلاثون

 

" أرجوك نهلة ... لا تفسدي علي الأمور ... لقد فات الأوان ... و انتهى كل شيء ... لا تضعيني في موقف كهذا مع أمي و سامر و الجميع ... "

 

 

نهلة أمسكت بيدي و قالت :

 

" لكن... أنت لا تحبين سامر ! إنك لا ترغبين في الزواج منه ! كيف تربطين مصيرك به ؟ "

 

" قدري و نصيبي "

 

" و وليد ؟؟ "

 

 

وقفت ببطء ... و استسلام ... و أنا أتذكر تلك الليلة ، حين وعدني و أقسم بألا يرحل دون علمي ، ثم نقض الوعد و القسم ... مستغفلا إياي بعلبة بوضا !

 

 

قلت :

 

" لم يعد له وجود ... أو داع للوجود "

 

 

طُرق الباب مجددا ، فتوجهت لفتحه فإذا بها أمي ...

 

 

أمي حملقت في عيني المحمرتين برهة ثم قالت :

 

" رغد ... أهناك شيء ؟؟ "

 

 

واريت أنظاري تحت الأرض ، و قلت :

 

" لا ... لا شيء "

 

 

و حين رفعت نظري إليها وجدتها تنظر إلي بتشكك ...

 

هربت من نظراتها و نظرت إلى ابنة خالتي ... و التي بدورها قالت :

 

" يجب أن أذهب الآن ... "

 

 

و ذهبت إلى المرآة ترتب حجابها و عباءتها ...

 

قلت :

 

" نهلة ! كلا لن تذهبي الآن ! "

 

قالت :

 

" لدى سارة دروس تستصعبها و هي تنتظرني لتعليمها الآن ! ... "

 

 

قالت أمي :

 

" لا يزال الوقت مبكرا ... ابقي للعشاء معنا "

 

 

ابتسمت نهلة و قالت و هي تحرك يدها عند نحرها :

 

" ستذبحني سارة إن تأخرت أكثر ! "

 

رافقتها إلى الباب الخارجي ، و قلت لها قبل أن تنصرف :

 

" نهلة ... لا تذكري ما دار بيننا على مسمع من أحد ... أرجوك "

 

نهلة ابتسمت ابتسامة مطمئنة ، ثم غادرت ...

 

 

عندما عدت إلى غرفتي وجدت دانة هناك !

 

ما أن رأتني حتى بادرت بسؤالي :

 

" بربك رغد ! ماذا تقصدين من تصرفك الأحمق هذا ؟؟ لقد كادت السماعة أن تتصدع من صرختك ! أخشى أن تكوني قد أحرقت الأسلاك بين المدينتين ! "

 

 

لم يكن لدي مزاج مناسب للجدال مع دانة هذه الساعة ، قلت بنفس ٍ متضايقة:

 

" أخرجي دانة ، أريد البقاء وحدي "

 

دانة نظرت إلي باستنكار ، ثم قالت :

 

" لا تطاقين يا رغد ! متى أتزوج و أتخلص منك ! "

 

ثم مضت مغادرة ، و قبل أن تخرج قلت :

 

" قريبا يا ابنة عمي ... ماذا بعد ؟؟ أهذا يكفي ؟؟ "

 

و صفعتُ الباب خلفها ...

 

 

اعتقد أن تصرفاتي لم تكن لائقة لهذا اليوم ، بل و منذ رحيل وليد و أنا في حالة عجيبة ... عصبية دائما ، حزينة دائما ، ضائقة الصدر ... منعزلة في غرفتي ... فاقدة الاهتمام بأي شيء من حولي حتى الرسم ...

 

 

و مع مرور الأيام ازدادت حالتي سوءا ... و بدأ العد التنازلي لموعد الزفاف ... لموعد النهاية ... لموعد الحلقة الأخيرة من مسلسل حياتي التعيسة ...

 

 

لو كان لي أم ... لو كان لي أم تخصني أنا ... لا تكون هي أم سامر ... لكنت أخبرتها بكل ما يختلج صدري من مشاعر ...

 

لكنت أخبرتها بما أريد و ما لا أريد ...

 

أمي هذه ، أم سامر خطيبي ... العريس المتلهف للزفاف ، و إن حاولتْ التحدث معي ، أتحاشاها و اخفي في صدري ما لم أعد قادرة على كتمانه ...

 

 

كيف لي أن أخبرها بأنني لا أريد أن أتزوج من ابنها ، الذي خطبت ُ له منذ أربع سنين !؟

 

كيف سيكون موقفي من سامر ... و أبي ...و الجميع ...

 

و لماذا أفعل هذا بهم ؟؟

 

أيكون هذا جزاء من آووني و رعوني كل هذه السنين ، التي لم أشعر فيها أبدا بأنني يتيمة الأبوين ...؟؟

 

عدا عن ذلك ...

 

فأي رجل سأتزوج ما لم أتزوج سامر ؟؟ من سأعطيه ثقتي المطلقة مثله ... ؟

 

حسام الذي لا يختلف عنه كثيرا ؟؟

 

أم ... وليد ...الذي ...

 

الذي ... لم أعد أعني له شيئا ...؟؟

 

وليد ... الكذاب !

كذاب !

 

كلمة قاسية هزتني و أربكتني حتى كدت معها أوقع هاتفي من يدي ...

لها الحق بنعتي بهذه الصفة .. ألم أعدها ألا أرحل بدون علمها ثم رحلت ؟؟؟

لكن لماذا تأثرت ْ هي كثيرا من ذلك ؟؟

ماذا كان يفرق لديها ... بقائي من رحيلي ؟؟

أم تظنني سأبقى أرعاها و أدللها كما كنت في السابق ، فيما هي زوجة لأخي !

 

الخائنان !

 

 

كنت في سيارتي في طريقي إلى الشقة الصغيرة التي استأجرتها ، و دفعت مبلغا لا بأس به لأجل ذلك ، على الرغم من نقودي المحدودة التي تتضاءل يوما بعد يوم .

 

بحثت جاهدا عن وظيفة في هذه البلدة ، و كلما صادفت أعلانا عن وظيفة شاغرة في الصحف بادرت بالاتصال ، رغم أنني لا استوفي شيئا من الشروط المطلوبة ...

 

 

كانت أيام سبعة قد انقضت منذ وصولي إلى هذه البلدة ، و هي فترة قصيرة طبعا ، ألا أنني شعر بملل و وحدة قاتلين ... و فكرت في العودة إلى مزرعة نديم !

 

 

إنني أشعر بأن أهل نديم هم أهلي ... و إن لهم حق واجب علي ... و علي تأديته ...

 

 

 

لذا ، فإنني غادرت الشقة ، ذهبت إليهم ... في اليوم التالي .

 

 

عندما وصلت ، كانت ابنة نديم هي أول من التقيت به ...

 

 

الفتاة كانت جالسة بين مجموعة من الصناديق الخشبية ، منهمكة في إصلاح و تجبر كسورها بالمطرقة و المسامير !

 

 

ألقيت التحية فلم تسمعني ، فعدت أحيي بصوت مرتفع فانتبهت لي ...

 

 

رمت الفتاة بالمطرقة جانبا و نهضت واقفة و قالت :

 

" مرحبا بك أيها السيد النبيل ... "

 

هبطت ببصري أرضا و قلت :

 

" كيف أحوالكم ؟ "

 

" الحمد لله . ماذا عنك ؟ "

 

" بخير سيدتي . ... هل العم إلياس موجود ؟ "

 

" خالي ذهب لجلب بعض الأشياء ... سيعود قريبا ... تفضل "

 

و أرادت مني أن اتبعها إلى المنزل ، لكنني قلت :

 

" سوف أنتظر العم ... إذا لم يكن في ذلك ما يزعجكم ؟ "

 

 

قالت :

 

" لا بأس ، أهلا بك ... سوف أخبر والدتي عن مقدمك "

 

 

و ذهبت مسرعة إلى المنزل ...

 

 

أنا جعلت أتأمل طابور الصناديق المكسورة التي تنتظر دورها في التجبير !

 

إنها مهمة شاقة لا تناسب المرأة !

 

أليس كذلك ؟؟

 

 

 

بعد قليل أتت السيدة الأم مع ابنتها ، ترحب بي بحرارة و كأنها تعرفني منذ زمن !

 

شعرت بالخجل من ذلك ، و لكن يبدو أنه وضع مألوف لدى هذه العائلة الغريبة !

 

قلت و أنا أنظر ناحية الصناديق :

 

" دعاني أتولى ذلك "

 

طبعا السيدتان اعترضتا ألا أنني قلت :

 

" ريثما يعود العم إلياس "

 

 

و رغم أنها المرة الأولى التي أقوم فيها باستخدام المطرقة و المسامير ، ألا أنني أتقنت العمل !

 

 

في الواقع ، شعرت بالخزي من نفسي ... فأنا عاطل عن العمل أتسكع في المدن و الشوارع ، بينما تقوم فتاة شابة في العشرينات بإصلاح كسور صناديق خشبية ، و قطف الثمار ، و حمل الصناديق الثقيلة ، و الحرث و الزرع و ما إلى ذلك ...

 

أمر مخز بالفعل !

 

بعد قليل وصل العم إلياس و ما أن رآني حتى أسرع نحوي يريد أخذ المطرقة مني يدي ...

 

 

قلت :

 

" مرحبا أيها العم الطيب ! لا تقلق ... إنه عمل يسعدني كثيرا ! "

 

 

اعتقد أنه شعر بالخجل ، و رحب بي بحرارة تفوق حرارة ترحيب الأخريين ، و تمتم بعبارات الشكر و بسيل من الدعوات و الأماني !

 

 

أنهيت عملي خلال ساعة ... أمطرني الجميع بكلمات الشكر اللانهائية ... شعرت حينها بأنني شخص ذو قيمة و أهمية و قدرة على العمل و إفادة الآخرين ... بعد شهور التفاهة و البطالة و التشتت التي قضيتها ...

 

 

قال العجوز :

 

" أعطاك الله القوة و الصحة يا بني ، آمل أن تكون قد وفقت في العثور على وظيفة تلائمك ؟؟ "

 

قلت :

 

" ليس بعد ! "

 

قال :

 

" إذن ؟؟ "

 

قلت :

 

" هل ... أجد عندكم عملا مقابل المأوى و الطعام فقط ، إلى أن أجد وظيفة ملائمة ؟؟ "

 

 

ستة أسابيع مضت منذ أن اقتحمت عالم الفلاحة ، و أصبحت مزارعا !

 

شيء لم أكن أحلم به أو أتخيله حتى يمر ببالي مرورا عابرا ... فقد كنت أحلم بأن أصبح رجل أعمال مهم ... مثل صديقي سيف ...

 

في كل صباح ، كنت أقوم بحرث الأرض ، و زرع البذور ، و قطف الثمار و تنظيف المزرعة ، و إصلاح كل مكسور ، الصناديق ... أنابيب المياه ، الأغصان !

و قبيل الظهيرة أذهب لبيع ثمار اليوم في سوق الفاكهة ، و حين أعود أتابع العمل في هذا الشيء أو ذاك ... عمل شبه مستمر حتى غروب الشمس ...

 

وجباتي الثلاث كنت أتناولها إما مع العم إلياس أو في الغرفة الجانبية التي خصصت لي ، خارج المنزل ...

 

 

رغم أنه كان عملا شاقا ألا أنني سررت به كثيرا بل و وجدت فيه ذاتي التائهة ... و تعلقت بعائلتي الجديدة كما تعلقت هي بي ...

 

 

أما عن صحتي ، فقد تحسنت كثيرا مع تحسن نفسيتي ، و اختفت الآلام تقريبا و كسبت عدة أرطال من الوزن !

 

 

و أفضل ما في الأمر ... أنني تقريبا أقلعت ُ عن التدخين !

 

 

اليوم تلقيت اتصالا من والدي يخبرني فيه بأنه و أمي سيسافران لأداء الحج بعد الغد ، و يرغبان في رؤيتي ... أمر يتطلب مني العودة إلى المنزل رغما عني ...

أمر ٌ و إن كان صعبا فإن علي تحمله من أجل رؤيتهما ... ليلة واحدة فقط ثم أرحل عن ذلك المنزل و من به !

 

هكذا كان تفكيري قبل أن يقول أبي :

 

" و لأن سامر لا يستطيع أخذ إجازة لكونه حجز أجازته بعد عودتنا من أجل الزواج ، فلا بد من بقائك هنا حتى نعود ! "

 

 

قلبت الأفكار في رأسي و وجدتها مهمة يصعب علي تحملها ، فقلت :

 

" لا أستطيع ذلك يا أبتي ... سآتي من أجل تحيتكما فقط ... "

 

قال :

 

" و من يبقى لرعاية المنزل و الفتاتين إذن ؟؟ "

أنا ؟؟

 

أ أعود أنا لأرعى تلك الخائنة من جديد ، و أعيش معها أيام استعدادها للزفاف ؟؟

لم تبق غير أسابيع ثلاثة عن ذلك الموعد المشؤوم ! إنني أفضل السفر إلى المريخ أو المشتري على العودة إليها ... ومشاهدتها عروسا تودع العزوبية !

 

 

" لا يمكنني ... يا أبي ... "

 

" في حال كهذه ... لا أملك غير تأجيل حجي للعام المقبل ! "

 

" أوه كلا أبي ... مادمتما قد عقدتما العزم ... فتوكلا على الله ! "

 

" و الفتاتان ؟؟ أ أتركهما وحدهما في البيت ؟؟ مستحيل طبعا "

 

 

أشياء كثيرة تبدو مستحيلة جدا ، ألا أنك حين توضع في وجه التيار ، تجد نفسك مضطرا لتنفيذها رغما عن أنفك ، مستقيما كان أو معقوفا !

 

خلاصة القول ، رضخت للأمر ... و وافقت على العودة إلى جهنم ...

 

 

 

كنت أرتب أشيائي في حقيبة سيارتي حين أقبل العم و معه الآنسة أروى ، ابنة نديم و وقفا يراقباني ...

 

 

قال العم :

 

" نحن محزونون لفراقك ... أرجوك أن تعود إلينا من جديد فوجودك عنى الكثير "

 

ابتسمت له بفرح ، و قلت :

 

" بالطبع سأعود يا عمي ، إن شاء الله ... ما أن يعود والداي من الحج حتى أوافيكم من جديد ... هنا عملي و في أي قطر من أقطار الأرض لن أجد الراحة كما أجدها هنا "

 

و هي حقيقة أدركها ... تماما

 

قالت أروى :

 

" نتمنى أن تحضر عائلتك لزيارتنا ذات يوم ! هلا ّ فعلت ؟؟ "

 

قلت :

 

" سأرى ما إذا كان ذلك ممكنا ... "

 

قالت :

 

" أ لديك شقيقات ؟؟ "

 

قلت :

 

" نعم ، واحدة فقط ، و شقيق واحد فقط أيضا "

 

قالت :

 

" أحضرها لزيارتنا ذات يوم ... سيعجبها المكان كثيرا "

 

" أنا واثق من ذلك ... "

 

 

و أغلقت حقيبة سيارتي ، ثم فتحت الباب و قلت مودعا :

 

" نلتقي على خير إن شاء الله بعد أسبوعين ... دعوا الأعمال الشاقة لأنجزها حين أعود "

 

و ابتسم العم ، و كذلك ابتسمت أروى ... ثم لوّحت بيدها مودعة ... !

 

أروى نديم ... فتاة قوية ... شخصية مميزة تستحق التقدير ... !

 

أجلس أمام التلفاز في غرفة الضيوف أشاهد برنامجا ترفيهيا ، عل ّ ذلك يفيد في طرد الأفكار التعيسة من رأسي ...

 

 

 

تركت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون بشأن العرس ، و أنا أشاهد برنامجا سخيفا لا أهدف منه إلا شغل نفسي بشيء أبعد ما يكون عن ... وليد .

 

 

في أي لحظة قد يصل ...

 

لا لست أرتقب حضوره ، فلم يعد يهمني ذلك ، بل على العكس ، لازلت ألح على سامر ليبقى هو معنا خلال الأسبوعين اللذين سيغيبهما والداي ... في الحج ...

 

 

أقبل سامر الآن يحمل كأس عصير برتقال ، يقدمه لي !

 

" عروسي ... تفضلي هذا "

 

 

أخذت العصير و شكرته و قلت :

 

Link to comment
Share on other sites

الحلقه السابعه والثلاثون

 

" لم تحضره بنفسك ! ؟ "

 

ابتسم و قال :

 

" عروسي و أحب تدليلها ! لم تجلسين وحدك هنا ؟ إننا نشرب العصير في غرفة المعيشة و نتحدث بشأن الحفلة ! "

 

 

ازدردت شيئا من العصير ، ثم وضعته على المنضدة التي بجانبي و عدت أتابع البرنامج متظاهرة بالاهتمام و الاندماج ...

 

 

سامر جلس على المقعد المجاور و أخذ يشاهد البرنامج بضع دقائق ، و أظنه استسخفه !

 

قال :

 

" لو كان باستطاعتي الحصول على إجازة أطول ، لكنت بقيت هذين الأسبوعين معك ... "

 

 

قلت في نفسي :

 

ألا يكفي أنني عشت منذ طفولتي معك ، و سأقضي بقية حياتي معك ... ؟؟ إنهما أسبوعان ليس إلا ! ألا تسأم منّي !!؟؟

 

 

الآن أمسك بيدي و قال :

 

" ثلاثة أسابيع فقط ... كم أنا متلهف لذلك الحين ! "

 

 

سحبت يدي من بين يديه و أمسكت بكأس العصير ، و رشفت رشفتين ، و أبقيته بين يدي حتى لا يعود لمسكي !

 

 

قال :

 

" فيم تفكرين ؟؟ "

 

التفت إليه أخيرا ... إذ أنني طوال الوقت كنت أتظاهر بمتابعة البرنامج ، قلت :

 

" مندمجة مع التلفاز ! "

 

 

سامر هز رأسه تكذيبا ، و قال :

 

" بل أنت في مكان آخر ! "

 

لم أستطع نفي الحقيقة ... فنظرت إلى كأس العصير ، و جعلت أهزه بعض الشيء ...

 

قال سامر :

 

 

" تختلفين عن دانة ... فهي متحمسة جدا للعرس ! أهناك ما يقلقك عزيزتي ؟؟ "

 

 

التزمت الصمت ، ما عساي أن أقول ؟؟؟

 

نعم هناك ما يكاد يخنقني !

 

أنا لا أريد الزواج منك ! هلا ّ أعفيتني من هذه المهمة الأبدية لو سمحت ؟؟

 

 

سامر أمسك بيدي الممسكتين بكأس العصير و قال :

 

" لا تقلقي ! كل شيء سيكون على ما يرام ! و ستكونين أجمل من دانه حتما ! "

 

في هذه اللحظة سمعنا تنحنحا فالتفتنا ناحية الباب ، و رأينا دانة تقف و تراقبنا باستنكار ... !

 

بمجرد أن نظرنا إليها قالت بحنق :

 

" سامر ! الويل لك ! من هي الأجمل مني ؟؟ سأريك ! "

 

 

سامر ضحك و سحب يديه عن يدي و قال :

 

" إنا أعني فتاة أخرى تدعى دانة ستتزوج في نفس ليلتنا ! "

 

قالت دانة :

 

" آه نعم صدّقتك ! أجل أعرفها ... و لها شقيق اسمه سامر ستقتله بعد دقيقتين ، و آخر اسمه وليد وصل إلى البيت قبل دقيقتين ! "

 

 

جفلت ، و توجس فؤادي خيفة ... قال سأل سامر منفعلا :

 

" هل وصل وليد حقا ؟؟ "

 

قالت :

 

" نعم وصل ! إنه في غرفة المعيشة ! "

 

 

عادة ً ما أحس بالحرارة لدى ذكر وليد على مسمعي أو في خاطري ، ألا أنني الآن شعرت بالبرودة !

 

البرودة في رجلي بالتحديد ... لأن كأس العصير البارد انزلق من يدي المرتعشتين و انسكب محتواه على ملابسي و رجلي !

 

 

دانة لاحظت وقوع الكأس من يدي ، قالت :

 

" ماذا فعلتِ ! أوه ... العصير الذي تعبت ُ في إعداده ! "

 

 

وقفت أنا و وقف سامر و أخذت أحدق في البقعة التي ظهرت على ملابسي !

أهذا وقته ؟؟

 

سامر قال :

 

" فداك ! "

 

ثم التفت إلى دانه و قال ...

 

" إلى وليد ! "

 

و ذهب مسرعا ليحيي شقيقه ...

 

دانة قالت و هي تنظر إلى ملابسي بشيء من السخرية :

 

" ألن تأتي لتحيته ؟؟ "

 

قلت :

 

" سأبدل ملابسي ... "

 

 

و مضيت نحو الباب فلما صرت قربها قلت :

 

" أرجو أن تغلقي باب غرفة الضيوف فأنا لا أضع حجابي "

 

 

دانة ذهبت إلى غرفة الضيوف ، فدخلت و أغلقت الباب ، بينما صعدت أنا ليس فقط لتبديل ملابسي ، بل و للاستحمام ، و غسل ملابسي ، و غسل عباءتي أيضا ، و عصرها ، و كيها كذلك !

 

 

شغلت نفسي بكل شيء و أي شيء يؤجل موعد اللقاء المحتوم ...

 

من قال أنني أريد أن أذهب للقائه ؟؟ من قال أنني أتحرق شوقا لرؤيته ؟؟

 

أنا لا أريد رؤية وجهه ثانية ... أبدا !

 

 

 

 

 

مضت ساعة و نصف ، و أنا في غرفتي أؤدي كل ما تقاعست عن تأديته خلال الأسابيع الماضية !

 

 

ألست عروسا على وشك الزواج ؟؟

 

لا ألام إذن إن أنا اعتنيت ببشرة وجهي ، و وضعت عليها الكريمات و المرطبات و المعالجات كلها واحدا تلو الآخر !

 

 

و بعدما فرغت منها ، و قفت أمام المرآة ... مصرة على تجريب علبة الماكياج الجديدة التي اقتنيتها مؤخرا !

 

أليس هذا من حقي ؟؟؟

 

 

طرق الباب و سمعت صوت دانة تناديني فأذنت لها بالدخول ...

 

 

دخلت و فوجئت بما كنت أصنع ! نظرت إلي بتعجب ... و قالت :

 

 

" بربك ! ما ذا تفعلين ؟؟ "

 

قلت و أنا أمشط رموش عيني بدقة :

 

" أتزين ! ما ترين !؟ "

 

قالت :

 

" تتزينين ! الآن ؟؟ "

 

قلت :

 

" ماذا في ذلك ؟؟

 

قالت :

 

" ألن تأتي لإلقاء التحية على وليد ؟؟ إنه يسأل عنك ! "

 

قلت :

 

" و أنا هكذا ؟ لا طبعا ... بلغيه تحياتي ... "

 

 

ثم انغمست في تلوين وجهي كما ألون لوحة أرسمها ... بمهارة ...

 

 

دانة كانت تحدثني باستنكار ، ألا أنها في النهاية تركتني و انصرفت ، و بمجرد ذهابها أقفلت الباب ، و رميت بالفرشاة جانبا و ارتميت على سريري ....

 

 

 

لماذا أتصرف بهذا الشكل الغبي ؟؟

 

لم أعد أفهم نفسي ... ألم أكن متلهفة لرؤيته ؟؟

 

ماذا جرى لي الآن ؟؟

 

 

 

جلست ، و نظرت من حولي فوجدت لوحات رسمي المتراكمة فوق بعضها البعض ... ذهبت إليها و استخرجت منها صورة وليد ... ذي العينين الحمراوين و الأنف المعقوف ...

 

 

لماذا لا يزال هنا معي ؟؟ لمَ لمْ أتخلص من هذه الصورة ؟؟

 

لماذا لا أحس بالحرارة الآن ؟؟

 

كم كان شعورا جميلا ... رائعا ...

 

و انتهى ...

 

 

 

و إن ْ هربت كل تلك المدة لم يكن باستطاعتي البقاء حبيسة الغرفة دون أن يستغرب البقية ذلك و يقلقون ...

 

 

أتت أمي إلي ، فتحت الباب لها فنظرتْ إلي ببعض الدهشة !

 

 

 

" رغد ... أتنوين استقبال أو زيارة إحدى صديقاتك ؟؟ "

 

" أنا ؟؟ لا أبدا "

 

" إذن ... لم هذه الزينة ! "

 

 

 

حتى أنتِ يا أمي ؟؟

 

هل يجب أن أتزين فقط و فقط حين أقابل صديقاتي ؟؟ لماذا تبقى دانة بكامل زينتها معظم الأوقات !

 

أهي أفضل مني ؟؟

 

قلت :

 

" هل هذا عيب !؟ أم ممنوع ؟؟ "

 

قالت :

 

" لا لم أقصد ، لكنك لا تفعلين هذا في العادة إلا لسبب ! "

 

قلت "

 

" كيف أبدو ؟؟ إنها ألوان الموضة ! "

 

قالت :

 

" جميلة طبعا ... لكن ... ألن تتناولي العشاء معنا ؟؟ "

 

" كلا ، لا أشعر بأي رغبة في الطعام ... "

 

" حسنا ... و لن تأتي للانضمام إلينا ؟؟ "

 

" لا أشعر بمزاج جيد للحديث يا أمي "

 

صمتت أمي قليلا ، ثم قالت :

 

" و لن تأتي ... لتحية وليد ؟؟ "

 

صمت أنا لبرهة ثم قلت :

 

" لم يرغب في وداعي ... إذن ... لا أرغب في استقباله ... أنا ... لا أطيق

 

مجالسة الكذابين "

عندما اقتربت من المنزل اتصلت بهاتفه فأجابني والدي ، و أخبرته أنني قد وصلت ...

 

والدي خرج لاستقبالي عند باب السور الخارجي للمنزل ، و طبعا استقبلني استقبالا شديد الحرارة !

 

بعدها ذهبت معه إلى غرفة المعيشة حيث وجدت أمي و أختي دانة ، و اللتين بدورهما رحبتا بي ترحيبا حميما ...

 

ثم ذهبت دانة لإبلاغ البقية عن وصولي

 

و البقية تعني : سامر + رغد ...

 

قالت :

 

" إنهما يختبئان في غرفة الضيوف ! سأفاجئهما ! "

 

كانت مازحة ، أو ربما جادة ، في كلا الحالتين هذا يشعرني بالانزعاج ... من أول لحظة !

 

جلست مع والدي ّ و سكبت لي أمي عصير البرتقال الطازج في أحد الكؤوس و قدمته لي ...

 

" تفضل بني ...هذا نصيبك "

 

نصيبي ؟؟ هل كانوا يحسبون لي حسابا ؟؟ إني أرى أربعة كؤوس شُرب محتواها ، و هذا كأسي الخامس ...

 

بعد قليل أقبل أخي سامر فاتحا ذراعيه ...

 

قمت و عانقته ، و منها شعرت بأول آلام المعدة !

 

قال :

 

" ما شاء الله ! ماذا كنت تأكل يا رجل ! إنك تنتفخ مرة بعد مرة ! "

 

الجميع ضحك ، و تمتمت والدتي بعبارات التهليل و التكبير و الصلوات !

 

قلت :

 

" هل أبدو سمينا لهذا الحد ؟؟ "

 

قال سامر :

 

" سمين ؟ لا ! بل عظيم البنية و مفتول العضلات ! يا رجل هل كنت تمارس رياضة حمل الأثقال أم ماذا ؟؟ "

 

قلت :

 

" كنت آكل بقرة مشوية كاملة كل يوم ! "

 

و هنا أقبلت دانة فدخلت و أغلقت الباب من بعدها و قالت مداعبة و موجهة حديثها إلى أبي :

 

" سيسبب لنا الإفلاس ! هات مصروفا آخر ! "

 

أبي قال و هو يضحك :

 

" أفلست ُ بسببك يا ابنتي ! أما كفاك كل ما أخذت ؟؟ "

 

قالت و هي تضحك :

 

" من قال لك أن تزوّج ثلاثة أبناء دفعة واحدة ! ؟ "

 

قال سامر :

 

" ما ذا لو انضم الكبير إلينا ! ؟ "

 

يقصدني بذلك !

 

أمي ابتسمت و نظرت إلي و قالت :

 

" دعوا الكبير لي ! لن أسلمه لامرأة ما و أنا لم أتهنى بعد به ! "

 

و ضحكنا جميعا ...

 

ربما هم يضحكون من قلوبهم لكنني أضحك مجاراة لهم ...

 

و أدور بعيني فيما بينهم ... و أشعر بشيء ناقص ...

 

طبعا تعرفون ما أعني !

 

 

الصغيرة المدللة لم تأت ِ لتحيتي و لا للعشاء معنا ، و الساعات تمر و هي في غرفتها و حين كررت سؤالي عنها لوالدتي بعد العشاء قالت :

 

" إنها منزعجة منك ! "

 

قلت :

 

" مني أنا ؟؟ "

 

" نعم ! فأنت على ما يبدو كنت قد وعدتها بألا تسافر دون وداعها ثم خرجت خلسة ! "

 

قالت دانة :

 

" دعك من هذه الفتاة المتدللة يا وليد ! لها ألف مزاج في اليوم الواحد ! يا إلهي كيف سأتحمل تصرفاتها وحدي طوال هاذين الأسبوعين ! "

 

سامر قال :

 

" حذار من القسوة على عروسي يا دانة ! و إلا حبستك في المطبخ ليلة زفافك ! "

 

 

الجميع كان يضحك بمرح ، ألا أنني كنت أشعر برغبة في غرس الشوكة التي أمسك بها في صدر شقيقي ...

 

توقفوا عن الحديث عن الزفاف المشؤوم هذا ... أفرغت الدنيا من المواضيع ؟؟

 

قلت مغيرا مسار الحديث الذي كان متمركزا حول الزواج المترقب :

 

" متى ستعودان من رحلة الحج تحديدا ؟ "

 

قال أبي :

 

" ليلة السابع عشر من شهر الحج إن شاء الله "

 

إنها فترة طويلة سأضطر لتمضيتها مع رغد تحت سقف واحد !

 

ليت الأيام تنقضي بسرعة !

 

 

رغد لم تظهر حتى الآن ... حقيقة هي أنني أنظر ناحية الباب بين الفينة و أختها و أرتقب طلوعها ...

 

 

كم اشتقت إليها ... ! هكذا بدون أي تكلّف و ادعاء ، أنا اشتقت إليها !

 

 

مرت الساعات و لم تظهر فتملكني الضيق و الانزعاج ... و لولا الحياء و الحرج لذهبت بنفسي إليها ... أهي غاضبة مني لهذا الحد حقا ؟؟

 

 

و الشخص الذي ذهب إليها كان بطبيعة الحال شقيقي ...

 

و بعد أن ذهب لم يعد ...

على الأريكة الضيقة رميت بجسدي فغرقت في أعماقها ... في غرفة الضيافة .

 

و للعجب نمت بسرعة لم أتوقعها ! و حين نهضت وجدت جسدي غارقا في العرق !

 

ساعات الصباح انقضت و الصغيرة لم تظهر ، أكاد أجن ... لم لا تأت لتحيتي و لو بشكل عابر ؟؟

 

على مائدة الغذاء انتظرت حضورها فلما لم أجدها سألت :

 

" أين رغد ؟؟ ألن تشاركنا ؟؟ "

 

 

دانة بدأت بالضحك ، قم قالت :

 

" إنها تقلي البطاطا ، فأطباقنا اليوم لم تعجبها و ستأكل البطاطا المقلية كالعادة ! "

 

 

نظرت نحو أمي و قلت :

 

" أرجو ألا أكون السبب في ... "

أمي هزّت رأسها نفيا و قالت :

 

" لا أبدا بني ! إنها لا تحب السمك كما تعلم كما و أنها كثيرا ما تتغيب عن المائدة خصوصا في الفترة الأخيرة ! "

 

قالت دانة بحدّة :

 

" تتدلّل ! "

 

قال أبي :

 

" دعوها تفعل ما تشاء "

 

قال سامر :

 

" سأستدعيها "

 

وقفت أنا و قلت :

 

" أنا سأستدعيها "

 

و تحركت فورا لأسبق سامر ...

 

حين وصلت إلى المطبخ وجدت الباب شبه مغلق . طرقته و قلت :

 

" أيمكنني الدخول ؟؟ "

 

سمعت صوت رغد يرد علي ...

 

" من أنت ! ؟ "

عجبا ! من أنا ؟؟ من عساي أكون !؟ بالطبع وليد ! قلت :

 

" وليد ! "

 

قالت :

 

" وليد ؟ لا ! "

 

ثم إذا بي أرى الباب يغلق بدفعة قوية !

 

تراجعت ُ للخلف خطوة و بقيت محدقا في الباب ...

 

هل تقصد أنها لا ترتدي الحجاب ؟

 

 

 

Link to comment
Share on other sites

الحلقه الثامنه و الثلاثون

 

 

قلت :

 

" هل أذهب ؟؟ "

 

قالت :

 

" ماذا تريد ؟ "

 

" فقط ... أن ألقي التحية و ... أسأل عن الأحوال "

 

" بخير و شكرا و اذهب "

 

 

شعرت بالحرج من ردها هذا ، فقلت معتذرا :

 

" سأذهب ، أنا آسف "

 

و استدرت منصرفا ...

 

فجأة سمعت الباب ينفتح من خلفي ، فالتفت إلى الوراء ...

 

 

هناك عند الفتحة ، رأيت عيني رغد تطلان علي !

 

ظهرت رغد واقفة أمامي ... بحجمها الصغير و وجهها الطفولي و حجابها الطويل الذي يكاد يصل إلى ركبتيها !

 

لدى رؤيتي لها بعد كل تلك المدة من الغياب شعرت بأن قلبي قد تخدّر و أعصابي قد تبلّدت ... و عضلاتي استرخت لبرهة كادت تفقدني توازني .

 

قلت بصوت خفيف و بابتسامة تفجرت على وجهي رغما عني :

 

" كيف حالك صغيرتي ؟؟ "

 

صغيرتي كانت تنظر إلي بنظرات ملؤها الغضب و الانزعاج ... كأنني أقرأ في وجهها كلمات اللوم و التأنيب و التوبيخ ... و الشتم أيضا !

 

 

قلت :

 

" أنا آسف ! "

 

رغد أشاحت بوجهها عني ، و استدارت و دخلت المطبخ ، تاركة الباب مفتوحا .

 

 

توجهت رغد نحو الموقد ، تحرك أصابع البطاطا في المقلاة ...

 

تجرأت و خطوت خطوة للداخل ، و خطوة أخرى فأخرى حتى صرت على مقربة من الوعاء الذي أعدته لوضع البطاطا المقلية فيه ...

 

هاهي الآن تضع أول دفعة من البطاطا فيه ... دون أن تلتفت إلي ...

 

 

قلت :

 

" تبدو شهية ! "

 

لم تعلّق !

 

قلت :

 

" أتسمحين لي بتذوقها ؟؟ "

 

قالت :

 

" تفضل "

 

طبعا دون أن تلتفت إلي ...

 

و لأنني كنت مخدّر الإحساس فأنا لم أشعر بحرارة البطاطا المقلية لا بين أصابعي و لا في فمي !

 

بل حتى طعمها لم أشعر به ، ألا أنني قلت :

 

" لذيذة ! "

 

قالت :

 

" خذها إن شئت "

 

" شكرا ، سأتناول الغذاء الآن "

 

بقيت صامتة و هي تخرج دفعات البطاطا واحدة بعد الأخرى حتى انتهت ...

 

ثم رفعت الطبق و وضعته على المائدة و سحبت الكرسي استعدادا للجلوس ...

 

قلت :

 

" ألن تأتي معنا ؟؟ "

 

قالت :

 

" لن آكل من أطباقكم "

 

قلت :

 

" تعالي بطبقك "

 

" لا داعي "

 

و جلست على الكرسي ، و انتظرت مغادرتي !

 

و عوضا عن الانصراف اقتربت ُ من الطاولة قليلا و قلت :

 

" صغيرتي ... هل أنتِ غاضبة مني ؟؟ "

 

لم تجب ...

 

قلت :

 

" أنا آسف ... سامحيني "

 

رغد الآن رفعت بصرها إلى و قالت بحنق :

 

" أطلب السماح ممن استهنت بعظمته لخداعي ... يا كذّاب "

 

 

كأنها خنجر مسموم طعنت كلماتها صدري بعنف ...

 

لم يكن أمامي إلا الانسحاب مخذولا ...

 

عدت وحيدا إلى من كانوا ينتظرون عودتي برغد ... و حين رأيت أعينهم جميعا تحدق بي بتساؤل ، قلت :

 

" لا تود الحضور ... "

 

و جلست على مقعدي و بدأنا تناول وجبتنا ...

 

لم يكن مضغ الطعام و بلعه من السهولة بمكان ... لقد اشتد على الألم، لا أدري أ بسبب الطعام الغير مهضوم ، أم بسبب الخناجر التي طعنت أحشائي ؟؟

 

ربما لاحظت والدتي شيئا فقد كانت تعلق :

 

" كل يا وليد ! ما بك لا تأكل ؟؟ "

 

من حين لآخر ...

 

هل يطيب لي الطعام و صغيرتي متخذة مني هذا الموقف ؟؟

 

في وقت لاحق ، اجتمعنا كلنا في غرفة المعيشة ، عدا رغد ...

 

والدي طلب من دانة استدعائها فهو يود قضاء الوقت معنا جميعا قبل السفر ... ذهبت دانة ثم عادت تقول :

 

" لا تريد الحضور ! و عندما قلت لها أنها تتصرف كالأطفال صرخت في وجهي ثم بدأت بالبكاء ! أوه خذاها معكما و خلصاني من سخافتها يا والدي ! "

 

جميعنا تبادلنا النظرات ...

 

والدي قال :

 

" دانة ... تحاشي الاصطدام بها يا بنيتي ، دعيها تفعل ما تشاء "

 

دانة قالت :

 

" كالعادة يا أبي ستقول لي ذلك ، حسنا، أنا لا شأن لي بهذه الطفلة الكبيرة ... أترك الأمر لوليد بالكامل حتى لا يتهمني أحد بأنني متعجرفة معها "

 

همّ سامر بالنهوض ألا أن أمي استوقفته و قامت هي ، و ذهبت إلى رغد ...

 

قال أبي موجها كلامه لي :

 

" اعتني بشقيقتيك جيدا يا بني ، دانة لن تتعبك في شيء ، فهي معتمدة على نفسها في تصريف أمورها ، لكن رغد ... معتمدة علينا كثيرا ... و طلباتها لا تنتهي ! "

 

قالت دانة معقبة :

 

" هذا لأنك تدللها كثيرا يا أبي ! كما الأطفال تماما ! "

 

والدي قال :

 

" دانة إياك و تعمّد مضايقتها ... رجاءً "

 

سامر قال :

 

" إياك ! "

 

دانة نقلت بصرها بين الاثنين ثم قالت :

 

" لا تخشيا على مدللتكما الصغيرة ! "

 

و التفتت نحو و قالت :

 

" ألقي عليك المسؤولية كاملة ! "

 

أنا وجدت الثلاثة يحملقون بي بمختلف التعبيرات المتقلبة على أوجههم ...

 

قلت بتردد :

 

" لا تقلقوا ... سيسير كل شيء على ما يرام ... "

 

بينما أنا في الداخل شديد القلق ...

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~ ~

 

 

 

 

 

 

 

 

أنا مستاءة بشكل لا يمكنكم تصوّره !

 

سأتزوج بعد ثلاثة أسابيع من سامر ، فيما يقف وليد إلى جانبي ليعتني بي أثناء ابتعاد أمي عني ...

 

ثلاثة أمور جعلتني في غاية التوتر خصوصا هذا اليوم ، و آخر شيء كنت لأتقبله هو كلمات السخرية من دانة التي ترددها منتقدة إياي ...

 

لم أحتمل كل ذلك و بدأت بالبكاء بشكل غريب !

 

هم يجلسون الآن معا يودعون بعضهم البعض و أنا قابعة هنا أبلل المناديل بالدموع المالحة المتدفقة بغزارة ...

 

أريد أن أبقى مع والديّ قبل رحيلهما !

 

ليت وليد يختفي !

 

ليتني أنا من يختفي !

 

ليتكم أنتم أيضا تختفون !

 

سمعت صوت والدتي تناديني ، من خلف الباب المغلق ...

 

" نعم أمي "

 

والدتي فتحت الباب و دخلت قبل أن تدع لي الفرصة لمسح دموعي ، و التي و إن مسحتها لا أسهل عليها من أن ترى آثارها مطبوعة على وجهي ...

 

أمي نظرت إلى بقلق و حيرة و قالت :

 

 

" و بعد ؟؟ ما نهاية حكايتك هذه ؟؟ ما بك يا رغد أخبريني ؟؟ "

 

" لا شيء أمي "

 

" إذن ... لم تحبسين نفسك في غرفتك و تسبحين في بركة الدموع هذه ؟؟ "

 

قلت بانفعال :

 

" لا شيء أمي لا شيء ... لا شيء ... لا شيء ... "

 

و انخرطت في البكاء باستسلام ...

 

لم أقاوم أو أواري أي دمعة تحدتني بالظهور ... بكيت بحرقة ... لم أعهدها من قبل ... لم أكن أشعر بمثل هذه الأشياء تتحرك في صدري قبل الآن ... لكنني أشعر الآن بصرخة كبيرة تود الانطلاق رغما عني ... إنني منهارة و أريد من يواسيني ...

من يسندني ... من يساعدني ... من ينقذني مما أنا مقبلة عليه ...

 

من ؟

من ؟؟

 

أمي أقبلت نحوي ، و مسحت بيدها الحنونة على رأسي و ربتت على كتفي بلطف

 

قالت :

 

" بنيتي ... أخبريني ما بك ... إنني قلقة عليك و لا أريد السفر قبل أن أطمئن ... ما بك ؟؟ مم أنت مستاءة ؟ "

 

 

أنظر إلى أمي ، فأرى في عينيها عالما كبيرا محيرا ... أرى فيها أكواما من القلق و الخوف ... و الخشية و الاضطراب ...

 

ليتك يا أمي تدخلين إلى أعماقي و ترين بنفسك ...

 

أترين يا أمي ؟؟

 

إنني لا أريد أن تسافري و تتركيني ...

 

أيقلقك ذلك ؟؟

 

إنني لا أريد الزواج من سامر ...

 

أيفجعك ذلك ؟؟

 

إنني أريد أن استعيد وليد ...

 

أيذهلك ذلك ؟؟

 

إنني أريد أن تعود أمي للحياة ...

 

أيقتلك ذلك ؟؟

 

إنني أموت ببطء يا والدتي ...

 

أيرضيك ذلك ؟؟

 

أموت و أنا لم أحي َ بعد ...

 

لم أولد بعد !

 

أترين كل ذلك يا أمي ؟؟

 

 

" لا شيء أمي ... لا شيء ... "

 

برقت دموع في عيني والدتي لتأثرها بحالتي هذه ، و الدموع في عين أمي هي شيء لا أحتمله مطلقا... مطلقا

 

مسحت دموعي بسرعة و قلت :

 

" أمي ... لا شيء صدقيني ، أنا فقط متأثرة لسفركما ، فهي أول مرة في حياتي تبتعدان فيها عني ... لا أتصور حياتي بدونكما "

 

والدتي ضمتني إلى صدرها و قالت :

 

" ستعيشين حياتك بسعادة و راحة مرضية ... لا تقلقي ... فابني سيعتني بك جيدا كما نفعل نحن ... الله قسم هكذا "

 

 

رفعت رأسي و نظرت إليها بشيء من الحيرة ... فكلماتها بدت غامضة ، فقالت هي:

 

" و الآن عزيزتي ... ألن تأتي لمجالسة والدك ؟ إن هي إلا فترة قصيرة ثم نسافر ! "

 

أجبت بإذعان :

 

" بلى "

 

و استدركت :

 

" وليد معكم ؟؟ "

 

قالت :

 

" بالتأكيد ... "

 

طبعا هو معهم ! أين يمكن أن يكون ؟؟

 

أخذت حجابي و سرت نحو المرآة لارتدائه ، و هالني منظر عيني الحمراوين و جفوني المتورمة !

 

تركت الحجاب جانبا و مضيت لأغسل وجهي ...

 

عندما خرجت من دورة المياه وجدت أمي تنتظرني ...

 

 

قالت :

 

" هيا عزيزتي ... "

 

ارتديت حجابي على عجل و أقبلت نحوها ...

 

قالت :

 

" سيسير كل شيء على ما يرام ، و إن احتجت شيئا لا تترددي في طلبه من دانة أو وليد أو سامر ... سنبقى على اتصال دائم "

 

 

بعدها ذهبنا إلى غرفة المعيشة ...

 

كانوا جميعهم مندمجين في الأحاديث المختلفة ، و ما أن رأونا حتى قال سامر :

 

" تعالي رغد ! كنا نوصي الكبير و العروس بك خيرا ! "

 

والدي قال موجها حديثه إلي و هو يبتسم بابتهاج :

 

" أهلا بالعزيزة المدللة ! تعالي و اجلسي قرب أبيك ليرتوي منك قبل السفر "

 

 

سرت ُ كالآلة نحو المقعد الذي يجلس عليه أبي و جلست إلى جواره ، ففتح ذراعه و أحاطني بها ...

قال :

 

" ما بك صغيرتي ؟ على الوجبات لست معنا ، و في الجلسات لا تشركينا ! ألن تشتاقي لشيبتي هذه ؟؟ "

 

سامر ضحك ، و دانة نظرت إلى السقف باستنكار ... و أمي ابتسمت ، أما الكائن الأخير فلم ألتفت نحوه لأعرف ما فعل !

 

 

قلت :

 

" بلى ... كثيرا جدا ! خذاني معكما ! "

 

قال سامر مداعبا :

 

" و أنا أيضا ! "

 

قالت دانة :

 

" ماذا عنّي ؟؟ "

 

قلت :

 

" نتركك مع المغرور ! "

 

ضحك من ضحك ، أما صوت وليد ـ و الذي كان خفيفا و مع هذا تمكنت مجسات أذني من التقاطه ـ فجاء في الكلمتين التاليتين :

 

" تقصدينني أنا ؟؟ "

 

و أجبرني سؤاله على الالتفات إليه ...

 

لقد كان ينظر إلي بغرابة ...

 

لم أرد عليه ، بل التفت إلى أبي

 

و دانة تولت الإيضاح بنفسها إذ قالت :

 

" بل تقصد خطيبي ... فهي لا تطيقه و تنعته بالمغرور دوما "

 

الآن أنا التفت إلى دانة و قلت بصوت حاد :

 

" على الأقل ... خير من الكذابين "

 

بعض الصمت خيم علينا لبعض الوقت ...

 

و بعض الندم شعرت ُ به لبعض الوقت !

 

قال أبي :

 

" و من الكذابون بعد يا ترى ؟؟ "

 

قلت :

 

" بعض معارفي يا أبي ! لا يطاقون ! ... "

 

و الآن تكلم وليد و قال :

 

" المغرورون ، و الكذابون ، و الخونة كذلك ... كلهم لا يطاقون ! "

 

التفت إلى وليد و قلت :

 

" من تقصد ؟؟ "

 

قال :

 

" بعض معارفي يا ابنة عمي ... لا يطاقون ! "

 

بدا كل هذا سخف ! أليس كذلك ؟؟

 

قال سامر :

 

" دعونا من هذا ... و لنعد إلى موضوعنا .. لدينا عروسان ، بالتالي موكبا زفاف ... أبي و وليد ، من سيقود موكب من ؟؟ دعونا نحدد الآن "

 

 

قلت أنا بسرعة :

 

" أنا أريد أبي "

 

التفت سامر نحو دانة و قال :

 

" إذن أنت مع وليد "

 

دانة نظرت إلى وليد و قالت :

 

" إذن يجب أن تستأجر سيارة فخمة من أجلي ! أفخم من سيارة سامر ! "

 

والدتي ضحكت و قالت :

 

" يا لتفكيركن العجيب يا فتيات هذا الزمن ! "

 

قالت دانة :

 

" لن أقبل بسيارة قديمة كهذه ! "

 

و وجهت كلامها إلى وليد قائلة :

 

" لم لا تستبدل سيارتك يا وليد ؟؟ لقد عثى عليها الدهر ! "

 

قال وليد :

 

" سأفعل ... عندما تتحسن الأحوال ! "

الأحوال بالتأكيد يقصد بها الأحوال المادية !

 

و لكن هل ابن عمي هذا ضئيل المال ؟؟ ألم يذهب للدراسة في الخارج ؟ لا بد أن لديه شهادة عظيمة تمكنه من احتلال وظيفة مرموقة ... ذات دخل محترم !

مثل سامر !

 

Link to comment
Share on other sites

الحلقة التاسعة والثلاثون

 

لا أدري ما كان يقصد بتحسن الأحوال هذه !

 

 

وليد قال :

 

" أ لديك دراسة هذه الفترة ؟ "

 

طبعا كان يقصدني ! لكنني تظاهرت بأنني لم أنتبه !

 

لذا قال والدي :

 

" نعم لمدة خمسة أيام قبل إجازة العيد ... ، ستأخذها للجامعة خلال هذه الأيام "

 

قال وليد :

 

" حسنا ، أهناك أي تغيير في مواعيدك ؟؟ "

 

الكل ينظر إلي بانتظار جوابي !

 

قلت بنفور :

 

" لا ، و لكنني أفكر في عدم الذهاب هذه الأيام "

 

قال وليد :

 

" لم ؟؟ "

 

قلت باستياء :

 

" ليس من شأنك "

 

بعض الصمت سكن الغرفة تلاه صوت أبي :

 

" لم لا تودين الذهاب رغد ؟؟ "

 

قلت :

 

" لا أريد ترك دانة وحيدة معظم النهار "

 

دانة نظرت إلي بتشكك و قالت :

 

" لا تكترثي بشأني ! سأقضي الوقت في إعداد الطعام و العناية بالمنزل ! "

 

ثم أضافت بجرأة :

 

" و التنزه مع نوّار ! "

 

قالت أمي :

 

" على ذكر الطعام ... ماذا عن كعكتك يا دانة ؟؟ "

 

قامت دانة و قالت :

 

" آه نعم ... سأحضرها لكم الآن ... "

 

و ذهبت إلى المطبخ ، فقمت أنا و لحقت بها ...

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

 

 

 

 

 

عادت دانة و رغد بعد قليل تحملان الكعكة و كؤوس العصير ... و قامتا بتوزيعها علينا جميعا ...

 

الذي آلمني هو أنها ـ أي صغيرتي رغد ـ كانت تعاملني بنفور شديد ... حتى أنها حين جاء دوري لأخذ كأس عصيري لم تدع لي المجال لأخذه ، بل أمسكت هي به و وضعته على المنضدة الماثلة أمامي بسرعة كادت تدلق محتوياته فوقها !

 

كانت الكعكة لذيذة جدا ... قلت :

 

" ما ألذها ! سلمت يداك يا دانة ! أنت ماهرة "

 

قالت دانة بزهو :

 

" شكرا يا أخي ، سترى ! سأذيقك أصنافا لذيذة من الحلويات فأنا ماهرة في إعدادها ! "

 

قلت :

 

" عظيم ! فأنا أحب الحلويات ! "

 

و التفت نحو رغد و قلت :

 

" و أنت ؟؟ "

 

رغد رفعت بصرها عن قطعة الكعك التي بين يديها ببطء ، و نظرت إلي بنفاذ صبر و قالت :

 

" أنا لا أحب الحلويات "

 

قلت :

 

" أقصد ماذا ستذيقيننا من صنع يدك ؟؟"

 

لم يبد على رغد أنها تريد تباديل الأحاديث معي ... قالت بضجر :

 

" لا شيء ... "

 

قالت دانة :

 

" إنها كسولة ! لا تحب الطهو و لا تجيده ! لا أعرف كيف ستتولى مسؤولية بيتها المستقبلي ! مسكين سامر ! "

 

ضحك سامر و قال :

 

" سأعود لأمي كلما قرصني الجوع ! "

 

و أخذ الجميع يضحكون عدانا أنا و هي ...

 

قالت دانة و هي تضحك :

 

" أو صبّر معدتك بالبطاطا المقلية المقرمشة ! "

 

و استمروا في الضحك بمرح ...

 

رغد وقفت الآن بغضب و قالت :

 

" أنتم تسخرون مني "

 

 

الجميع توقف عن الضحك ، و نظروا إليها باهتمام ... كانت منفعلة ...

 

قال سامر :

 

" لا عزيزتي نحن نمزح فقط ! "

 

قالت :

 

" بل تسخرون مني "

 

و توجم وجهها بما يوحي بدموع على وشك الانهمار ...

 

 

وقفت أنا و قلت :

 

" معذرة ... صغيرتي "

 

 

التفتت رغد نحوي بعصبية و قالت بحدة :

 

" أنت أسكت ... آخر من يُسمح له بالكلام "

 

صعقت بهذا الرد الجارح و علاني الصمت العميق ...

 

الجو صار مشحونا بتيارات متعارضة متضاربة ، و النظرات أخذت تصطدم ببعضها محدثا فرقعة !

 

و الآن ؟؟

 

خرجت رغد مسرعة من الغرفة في غضب و استياء ...

 

بقينا بعد خروجها بعض الوقت صامتين منصتين لفرقعة نظراتنا الحائرة !

 

وقف سامر هاما باللحاق بها ، ألا أن أمي طلبت منه أن يلتزم مكانه ...

 

" دعوها فهي اليوم في مزاج شديد التعكر "

 

قالت هذا أمي ، فعقبت دانة :

 

" اليوم فقط ؟؟ بل كل يوم ! لا أدري ما ذا جرى لهذه الفتاة مؤخرا ! "

 

كنت أنا لا أزال واقفا أنظر ناحية الباب ...

 

قالت أمي :

 

" اجلس بني ! "

 

فجلست على طرف المعقد مشدود العضلات ... على أهبة النهوض !

 

تنهد أبي و قال أبي :

 

" أمرها يقلقني "

 

قالت أمي :

 

" و أنا كذلك ، لست ُ مطمئنة للسفر و تركها ! "

 

قالت دانة :

 

" خذاها معكما ! أنا لا أطيق تصرفاتها هذه ! "

 

أبي التفت إلي و قال :

 

" احرص في التعامل معها ... كن حليما ... "

 

قالت دانة :

 

" إنها لا تزال غاضبة منك ! كان الله في عونك على مراسها هذا ! "

 

بعد قليل آن أوان مغادرة والدي و سامر ، الذي سينقلهما إلى المطار ثم يذهب إلى شقته في المدينة الأخرى ...

 

 

أخذت أحمل الحقائب و أنقلها إلى سيارة أخي ، و عندما انتهيت من وضع الحقيبة الأخيرة و دخلت المنزل وجدت والدتي تقف عند الباب الداخلي ...

 

قالت :

 

" أعطاك الله العافية يا بني "

 

" عافاك الله أماه "

 

هممت بالدخول ألا أن أمي أمسكت بذراعي و استوقفتني ...

 

" وليد "

 

نظرت إليها بحيرة ... قلت :

 

" نعم أمي ؟؟ "

 

أمي تحدثت بصوت منخفض ، و بنبرة جدية ... و تعبيرات قلقة ، قالت :

 

" انتبه لرغد جيدا يا بني "

 

تعجبت ! قلت :

 

" بالطبع أمي ! "

 

أمي بدا المزيد من القلق جليا على وجهها و قالت :

 

" كنا سنؤجل حجنا للعام التالي لكن ... كتبه الله لنا هذا العام ... هكذا قضت الظروف يا بني "

 

و هذا زادني حيرة !

 

قالت :

 

" لو أن الظروف سارت على غير ذلك ... لكانت الأوضاع مختلفة الآن ... لكنه قضاء الله يا ولدي ... سأدعوه في بيته العظيم بأن يعوّضك خيرا مما فاتك ...

فلنحمده على ما قسم و أعطى "

 

 

قلت :

 

" الـ ... حمد لله على كل شيء ... أمي أنت ِ تلمحين لشيء معين ؟؟ "

 

قالت :

 

" لم تتغير هي عمّا تركتها عليه قبل سنين ... كما لم تتغير أنت ... "

 

ثم أضافت :

 

" ألا أن الظروف هي التي تغيرت ... و أصبح لكل منكما طريقه ... "

 

 

توهج وجهي منفعلا مع كلمات أمي و الحقيقة الصارخة أمامي ...

 

 

لم أستطع البنس ببنت شفة أمام نظرات أمي التي كشفت بواطن نفسي ...

 

 

قالت :

 

 

" اعتن بها كما يعتني أي شقيق بشقيقته ... كما تعتني بدانة ، و ادع معي الله أن يسعدهم هم الثلاثة ، و أنت معهم "

 

 

في هذه اللحظة فتح الباب و ظهر بقية أفراد عائلتي بما فيهم رغد ، و خرجوا واحدا تلو الآخر ... و اجتمعنا قرب بعضنا البعض في وداع مؤلم جدا ...

 

 

بالنسبة لي ، فقد اعتدت فراق أحبتي و جمدت عيناي عن أي دموع

 

أما البقية فقد كانت الدموع تغرق مشاعرهم ...

 

كلمات أمي ...

 

و كلمات أبي كذلك

 

و توصيتهما الشديدة على الفتاتين

 

و خصوصا رغد ، جعلتني أشعر بالخوف ...

 

فهل أنا أهل لتحمل مسؤولية هذا البيت و من به في حين غياب والدي ّ ؟؟

 

و هل هي مسؤولية خطرة تقتضي منهما كل هذه التوصيات و التنبيهات ؟؟

 

خرج الثلاثة ، فعدنا نحن الثلاثة إلى الداخل ... و قضيت وقتا لا بأس أراقب دموع الفتاتين ...

 

 

كنا نجلس في غرفة المعيشة ... و الحزن يخيم على الأجواء فشعرت بالضيق

 

قمت بتشغيل التلفاز فرأيت مشهدا مريعا لآثار قصف تعرضت له إحدى المدن هذا اليوم ... فزاد ذلك ضيقي ...

 

كم كنت مرتاحا هانئا في مزرعة نديم !

 

ليتني أعود إلى هناك !

 

قلت ـ في محاولة لتغيير الأجواء و طرد الكآبة ـ

 

" ما رأيكما بالذهاب في نزهة بالسيارة ؟؟ "

 

 

دانة تفهمت و قدّرت الأمر ، فقالت :

 

" نعم يا ليت ! هيا بنا "

 

نظرت إلى رغد أنتظر جوابها ، لكنها ظلت صامتة ...

 

قلت :

 

" ما رأيك ؟ "

 

قالت بصوت حاد و نبرة جافة مزعجة :

 

" لا أريد الذهاب لأي مكان "

 

دانة قالت :

 

" إذن سنذهب و أنت ابقي هنا "

 

رغد بسرعة التفتت إلى دانة و قالت :

 

" تتركاني وحدي ؟؟ "

 

قالت دانة :

 

" ما نصنع معك ؟؟ أنا بحاجة لبعض الهواء المنعش ... أما أن تأتي معنا أو ابقي مخنوقة وحدك "

 

وقفت رغد منفعلة و قالت :

 

" كان علي ّ أن أذهب معهما ... كم كنت غبية ... ليتني ألحق بهما الآن "

 

وقفت أنا و حاولت تهدئة الوضع فقلت :

 

" لا بأس ... سنؤجل نزهتنا لوقت لاحق ... لا تنزعجي هكذا صغيرتي "

 

رغد التفتت نحوي بعصبية و قالت صارخة :

 

" لا شأن لك أنت بي ... مفهوم ؟؟ لا تظن أنك أصبحت مسؤولا عني ... لا تزعج نفسك في تمثيل دور المعتني فهذا لم يعد يناسبك ... يا كذّاب "

 

 

 

اللهم استعنا بك على الشقاء !

 

 

 

ذهبت الصغيرة الغاضبة إلى غرفتها ... و بقيت مع دانة التي بدت مستاءة جدا من تصرف رغد ... اقترحت عليها بعد ذلك الجلوس في الفناء الخارجي فرحبت بالفكرة

 

خرجنا معا و جلسنا على المقاعد القريبة من الشجرة ... و بدأنا نتحدث عن أمور شتى ...

 

أخبرت دانة عن مزرعة صديق لي قمت بزيارتها مؤخرا و أعجبتني ... و عن متفرقات من حياتي ... ألا أنني لم أشر إلى السجن ، و لا ما يتعلق به ...

 

شقيقتي بدت متلهفة لمعرفة كل شيء عني ! و كأنها اكتشفت فجأة أن لديها شقيق يستحق الاهتمام و الفخر !

اعتقد أنها كانت تنظر إلي بإعجاب و فخر بالفعل !

 

بعد مدة حضرت رغد ...

 

كانت عيناها حمراوين ..

.

قالت :

 

" دانة ، مكالمة لك "

 

أجابت دانة :

 

" من ؟؟ "

 

قالت رغد :

 

" من غيره ؟ خطيبك المبجل "

 

دانة نهضت بسرور و استأذنت للدخول ...

 

 

و لحقت بها رغد بعد ثوان ، و بقيت وحيدا إلى أن سمعت ُ الآذان يرفع ...

 

 

دخلت ُ بعدها و استعددت للخروج لتأدية الصلاة في المسجد المجاور . كانت دانة في غرفتها أما رغد فأظنها في غرفة المعيشة !

 

خرجت إلى الفناء و فيما أنا أعبره نحو البوابة الخارجية سمعت صوت نافذة يفتح و نداء باسمي

 

" وليد "

 

التفت نحو الصوت فإذا بها رغد تطل من النافذة المشرفة على الفناء و تقول :

 

" إلى أين تذهب ؟؟ "

 

قلت :

 

" إلى المسجد "

 

قالت :

 

" ستتركنا وحدنا ؟؟ "

 

حرت في أمري !

 

قلت :

 

" هل هناك مشكلة ؟؟ سأصلي و أعود فورا ... تعالي و أوصدي البابين ... "

 

وافتني بعد قليل و وقفت عند البوابة و بيدها المفتاح .

 

قالت :

 

" لا تتأخر "

 

قلت :

 

" حسنا "

 

و عندما عدت بعد أداء الصلاة كانت هي من فتح الباب لي ...

 

قدّمت لي مفتاحين و قالت :

 

" هذا لبوابة السور و هذا للباب الداخلي ، احتفظ بهما "

 

" شكرا لك "

 

تولت رغد قاصدة دخول المنزل فناديتها

 

" رغد "

 

التفتت إلي ، و قالت بنفس ضائقة :

 

" نعم ؟؟ "

 

قلت :

 

" أما زلت ِ غاضبة مني ؟؟ كيف لي أن أكسب عفوك ؟؟ "

 

قالت :

 

" لا يفرق الأمر معي شيئا "

 

و همّت بالانصراف ، قلت :

 

" لكنه يفرق معي كثيرا "

 

توقفت و قالت :

 

" حقا ؟؟ "

 

" نعم بالتأكيد ... "

" هذا شأنك ... لا دخل لي به "

 

و انصرفت ...

 

 

الواضح أنني سألاقي وقتا عصيبا ... كان الله في عوني ...

 

بعد ساعات ، أعدت دانة مائدة العشاء و لم تشاركنا رغد فيه ... لقد مضت الليلة الأولى من ليالي تولي ّ مسؤولية هذا المنزل على هذه الحال ..

 

 

في الصباح التالي كنت أجلس مع دانة في المطبخ ، و رغد على ما يبدو لا تزال نائمة ...

 

قلت :

 

" أخبريني دانة ... كيف أقدم المساعدة ؟؟ فأنا أجهل الأمور المنزلية ! "

 

ضحكت دانة و قالت :

 

" لا تهتم ! أنا أستطيع تولي الأمور وحدي ! "

 

" أرغب في المساعدة فأنا بلا شاغل ! أخبريني فقط بما علي فعله ! "

 

و باشرت المساعدة في أعمال المنزل !

 

ليس الأمر سيئا كما قد يظنه البعض ، كما أنه ليس من تخصص النساء فقط !

 

 

كنت أرتب الأواني في أرففها الخاصة حين دخلت رغد إلى المطبخ ...

 

 

كانت دانة آنذاك تفتش في محتويات الثلاجة ...

 

 

قالت رغد :

 

" صباح الخير "

 

التفتنا لها و رددنا التحية . الحمد لله ، تبدو أكثر هدوءا هذا الصباح !

 

 

قالت دانة :

 

" تناولنا فطورنا قبلك ! "

 

قالت رغد :

 

" غير مهم "

 

قالت دانة و هي لا تزال تقلب بصرها في محتويات الثلاجة :

 

" إنني حائرة ما أطهو للغذاء اليوم !؟ ماذا تودان ؟؟ "

 

 

Link to comment
Share on other sites

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

Guest
الرد على هذا الموضوع...

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

Loading...

×
×
  • Create New...