Jump to content
منتدى البحرين اليوم

انت لي ....... يا وليد


Recommended Posts

أعد الدقائق واحدة تلو الأخرى ، في انتظار وصول وليد...

 

رغم أنها مجرد أيام، تلك التي فصلت بيننا مذ لقائنا الأخير ، ألا أنني أشعر بها كالشهور ...لا بل كالسنين ... نعم كالسنين التي قضيتها محرومة من رؤيته ، و معتقدة بأنه سافر يدرس.. بينما كان ...

 

 

كلما جالت هذه الخاطرة برأسي طردتها مسرعة ، و أجبرت نفسي على الفرح .. فهو سيصل اليوم في أية لحظة...

 

سامر تحاشى الحديث معي منذ الصباح، إنه فقط مهتم بالإعدادات للحفلة البسيطة ، و قد قام هو و دانة بترتيب مائدة في الصالة ، لاستقبال الرجال ، و أخرى في غرفة المجلس ، لاستقبال السيدات .

 

 

حاولت مساعدتهم ألا أنني كنت متعبة من آثار الصدمة التي تلقيتها مؤخرا و لم تسعفني قواي البدنية على فعل شيء أكثر من المراقبة عن كثب..

 

 

 

بعد تأدية صلاة العشاء ، أتتني دانة لتتحدث معي الحديث الأخير... قبل فراقنا..

 

ابتداء من هذه الليلة ، سوف لن يكون لدي أخت ٌ أتشاجر معها ! من سيعلّق على مظهري كلما ارتديت شيئا جديدا، من سيوبّخني كلما أخطأت ! من سيغار مني و أغار منه؟؟

 

من سيعلمني أشياء أجهلها و يفتح عيني على الحياة... دانة كانت بالنسبة لي .. الباب إلى الحياة ، فأنا لم أعرف من هذه الدنيا شيئا إلا عن طريقها...

 

و رغم أن الفرق بين عمرينا هو سنتان و نصف ، ألا أنني أشعر بنفسي صغيرة جدا أمامها .. و أحسها أختي الكبرى و معلّمتي الحبيبة ...

 

لذا ، عندما دخلت الغرفة و أنا لا أزال مرتدية حجاب الصلاة و قالت :

 

 

" سأتخلص منك أخيرا ! "

 

انفجرنا ضحكا ، ثم بكاء ... شديدا جدا .. جعل سامر يقف عند الباب مذهولا حائرا !

 

" لمن ستتركينني دانة ؟ سأبقى وحيدة منعزلة عن العالم من بعدك ! "

 

" هنيئا لك ! ستنفردين برعاية أبي و تدليله ! أنت مثل القطة رغد ! مهما كبرت تظلين تعشقين الدلال ! كان الله في عون الرجل الذي ستتزوجينه ! "

 

الآن صارت تشير إليه بالمجهول ! لم تذكر اسم سامر .. فهي إذن اقتنعت أخيرا بأن سامر لم يعد لي ...

 

نظرت أنا نحو سامر فوجدت وجهه المشوه غارقا في الحزن ... و كرهت نفسي...

كرهت قدري.. و ظروفي التي انتهت بي و به إلى هذه الحال...

 

 

أعدت نظري إلى دانة .. نظرة استغاثة.. استنجاد.. أريد من ينقذني من هذا كله.. فوجدت على وجهها ابتسامة خفيفة ، و سمعتها تهمس :

 

" على كل ٍ ، هو يحب تدليلك كثيرا ! "

 

ابتسمت ُ ، و ضممتها إلي ، و أنا أشعر بأنها المرة الأولى التي تفهمني فيها...

 

رباه ! كيف تغيّرت بهذا الشكل بين ليلة و ضحاها ؟؟

 

هل يعني أنها موافقة على و راضية عن انفصالي عن سامر ، و ارتباطي بوليد؟؟ هل تدرك هي أنني أحب وليد و وليد فقط؟؟

 

وليد قلبي ...

 

آه كم أنا متلهفة لرؤيتك ...

 

عد بسرعة .. اظهر فورا .. فقد أضناني الشوق و الحرمان ...

 

 

 

 

قمت بعد ذلك و لبست فستانا أهداني إياه سامر من أجل الحفلة ، و ووضعت بعض الحلي ، و التي أيضا أهداني إياها سامر... و ارتديت حذاء عالي الكعب جدا ، كالعادة ، و بصراحة .. أهداني إياه سامر أيضا !

 

 

ألا أنني لم أضع أيا من المساحيق على وجهي ، فأنا أريد مقابلة وليد قلبي وجها لوجه ...

بدوت مسرورة ، أحوم حولهما كالفراشة ... و عندما حضر الضيوف أحسنت استقبالهم و قدت النساء إلى المجلس ... كانت أم نوار و أخواته، لمياء و بشرى و رحاب ، في غاية الأناقة و الجمال.. يرتدين ملابس مبهرة و حلي كثيرة .. و قد تلوّنت وجوههن بالماكياج المتقن جدا !

 

شعرت ببعض الخجل من نفسي لكوني بلا ألوان ! مع ذلك ، أبدو جميلة فلا تلتفتوا لهذا الأمر !

 

 

حضرت العروس بعد ذلك ، في قمة الأناقة و الروعة .. و أخذنا نلتقط العديد من الصور التذكارية ، و سأظهر جميلة رغم كل شيء !

 

 

مر الوقت .. و مع انقضاء كل ساعة ينقضي خيط أمل في حضور وليد.. لماذا لم يحضر بعد ؟؟ أحقا سيأتي أم أنه ...

 

 

ذهبت إلى المطبخ لجلب المزيد من العصائر فإذا بي أصادف سامر هناك ، يحمل أطباق الجلي ...

 

قلت :

 

" ألم يحضر وليد ؟؟ "

 

سامر تظاهر بالابتسام و قال :

 

" ليس بعد "

 

قلت :

 

" هل أنت واثق من حضوره ؟ هل قال أنه آت ٍ بالفعل ؟؟ "

 

" قال أن لديه ارتباطات و مشاغل أخرى ، لكنه سيحاول الحضور ... "

 

نظرت إلى الساعة المعلقة على جدار المطبخ بيأس...

 

قال سامر :

 

" لا يزال الوقت مبكرا ... لا تقلقي... "

 

ثم غادر المطبخ ...

 

___________________

 

اعتقد إن من حقّي أن آخذ هذه المساحة بين السطور .. لأصف لكم مشاعري المجروحة ...

 

إذا كان هناك رجل تعيس في الدنيا فهو أنا.. كيف لا و أنا أرى مخطوبتي.. محبوبتي رغد.. تعد الدقائق بلهفة في انتظار عودة وليد.. حبيب قلبها الغالي..

 

 

أصبت بجنون ما بعده جنون ، حين اعترفت لي و بلسانها أنها تحبه هو.. و أنه السبب في قرارها الانفصال عني ، بعد خطوبة استمرت أربع سنوات أو يزيد...

 

أربع سنوات من الشوق و اللهفة.. و الحب و الهيام.. في انتظار الليلة التي تجمعنا أنا و هي.. عريسين في عش الزوجية.. ثم يأتي وليد.. و في غضون شهور أو ربما أيام .. يسرق قلبها مني !

 

رغد لم تقل لي من قبل : ( أنا أحبك ) ، و لكنها لم تقل : ( أنا لا أحبك ) ..

بل كانت الأمور فيما بيننا تجري على خير ما يرام .. حتى أخبرني وليد نفسه ذات ليلة بأنها ترغب في تأجيل زواجنا...

 

الشيء الذي لا أعرفه حتى هذه اللحظة ، ما إذا كان وليد يعرف بحبها له أو يبادلها الشعور ذاته ، أم لا ...

 

أنا أعرف أنه يحبها و يهتم بها كأخت.. أو ابنة عم .. أما كحبيبة.. كزوجة .. فهذا ما لا أعرفه و لن أحتمل صدمة معرفته ، إن كان يحبها بالطريقة التي أحبها أنا بها..

 

 

أتذكر أنها في اليوم الذي عرض عليها ارتباطنا قبل سنين قالت : ( لننتظر وليد أولا )

 

و لأنه كان من المفترض ألا يعود إلا بعد أكثر من عشر سنين من ذلك الوقت، فإننا عقدنا قراننا بموافقة الجميع...

 

و أنا أنظر إليها هذه اللحظة و هي تراقب الساعة ، أشعر بأن خلايا قلبي تتمزّق خلية ، بل ... و أنويتها تنشطر .. و ذراتها تتبعثر حول المجرّة بأكملها ...

 

لماذا فعلت ِ هذا بي يا رغد ؟؟

 

إن كنت تجهلين ، فأنا أحبك حبا لا يمكن لأي رجل في الدنيا أن يحمل في قلبه حبا مثله..

 

حبا يجعلني أدوس على مشاعري و أحرق أحاسيسي رغما عنها ، لأجعلك تحيين الحياة التي تريدينها مع الشخص الذي تختارينه..

 

و ليته كان أنا...

 

و إن اكتشفت أن وليد لا يكترث لك ، فإنني لن أقف صامتا ، و أدعك تبعثرين مشاعرَ أنا الأولى بها من أي رجل على وجه المعمورة ، بل سآخذك معي.. و أحيطك بكل ما أودع الله قلوب البشر من حب و مودة ، و أحملك إلى السحاب .. و إن شئت ِ .. أتحوّل إلى وليد .. أو إلى أي رجل آخر تريدين أن تصبي مشاعرك في قلبه ... فقط.. اقبلي بي...

 

 

غادرت المطبخ على عجل ، لئلا أدع الفرصة لرغد لرؤية العبرة المتلألئة في محجري...

 

نعم ، سأبكي لتضحكي أنت ... و سأحزن لتفرحي أنت .. و سأنكسر لتنجبري أنت .. و سأموت ... لتحيي أنت... يا حبيبة لم يعرف الفؤاد قبلها حبيبة .. و لا بعدها حبيبة .. و لا مثلها حبيبة... و سيفنى الفؤاد ، و تبقى هي الحبيبة .. و هي الحبيبة .. و هي الحبيبة ...

 

عندما وصل وليد، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر و خمس و أربعون دقيقة، أي قبل ربع ساعة من ولادة يوم جديد.. خال من رغد ...

 

 

 

قرع الجرس ، فأقبلت نحو الباب و سألت عن الطارق ، فأجاب :

 

" أنا وليد "

 

جمّدت مشاعري تحت طبقة من الجليد ، لا تقل سماكة عن الطبقات التي تغطي المحيط المتجمّد الجنوبي... و فتحت الباب ..

 

تلك الطبقة انصهرت شيئا فشيئا ، لا بل دفعة واحدة حين وقعت عيناي على الشخصين الواقفين خلفه ، وليد ، و الفتاة الشقراء !

 

 

" مرحبا ، سامر ... "

 

بصعوبة استطعت رد التحية و دعوتهما للدخول ...

 

وليد كان يرى الدهشة الجلية على وجهي مجردة من أي مداراة مفتعلة !

 

قال ، و هو يشير إلى الفتاة الواقفة إلى جانبه تبتسم بهدوء :

 

" أروى نديم ، تعرفها "

 

قلت :

 

" أأ .. أجل ... "

 

قال :

 

" خطيبتي "

 

و من القطب الجنوبي ، إلى أفريقيا الاستوائية !

 

 

اعتقد أنكم تستطيعون تصوّر الموقف خيرا من أي وصف أنقله لكم !

 

" خـ ... طيبتك !! "

 

" نعم ، ارتبطنا البارحة "

 

نظرت إلى الفتاة غير مصدّق ، أطلب منها تأكيدا على الكلام ، ابتسمت هي و نظرت نحو وليد ..

 

وليد قال :

 

" أ لن تبارك لنا ؟؟ "

 

" أأ ... نعم ...طبعا ... لكنني تفاجأت ، تفضلا على العموم ، مبروك لكما .. "

 

و قدتهما أولا إلى المجلس ، حيث النسوة...

 

طرقت الباب و أنا أنادي أختي دانة... ، فتحت هذه الأخيرة لي الباب و خرجت من فتحته الضيقة ، و حالما أغلقته انتبهت لوليد ...

 

" وليد ! "

 

أشرق وجهها و تفجرت الأسارير عليه .. ثم فتحت ذراعيها و أطبقت عليه معانقة إياه عناقا حميما...

 

" نعم .. كنت أعلم بأنك ستأتي و لن تخذلني ، فأنت لم تخذلني ليلة خطوبتي.. أنا سعيدة جدا.. "

 

وليد قال :

 

" مبروك عزيزتي... أتم الله سعادتك و بارك لك زواجك .. "

 

بعد ذلك ، رفعت رأسها لتنظر إليه ، ثم دفنته في صدره و هي تقول :

 

" سامحني... لم أكن أعلم .. سامحني يا أخي الحبيب .. أنا فخورة بك.. و أتباهى أمام جميع المخلوقات .. بأن لي أخا مثلك.. سامحني .. "

 

وليد ربت على ظهر دانة بحنان ، و إن كانت الدهشة و الحيرة تعلوان وجهه ، و قال مواسيا :

 

" لا بأس عزيزتي .. لا تبكي و إلا أفسدت ِ زينتك ، و غير المغرور رأيه بك ! "

 

رفعت دانة رأسها و انفجرت ضحكا ، و وكزته بمرفقها و هي تقول :

 

" لم تتغير ! سوف أطلب من نوّار أن يضربك قبل خروجنا ! "

 

قلت أنا :

 

" احذري ! و إلا خرج عريسك بعاهة مستديمة ! "

 

و ضحكنا بانفعال نحن الثلاثة...

 

التفت وليد للوراء حتى ظهرت خطيبته الجديدة ، و التي كانت تقف على بعد خطوات ...

 

قال :

 

" اقتربي أروى "

 

اقتربت الفتاة و هي تنظر نحو العروس ، و تحييها ..

 

" مبروك دانة ! كم أنت جميلة ! "

 

دانة حملقت في الفتاة قليلا ثم قالت محدثة وليد :

 

" هل حضرت عائلة المزارع ؟؟ "

 

وليد قال :

 

" أروى فقط.. "

 

فتعجبت دانة ، فوضّح :

 

" خطيبتي "

 

طغى الذهول على وجهها ربما أكثر مني ، قالت باستغراب شديد :

 

" خطيبتك !! "

 

قال وليد :

 

" نعم ، عقدنا قراننا البارحة... باركي لنا "

 

الاضطراب تملّك دانة ، و حارت في أمرها و لزمت الصمت لوهلة ، ألا أنها أخيرا تحدّثت :

 

" فاجأتماني ...بشدّة ! ... مبروك على كل حال "

 

و كان واضحا لنا، أو على الأقل واضحا لي استياؤها من المفاجأة...

 

قلت :

 

" فلتتفضل الآنسة ... "

 

دانة التفتت إلى أروى و قالت :

 

" تفضلي "

 

و فتحت الباب لتسمح لها بالدخول ... و قالت مخاطبة إيّاي :

 

" رغد في غرفتها .. ذهبت لاستبدال فيلم الكاميرا ... "

 

و كان القلق جليا على ملامحها ...

 

قال وليد :

 

" جيد ! أ أستطيع رؤيتها ؟؟ "

 

تبادلنا أنا و دانة النظرات ذات المعنى .. و قالت هي :

 

" نعم ، سأدخل لأقدّم أروى للجميع "

 

و دخلت الغرفة و أغلقت الباب تاركة إياي في المأزق بمفردي !

 

وليد التفت إلي و قال :

 

" أريد إلقاء التحية عليها.. إن أمكن "

 

أنا يا من كنت أدرك أنها تنتظره بلهفة منذ ساعات... و أنها ستطير فرحا متى ما رأته .. لم أملك من الأمر شيئا ..

 

قلت باستسلام :

 

" أجل ، تفضل ... "

 

و قدت ُ بنفسي ، حبيب خطيبتي إلى غرفتها لكي تقابله ...

 

طرقت الباب و قلت :

 

" رغد .. وليد معي "

 

قاصدا أن أنبهها لحضوره ، لكي ترتدي حجابها..

 

ألا أنني ما كدت أتم الجملة ، حتى انفتح الباب باندفاع سريع ، و ظهرت من خلفه رغد على حالها .. و هتفت بقوة :

 

" وليد ! "

 

 

أي رجل في هذا العالم ، يحمل ذرة حب واحدة لخطيبته ، أو حتى ذرة شعور بالملكية و الغيرة ، فإنه في لحظة كهذه سيرفع كفيه و يصفع وجهي الشخصين الماثلين أمامه في مشهد حميم كهذا ... ألا أنني أنا ... سامر العاشق المسلوب الحبيبة .. المغطّي لمشاعره بطبقة من الجليد .. وقفت ساكنا بلا حراك و بلا أي ردّة فعل .. أراقب خطيبتي و هي ترتمي في حضن أخي بقوة .. و تهتف بانفعال :

 

" وليد .. لماذا لم تخبرني .. لماذا .. لماذا .. "

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~

 

 

 

 

 

و إن كنت أتظاهر بالبرود و الصمود ، ألا أن ما بداخلي كان يشتعل كالحمم...

 

و إن كنت أتظاهر بأنني فقط أود إلقاء التحية ، فإن حقيقة ما بداخلي هي أنني متلهف لرؤية صغيرتي الحبيبة و الإحساس بوجودها قريبة مني ...

 

لقد كنت أسير خطوة خطوة.. و مع كل خطوة أفقد مقدارا من قوتي كما يفقد قلبي السيطرة على خفقاته ، فتأتي هذه الأخيرة عشوائية غير منظمة .. تسبق الواحدة منها الأخرى...

 

و حين فتح الباب.. كنت قد أحرقت آخر عصب من جسدي من شدة التوتر.. لدرجة أنني لم أعد أحس بشيء..

 

أي شيء ..

 

لم أع ِ إلا و قذيفة ملتهبة قوية تضرب صدري .. تكاد تكسر ضلوعي و تخترق قلبي...

 

بل إنها اخترقته ..

 

فرغد لم تكن تقف أمامي بل .. كانت تجلس في قلبي متربعة على عرش الحكم.. تزيد و تنقص ضرباته قدر ما تشاء .. تعبث بأعصابه كيفما تشاء.. تسيّر أحاسيسه حسبما تريد...

 

و لأنني كنت مذهولا و فاقدا للسيطرة على حركاتي تماما ، فقد بقيت ساكنا.. دون أي ردّة فعل ...

 

 

كان صدري مثل البحر .. غاصت صغيرتي في أعماقه و قطعته طولا و عرضا .. و خرجت منه مبللة بالدموع و هي تنظر إلي و تهتف :

 

" لماذا لم تخبرني ؟؟ لماذا يا وليد ؟ لم أخفيت عنّي كل هذه السنين ؟؟ "

 

شيء ما بدأ يتحرّك في دماغي المغلق .. و يفتح أبواب الوعي و الإدراك لما يدور من حولي ...

 

بدأت أنتبه لما تقوله صغيرتي .. و بدأت أحس بأظافرها المغروسة في لوحي كتفي ّ كالمسامير ... و بدأت أرى اللآليء المتناثرة من محجريها ... أغلى ما في كوني ...

 

لا شعوريا رفعت يدي إلى وجهها أردم سيل العبر ...

 

" لا تبكي صغيرتي أرجوك .. "

 

فأنا أتحمّل أي شيء في هذه الدنيا ، إلا أن أرى دموع غاليتي تتبعثر سدى...

 

إنني أشعر بحرارة شديدة أجهل مصدرها الحقيقي ...

 

أهو داخلي ؟ أم حضن صغيرتي ؟ أم الشرر المتطاير من عيني ّ أخي، اللتين تحملقان بنا بحدّة..

 

رغد أزاحت يديها عني ، و ابتعدت خطوة.. و ذلك أثار توترا في المسافة التي بيننا.. تماما كالتوتر الذي يولّده ابتعاد قطعة حديد صغيرة عن مغناطيس !

 

قالت :

 

" لقد اكتشفت ذلك الآن فقط .. لماذا لم تخبرني بأنك .. بأنك .. كنت في السجن ؟؟ "

 

و إن كانت مشاعري قبل قليل مخدّرة من تأثير قرب رغد ، فإنها استيقظت كلها دفعة واحدة فجأة.. و تهيّجت .. فصرت أشعر بكل شيء ، حتى بحرارة البراكين الخامدة في اليابان !

 

نقلت نظري من رغد ، إلى سامر ، إلى رغد ، إلى سامر ... و حين استقرّت عيناي عليه، رأيت قنبلة متوهجة ، على وشك الانفجار...

 

لطفك يا رب ...

 

قلت أخيرا :

 

" أنت من أخبرها ؟؟ "

 

سامر لم يجب بكلمة ، بل بإيماءة و تنهيدة قوية نفثها صدره .. و شعرت أيضا بحرارتها...

 

أعدت النظر إلى رغد.. فاسترسلت في سؤال :

 

" لماذا لم تخبرني؟؟ "

 

أخبرك ؟؟ بأي شيء يا رغد ؟؟ أ لم تري الطريقة التي عاملتني بها دانة ، بل و الناس أجمعون؟

 

أتراك تنظرين إلي ّ الآن مثلهم ؟؟

 

لا يا رغد .. أرجوك لا ..

 

قلت بلا حول و لا قوة :

 

" ما حصل..، لكن... أرجو ألا يغيّر ذلك أي شيء ؟؟ "

 

و انتظرت إجابتها بقلق...

 

قالت :

 

" بل يغيّر كل شيء ... "

 

و أذهلتني هذه الإجابة بوضوحها و غموضها المقترنين في آن واحد...

 

قالت:

 

" وليد ... وليد أنا ... "

 

و لم تتم ، إذ أن دانة ظهرت في الصورة الآن مقبلة نحو غرفة رغد.. و تكسوها علامات القلق...

 

جالت بمقلتيها بيننا نحن الثلاثة و استقرت على سامر...

شعرت أنا بأن هناك شيء يدور في الخفاء أجهله ...

 

سألت :

 

" ما الأمر ؟؟ "

 

لم يجب أي منهم بادىء ذي بدء ألا أن دانة قالت أخيرا، مديرة دفة الحديث لمنعطف آخر:

 

" رغد ! الكاميرا ! سنستدعي نوّار الآن ! "

 

ثم التفتت نحو سامر :

 

" إنه منتصف الليل ! هيا استدعه ! "

 

و يبدو أن ترتيباتهم كانت على هذا النحو ، أن يدخل العريس إلى تلك الغرفة لالتقاط بعض الصور مع العروس و مع قريباته قبل المغادرة "

 

سامر نطق أخيرا :

 

" سأستدعيه... أخبريهن "

 

و رغد تحرّكت الآن من أمامي متجهة نحو المنضدة و من فوقها تناولت الكاميرا و أقبلت نحو دانة و مدّت الكاميرا إليها ، فقالت دانة:

 

" أعطها لسامر الآن .. "

 

التفتت رغد نحو سامر .. و قدّمتها إليه...

 

سامر نظر إلى رغد نظرة عميقة.. جعلتها تطأطىء رأسها أرضا ...

 

أخذ سامر الكاميرا منها.. و قال ..

 

" سنلتقط له معنا بعض الصور ثم نعيدها إليكن .. "

 

قال ذلك و وجه خطاه نحو الصالة...

 

هممت ُ أنا باللحاق به... ألا أنني توقفت ، و التفت إلى رغد ... و قلت :

 

" كيف قدمك الآن ؟ "

 

رغد و التي كانت لا تزال مطأطئة برأسها رفعته أخيرا و نظرت إلي مبتسمة و قالت :

 

" طاب الجرح... "

 

قلت :

 

" الحمد لله "

 

ثم أوليتها ظهري منصرفا إلى حيث انصرف أخي ...

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~ ~ [/colo_______

 

كنت مجنونة، لكنني لم أتمالك نفسي بعدما رأيت وليد يقف أمامي... بطوله و عرضه و شحمه.. جسده و أطرافه... و عينيه و أنفه المعقوف أيضا ...

 

كأن سنينا قد انقضت مذ رأيته آخر مرة ، ينصرف من هذه الشقة جريحا مكسور الخاطر ...

 

اندفعت إليه بجنون... و أي جنون !

 

ظللت أراقبه و هو يوّلي .. حتى اختفى عن ناظري.. و بقيت محدّقة في الموضع الذي كان كتفاه العريضان يظهران عنده قبل اختفائه،و كأنني لازلت أبصر الكتفين لأمامي !

 

" رغد ! "

 

نادتني دانة ، فحررت أنظاري من ذلك الموضع و التفت إليها... و رأيتها تحدّق بي و علامات غريبة على وجهها...

 

أنا ابتسمت .. لقد قرّت عيني برؤية وليد قلبي.. و لأنه هنا ...، فقط لأنه هنا ، فإن هذا يعطيني أكبر سبب في الحياة لابتسم !

 

 

لا أعرف لم كانت نظرة دانة غريبة.. ممزوجة بالأسى و القلق.. قلت :

 

" ما بك ؟ "

 

" لا ... لا شيء "

 

" سأغسل وجهي و أوافيكن... "

 

و أسرعت قاصدة الحمّام ... طائرة كالحمامة !

 

 

بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة المجلس...مرتدية حجابي ، إذ أنني سأبقى لأتفرج على العريسين و لمياء تلتقط الصور لهما..

 

جميعهن كن يجلسن في أماكنهن كما تركتهن قبل قليل، نظرن إلي ّ جميعا حالما دخلت.. فابتسمت في وجوههن...

 

فجأة لمحت وجها غريبا في غير موقعه !

 

وجه أروى الحسناء !

 

دُهشت و علاني التعجب ! وقفت هي مبتسمة و قائلة :

 

" مرحبا رغد ! كيف حالك ؟ و كيف صحتك ؟؟ "

 

" أروى ! "

 

" مفاجأة أليس كذلك ؟؟ "

 

اقتربت منها و صافحتها و الدهشة تتملكني...و نظرت في أوجه الأخريات بحثا عن وجه أم أروى ... أو حتى وجه العجوز !

 

قلت :

 

" أهلا بك ! أحضرت ِ بمفردك ؟؟ "

 

ابتسمت و قالت :

 

" مع وليد "

 

مع من ؟؟ مع وليد ؟؟ ماذا تقصد هذه الفتاة ؟؟

 

" مع وليد ؟؟ "

 

ازدادت ابتسامتها اتساعا و حمرة وجنتيها حمرة و بريق عينيها بريقا ... و التفتت نحو دانة ثم نحوي و قالت :

 

" ألم تخبرك دانة ؟؟ "

 

التفت نحو دانة و أنا في غاية الدهشة و القلق.. و رميتها بنظرات متسائلة حائرة..

دانة أيضا نظرت إلي بنفس القلق.. ثم قالت :

 

" إنها ... إنها و وليد... "

 

و لم تتم...

 

نظرت إلى أروى ، فسمعتها تقول متمة جملة دانة ، تلك الجملة التي قضت علي و أرسلتني للهلاك فورا :

 

" ارتبطنا .. البارحة "

 

 

عفوا ؟؟ عفوا ؟؟ فأنا ما عدت أسمع جيدا من هول ما سمعت أذناي مؤخرا ! ماذا تقول هذه الفتاة ؟؟

 

" ماذا ؟؟ "

 

و رأيتها تبتسم و تقول :

 

" مفاجأة ! أ ليس كذلك ؟؟ "

 

نظرت إلى دانة لتسعفني ...

 

دانة أنقذيني مما تهذي به هذه ... ما الذي تقوله فلغتها غريبة.. و شكلها غريب.. و وجودها في هذا المكان غريب أيضا...

 

دانة نظرت إلي بحزن ، لا ... بل بشفقة ، ثم أرسلت أنظارها إلى الأرض...

 

غير صحيح !

 

غير ممكن .. مستحيل ... لا لن أصدّق ...

 

" أنت و .. وليد ماذا ؟؟ ار... تبطـ.. ـتما ؟؟ "

 

" نعم ، البارحة ..و جئت معه كي أبارك للعريسين زواجهما.."

 

 

خطوة إلى الوراء، ثم خطوة أخرى.. يقترب الباب مني، ثم ينفتح.. ثم أرى نفسي أخرج عبره.. ثم أرى الجدران تتمايل.. و السقف يهوي.. و الأرض تقترب مني.. و الدنيا تظلم.. تظلم.. تظلم..و يختفي كل شيء...

 

 

" سامر .. تعال بسرعة"

 

هتاف شخص ٌ ما.. يدوي في رأسي.. أيدي أشخاص ما تمسك بي.. أذرع أشخاص ما تحملني.. و تضعني فوق شيء ما.. مريح و واسع..

أكفف تضرب وجهي.. أصوات تناديني.. صياح.. دموع.. لا ليست دموع.. إنها قطرات من الماء ترش على وجهي.. أفتح عيني.. فأرى الصورة غير واضحة.. كل شيء مما حولي يتمايل و يتداخل ببعضه البعض.. الوجوه، الأيدي.. السقف.. الجدران.. أغمض عيني بشدة.. أحرّك يدي و أضعها فوق عيني ّ .. لا أتحمل النور المتسلل عبر جفنيّ .. أشعر بدوار.. سأتقيأ.. ابتعدوا.. ابتعدوا...

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~

 

 

 

 

 

عندما استردّت رغد وعيها كاملا، كان ذلك بعد بضع دقائق من حضورنا إلى الممر و رؤيتنا لها مرمية على الأرض...

 

كنا قد سمعنا صوت ارتطام ، شيء ما بالأرض أو الجدران ، ثم سمعنا صوت دانة تهتف :

 

" سامر ..تعال بسرعة"

 

قفزنا نحن الاثنان، أنا و سامر هو يهرول و أنا أهرول خلفه تلقائيا حتى وصلنا إلى هناك..

دانة كانت ترفع رأس رغد على رجلها و تضرب وجهها محاولة إيقاظها.. و رغد كانت مغشي عليها...

 

 

أسرعنا إليها ، و مددت أنا يدي و انتشلتها عن الأرض بسرعة و نقلتها إلى سريرها و جميعنا نهتف

 

" رغد.. أفيقي... "

 

صرخت :

 

" ماذا حدث لها ؟؟ "

 

دانة أسرعت نحو دورة المياه، و عادت بمنديل مبلل عصرته فوق وجه رغد، و التي كانت تفتح عينيها و تغمضهما مرارا...

 

استردت رغد وعيها و أخذت تجول ببصرها فيما حولها.. و تنظر إلينا واحدا عقب الآخر...

 

قال سامر :

 

" سلامتك حبيبتي... هل تأذيت ؟؟ "

 

قالت دانة :

 

" أأنت على ما يرام رغد ؟؟ "

 

قلت أنا :

 

" ما ذا حدث صغيرتي ؟؟ "

 

نظرت رغد إلي نظرة غريبة.. ثم جلست و صاحت :

 

" سأتقيأ "

 

 

 

بعدما هدأت من نوبة التقيؤ ، وضعت رأسها على صدر سامر و طوقته بذراعيها و أخذت تبكي ...

 

سامر أخذ يمسح على رأسها المغطى بالحجاب... و يتمتم :

 

" يكفي حبيبتي، اهدئي أرجوك.. فداك أي شيء..."

 

قلت :

 

" صغيرتي ؟؟ "

 

رغد غمرت وجهها في صدر سامر... مبلله ملابسه بالدموع..

 

" صغيرتي ..؟؟ "

 

" دعوني وحدي.. دعوني وحدي .. "

 

و أجهشت بكاء شديدا...

 

لم أعزم الحراك و لم استطعه، ألا أن دانة قالت لي :

 

" لنخرج وليد "

 

قلت بقلق :

 

" ماذا حدث يا دانة ؟؟ "

 

قالت :

 

" قلت لك... إنها مريضة! هذه المرة الثالثة التي يغشى عليها فيها منذ الأمس... "

 

صعقني هذا النبأ..

 

قلت مخاطبا رغد:

 

" رغد هل أنت بخير..؟؟ "

 

لم تلتف إلي ، بل غاصت برأسها أكثر و أكثر في صدر سامر و قالت :

 

" دعوني وحدي... دعوني وحدي.."

 

 

 

يد دانة الآن أمسكت بيدي ، و حثّتني على السير إلى الخارج، ثم أغلقت الباب...

 

حاولت التحدث معها ألا أنها اعترضت حديثي قائلة :

 

" سوف أعود لأطمئن ضيفاتي.. وليد استدع نوّار ... "

 

 

و انصرفت...

 

بقيت واقفا عند باب غرفة رغد غير قادر على التزحزح خطوة واحدة.. ماذا حل ّ بصغيرتي ؟؟ و لماذا تتشبث بسامر بهذا الشكل ؟؟ هل صحتها في خطر؟ هل عدلت عن فك ارتباطها به ؟ ماذا يحدث من حولي..؟؟

 

 

لحظات و إذا بي أرى دانة تظهر من جديد

 

" وليد أ لم تتحرك بعد ! هيا استدعه "

 

" حسنا.. "

 

و عدت إلى صالة الرجال، و رأيتهم أيضا متوترين يتساءلون عما حدث، طمأنتهم و استدعيت العريس و قدته إلى مجلس النساء.. حيث قامت والدته أو إحدى شقيقاته بالتقاط الصور التذكارية لهن مع العريسين...

 

أروى كانت بالداخل أيضا..

 

عدت إلى بقية الضيوف و أنا مشغول البال .. بالكاد ابتسم ابتسامة مفتعلة في وجه من ينظر إلي...

 

 

فيما بعد، جاء نوّار و قال :

 

" سننطلق إلى الفندق الآن.."

 

و كان من المفروض أن يسير موكب العريسين إلى أحد الفنادق الراقية، حيث سيقضي العريسان ليلتهما قبل السفر يوم الغد مع بقية أفراد عائلة العريس إلى البلدة المجاورة و من ثم يستقلون طائرة راحلين إلى الخارج...

 

 

سامر كان من المفترض أن يقود هذا الموكب..

 

ذهبت إلى غرفة رغد.. و طرقت الباب..

 

" سامر.. العريسان يودان الذهاب الآن.."

 

فتح الباب، و خرج سامر.. ينظر إلي بنظرة ريب ..

 

قلت:

 

" كيف رغد؟؟ "

 

قال بجمود :

 

" أفضل قليلا"

 

أردت أن أدخل للاطمئنان عليها، لكن سامر كان يقف سادا الباب.. حائلا دون تقدّمي و تحرجت من استئذانه بالدخول..

 

قلت :

 

" إنهما يودان الانصراف الآن... "

 

سامر نظر إلي ّ بحيرة .. ثم قال :

 

" أتستطيع مرافقتهما ؟؟ "

 

" أنا ؟؟ "

 

" نعم يا وليد، فرغد لن تتمكن من الذهاب معنا و علي البقاء معها "

 

فزعت، و قلت:

 

" أهي بحالة سيئة؟ "

 

" لا، لكنها لن ترافقنا ، بالتالي سأبقى هنا "

 

" إنني أجهل الطريق.. "

 

" اطلب من أحد أخوته مرافقتكم..."

 

لم تبد لي فكرة حسنة، قلت معترضا:

 

" اذهب أنت يا سامر، و أنا باق هنا مع رغد و أروى..."

 

 

 

 

أقبلت دانة الآن، و سألت عن حال رغد، ثم دخلت إلى غرفتها...

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~

" أنا تعيسة جدا "

 

كان هذا جوابي على سؤال دانة التي أتتني بقلق لتطمئن علي..

 

دانة جلست إلى جواري على السرير و أخذت تواسيني.. ألا أن شيئا لا يمكنه مواساتي في الصاعقة التي أحلّت بي...

 

 

" أرجوك يا رغد.. كفى عزيزتي.. ألن تودّعينني ؟ إنني راحلة عنك للأبد ! "

 

و جاءت جملتها قاصمة لظهري...

 

" لا ! لا تذهبي و تتركيني ! سأكون وحيدة ! أريد أمي .. أريد أمي..."

 

و بكيت بتهيج..

 

" يكفي يا رغد ستجعلينني أبكي و أنا عروس في ليلة زفافي التعسة ! "

 

انتبهت لنفسي أخيرا.. كيف سمحت لنفسي بإتعاس أختي العروس في أهم ليالي عمرها؟ ألا يكفي أنها حرمت من حفل الزفاف الضخم الذي كانت تعد له منذ شهور... و خسرت كل ملابسها و حليها و أغراض زفافها.. و احترق فستان العرس تحت أنقاب المدينة المدمّرة !؟

 

طردت بسرعة الدموع المتطفلة على وجهي، و أظهرت ابتسامة مفتعلة لا أساس لها من الصحة و قلت :

 

" عزيزتي سأفتقدك ! ألف مبروك دانة "

 

تعانقنا عناقا طويلا.. عناق الفراق.. فبعد أكثر من 15 عاما من الملازمة المستمرة 30 يوما في الشهر، نفترق..و دموعنا مختلطة مع القبل...

 

 

 

قدم سامر.. و قال :

 

" هيا دانة .. "

 

صافحتها و قبلتها للمرة الأخيرة... ثم جاء دور سامر، و من ثمّ الرجل الضخم الذي كان يقف في الخارج عند الباب مباشرة...

 

لم استطع أن ألقي عليه و لا نظرة واحدة.. لم أشأ أن أنهار من جديد.. اضطجعت على سريري، و سحبت الغطاء حتى أخفيت وجهي أسفل منه...

 

 

سمعت سامر يقول :

 

" سآخذهما للفندق و أعود مباشرة.. وليد و خطيبته سيبقيان معك "

 

و لم تهز في ّ هذه الجملة شعرة واحدة ، بل أغمضت عيني و أنا أقول :

 

" سأنام.."

 

أحسست بالجميع يغادرون الغرفة و يغلقون الباب، ثم اختفت الأصوات و الحركات.. لقد غادر جميع الضيوف.. و في الشقة لم يبق إلا أنا.. و وليد.. و الأجنبية الدخيلة...

 

 

دخلت في نوم عميق أشبه بالغيبوبة.. ألا أنني في لحظة ما..أحسست بدخول شخص ما إلى الغرفة.. و اقترابه مني.. ثم شعرت بيد تمتد إلى لحافي فتضبطه فوقي، ثم تمسح على رأسي من فوق حجابي الذي لم أنزعه، ثم توهمت سماع همس في أذني ...

 

" أحلام سعيدة يا حبيبتي"

 

و ابتعد المجهول.. و سمعت صوت انغلاق الباب..

 

فتحت عيني الآن فوجدت الغرفة غارقة في السكون و الظلام.. هل كان ذلك وهما؟؟ هل كان تهيؤا ؟؟ حلما؟؟

لست أكيدة..

و إن كان حقيقة ، فالشيء الذي سأكون أكيدة منه ، هو أن الشخص كان سامر...

 

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~ ~ ____________________________

استخدمت غرفتي السابقة بينما جعلت أروى تستعمل غرفة العروس، للمبيت تلك الليلة...

 

لقد كنت شديد القلق على صغيرتي .. و لم أنم كما يجب..

 

كنا قد قررنا البقاء ليومين قبل معاودة الرحيل، و كان هذان اليومان من أسوأ أيام حياتي !

 

رغد كانت مريضة جدا و ملازمة للفراش، و سامر كان يمنعني من الدخول إلى غرفتها أغلب المرات، و في المرات القليلة التي سمح لي بإلقاء نظرة، كنت أرى رغد شاحبة جدا و مكتئبة للغاية ، ترفض الحديث معي و تطلب منا تركها بمفردها

ضاق صدري للحالة التي كانت عليها و سألت سامر:

 

" ماذا حدث لها ؟ هل حدث شيء تخفونه عني؟ لم هي كئيبة هكذا؟؟ هل آذاها أحد بشيء ؟؟ "

 

قال سامر :

 

" إنها كئيبة لفراق دانة ، فكما تعرف كانت تلازمها كالظل... "

 

" لكن ليس لهذا الحد.. أنا أشعر بأن في الأمر سر ما.. "

 

نظر إلي شقيقي نظرة ارتياب و قال :

 

" أي سر؟؟ "

 

قلت :

 

" ليتني أعرف... "

 

كنا خلال هذين اليومين نتناول وجباتنا أنا و أروى في المطاعم، و في الليلة الأخيرة، عندما عدنا من المطعم ، وجدنا رغد و سامر في غرفة المائدة يتناولان العشاء...

 

فرحت كثيرا، فهي علامة جيدة مشيرة إلى تحسّن الصغيرة..

 

قلت :

 

" صغيرتي.. حمدا لله على سلامتك، أتشعرين بتحسّن ؟؟ "

 

رغد نظرت نحوي بجمود ، ثم نحو أروى ، ثم وقفت ، و غادرت الغرفة ذاهبة إلى غرفة نومها...

 

وقف سامر الآن و نظر إلي بعصبية :

 

" أ هذا جيّد؟ ما كدت أصدق أنها قبلت أخيرا تناول وجبة.. "

 

قلت بانزعاج :

 

" هذه حال لا يصبر عليها، لسوف آخذها إلى الطبيب.. "

 

و سرت مسرعا نحو غرفتها ، فأقبل شقيقي من بعدي مسرعا :

 

" هيه أنت.. إلي أين ؟؟ "

 

التفت إليه و قلت :

 

"سآخذ الفتاة للمستشفى "

 

قال بغيظ :

 

" من تظن نفسك؟ ألا تراني أمامك؟؟ خطيبتك هي تلك و ليست هذه "

 

قلت مزمجرا :

 

" قبل أن تكون خطيبتك هي ابنة عمّي ، و إن كنت نسيت فأذكرك بأنها ستنفصل عنك، و لتعلم إن كنت جاهلا بأن أمورها كلها تهمني و أنا مسؤول عنها كليا ، مثل والدي تماما "

 

و هممت بمد يدي لطرق الباب و من ثم فتحه ، ألا أن سامر ثار... و أمسك بيدي و أبعدها بقوة..

 

تحررت من مسكته و هممت بفتح الباب ألا أنه صرخ :

 

" ابتعد "

 

و قرن الصرخة بانقضاض على ذراعي، و سحب لي بقوة...

 

دفعت به بعيدا عني فارتطم بالجدار، ثم ارتد إلي و لكمني بقبضته في بطني لكمة عنيفة...

 

اشتعلت المعركة فيما بيننا و دخلنا في دوامة جنونية من الضرب و الركل و اللطم و الرفس..

 

أروى واقفة تنظر إلينا بذهول.. و باب غرفة رغد انفتح .. و ظهرت منه رغد مفزوعة تنظر إلينا باستنكار و توتّر

 

" سامر... وليد... يكفي ... "

 

ألا أن أحدنا لم يتوقّف...

 

في العراك السابق كان سامر يستسلم لضرباتي .. أما الآن ، فأجده شانا الهجوم علي و يضربني بغيظ و بغض.. كأن بداخله ثأرا يود اقتصاصه مني...

 

 

بعد لحظات من العراك، و يد الغلبة لي، و أنا ممسك بذراع أخي ألويها للوراء و أؤلمه ، جاءت رغد تركض نحوي صارخة :

 

" أترك خطيبي أيها المتوحّش "

 

و رأيت يديها تمتدان إلي ، تحاولان تخليص سامر من بين يدي...

 

أمسكت بذراعي و شدّتني بقوة، فحررت أخي من قبضتي و استدرت لأواجهها...

 

صرخت بوجهي :

 

" وحش.. مجرم.. قاتل.. أكرهك.. أكرهك.. أكرهك "

 

و بقبضتيها كلتيهما راحت تضربني على صدري بانفعال ضربة بعد ضربة بعد ضربة... و أنا وقف كالجبل بلا حراك.. أشاهد.. و اسمع.. و أحس.. و أتألم..

و أحترق... و أتزلزل ... و أموت....

 

يتبع.......

Link to comment
Share on other sites

  • Replies 69
  • Created
  • Last Reply

Top Posters In This Topic

بعد سيل الضربات القوية التي وجهتها إلى صدر وليد ، بانفعال و ثورة.. بغضب و غيظ و قهر.. شعرت بألم في يدي ّ كان هو ما جعلني أوقف ذلك السيل...

 

رفعت رأسي إليه، فرأيته ينظر إلي بجمود .. لم تهزه ضرباتي و لم توجعه!

من أي نوع من الحجر أنت مخلوق؟؟ من أي نوع من المعادن صدرك مصنوع؟؟ ألا تحس بي؟؟

 

عيناي كانتا مغرورقتين بالعبرات الحارقة.. تمنيت لو يمسحها.. تمنيت لو يضمني إلى صدره..

 

تمنيت.. لو أصحو من النوم ، فأكتشف أن أروى هي مجرد حلم.. وهم .. لا وجود له..و كم كانت أمان ٍ مستحيلة التحقق...

 

كان وليد ينظر إلي بعمق، كانت نظراته تنم عن الحزن.. و الاستسلام... فهو لم يقاومني و لا يبعدني.. بل تركني في ثورة غضبي أفرغ على صدره دون إدراك.. كل ما كتمته من غيظ مذ علمت بنبأ ارتباطه...

 

ابتعدت عنه، التفت إلى سامر، ثم إلى أروى، ثم إلى وليد مجددا... ثم ركضت داخلة غرفتي و صافعة الباب بقوة...

 

لم أسمح لسامر بالدخول عندما أراد ذلك بعد قليل، و بقيت أبكي لساعات...

 

في اليوم التالي، عندما خرجت من غرفتي قاصدة المطبخ، لمحت غرفة دانة سابقا ، الدخيلة حاليا مفتوحة الباب...

 

اقتربت منها بحذر .. و ألقيت نظرة شاملة عليها كانت خالية من أي أحد ..

 

أسرعت نحو غرفة وليد.. فوجدتها الأخرى مفتوحة و لا وجود لأي شيء يشير إلى أن وليد لم يرحل...

 

ركضت بسرعة نحو الصالة، رأيت سامر يجلس هناك شاردا ..

حين رآني ، ابتسم و وقف و ألقى علي تحية الصباح ..

 

قلت بسرعة :

 

" أين وليد ؟؟ "

 

ألقى علي سامر نظرة متألمة ثم قال :

 

" رحل "

 

صعقت ... هتفت :

 

" رحل ؟؟ متى ؟؟ "

 

قال :

 

" قبل قليل.. "

 

مستحيل ! لا ... غير ممكن ...

 

صرخت :

 

" لماذا تركته يرحل ؟؟ "

 

نظر إلي سامر بحيرة ..صرخت مجددا :

 

" لماذا تركته يرحل ؟؟ "

 

قال سامر مستاء ً :

 

" و هل كنت تتوقعين مني أن أربطه إلى المقعد حتى لا يذهب ؟ أخذ خطيبته و أغراضهما و ولا خارجين دون سلام "

 

صرخت :

 

" كان يجب أن تمنعه ! الحق به.. دعه يعود .. أعده إلي حالا "

 

سامر هتف بعصبية :

 

" لا تثيري جنوني يا رغد.. ماذا تريدين به ؟ لقد تزوّج من أخرى و قضي الأمر "

 

صرخت بقوة :

 

" لا "

 

" رغد ! "

 

" لن أصدّق.. إنكم تكذبون ... كلكم تكذبون.. وليد لم يرتبط بأحد.. وليد لم يدخل السجن.. وليد لم يقتل أحدا.. وليد لن يتخلّى عني...لن يبتعد عني.. أعده إلي.. أعده إلي..أعده إلي.. "

 

و انهرت باكية..حسرة على وليد قلبي

 

و على هذه الحال بقيت أياما... اشتد علي المرض و السقم.. و تدهورت حالتي النفسية كثيرا..كما ساءت حالة سامر و أصبح عصبيا جدا..و صرنا نتشاجر كل يوم..و الحال بيننا لا تطاق..

 

ما زاد الأمر سوءا هو أننا كلما اتصلنا بوالدي ّ وجدنا الهاتف مغلقا، و عندما اتصلنا بالفندق الذي كانا ينزلان به أُبلغنا بأنهما قد غادراه...

 

انقطعت أخبارهما عنا عدة أيام و حلّ التوتر الفظيع علينا و امتزجت المشاكل و المخاوف و المشاجرات مع بعضها البعض، و تحوّلت حياتنا أنا و سامر إلى جحيم... و جحيمنا صار يتفاقم و يتضاعف يوما بعد يوم، إلى أن طغى الطوفان المدمّر و حلّت الصاعقة الكبرى...أخيرا...

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~

 

التحقت بمعهد إداري في مبنى قريب من المزرعة، و بتوفيق من الله أولا ، ثم بمساعدة من العم إلياس و السيدة ليندا، أصبحت طالبا رسميا في المعهد.

 

الحياة بدت مختلفة، و كل شيء سار على خير ما يرام، حظيت أخيرا بشيء من الراحة و السعادة..

خطيبتي..كانت إنسان رائع جدا.. في الأخلاق و الطيبة و المشاعر و الجمال و كل شيء... نعمة من رب السماء ..

 

حاولت جاهدا أن أصرف مشاعري نحوها... و أودع فيها ما يكنه قلبي من الحب و الحنان ، ألا أن رغد.. لم تسمح لي بذلك...

 

فقد كانت محتلة القلب من أول وريد إلى آخر شريان...و بُعدها و صحتها المتدهورة ما زاداني إلا تعلقا بها و لهفة إليها... و كلما تسللت يداي إلى الهاتف، و أدارتا رقم الشقة، ذكرني عقلي بكلماتها الأخيرة القاتلة... فوضعت السماعة و ابتعدت ...

 

لم أتصل للسؤال عن أي فرد من أسرتي، و أقنعت نفسي بأنني لم أعد أنتمي إليهم.. و أن عائلتي الحقيقية هي عائلة نديم رحمه الله...

 

لذلك ، حين وردتني مكالمة من سامر بعد أيام حاولت تصريفها، ألا أن أروى ألحّت علي بالإجابة .. و هي تقول :

 

" لو كان لدي أخ أو أخت لكنت فعلت أي شيء من أجلهما مهما تعاركا معي أو حتى قتلاني ! "

 

تناولت السماعة من يدها و أنا أشعر بالخجل من هروبي هذا... قربتها من أذني و فمي و تحدّثت :

 

" نعم يا سامر؟؟ "

 

" كيف حالك؟ "

 

" بخير.."

 

و ساد صمت استمر عدة ثواني ...

 

قلت :

 

" أهناك شيء ؟؟ "

 

فأنا لا أتوقع أن يتصل ليسأل عني فقط ، خصوصا بعد شجارنا الأخير...

 

قال سامر :

 

" يجب أن تحضر إلى هنا يا وليد "

 

ذهلت من عبارته، قلت متوترا و قد انتابني القلق المفاجئ :

 

" خير؟ هل حصل شيء ؟؟ "

 

" نعم، و لابد من حضورك "

 

هوى قلبي على الأرض..من القلق ، قلت و أنا بالكاد أحرك شفتي ّ :

 

" رغد بخير ؟؟ أ أصابها مكروه ؟؟ "

 

سامر صمت ، ما جعلني أوشك على الموت... قلت :

 

" ما بها رغد أخبرني ؟؟ "

 

قال :

 

"على ما هي عليه، أريدك حضورك فورا "

 

التقطت بعض أنفاسي و قلت :

 

" لم سامر؟ أخبرني ماذا حصل ؟؟ "

 

" لن أخبرك على الهاتف ، تعال بأسرع وقت يا وليد.. الأمر غاية في الأهمية "

 

 

 

 

لم استطع بعد تلك المكالمة السكون برهة واحدة ، تحركت بعصبية كالمجنون .. و من فوري ذهبت لأبحث عن سيارة أجرة، إذ أنني لم أكن أملك واحدة كما تعلمون...

 

أرادت أروى مرافقتي ألا أنني عارضت ذلك، و خلال ساعة، كنت أشق طريقي نحو شقة سامر.. و قلبي شديد الانقباض.. لابد أن مكروها قد حل ّ بصغيرتي و إن كان كذلك، فلن أسامح نفسي على البقاء بعيدا بينما هي مريضة...

 

قطعت المسافة في زمن قياسي، و حين وصلت أخيرا إلى الشقة، قرعت الباب بشكل متواصل إلى أن فتحه أخي أخيرا...

 

من النظرة الأولى إلى وجهه أدركت أن الموضوع أخطر مما تصوّرت.. كانت عيناه حمراوان و جفونه وارمة ، و وجهه شديد الكآبة... و السواد أيضا...

منظره أوقع قلبي تحت قدمي ّ في الحال...

 

و قبل أي كلمة أخرى هتفت مفزوعا :

 

" أين رغد ؟؟ "

 

و ركضت إلى الداخل مسرعا و أنا أنادي :

 

" رغد ... رغد ... "

 

و حين بلغت غرفتها طرقت الباب بقوة... و أنا أهتف بفزع...

 

" رغد... أأنت هنا ؟ "

 

فتح الباب و ظهرت رغد .. و ما أن وقعت أعيننا على بعضها البعض حتى كدت أخر صريعا..

 

" رغد ! "

 

" وليد ... "

 

" أنت ِ بخير صغيرتي ؟؟ أنت بخير ؟؟ "

 

 

انفجرت رغد باكية بقوة ، التفت إلى الوراء فإذا بسامر يقف خلفي ، هتفت :

 

" ماذا حصل ؟ "

 

رغد ازداد بكاؤها ..

 

قلت منفعلا :

 

" أخبراني ماذا حدث ؟؟ "

 

و نظرت إلى سامر في انتظار ما سيقول ...

سامر حرّك شفتاه و قال أخيرا :

 

" أصيب والدانا في الغارة على الحدود"

 

صعقت ، شهقت :

 

" ماذا ؟؟ "

 

طأطأ سامر رأسه للأسفل ، فقلت بسرعة :

 

" سامر ؟؟ "

 

لم يرفع عينيه في البداية، ألا أنه حين رفعهما كانتا غارقتين في الدموع، و قال أخيرا :

 

" قتلوهما.."

 

 

 

 

 

 

شهر كامل قد مضى، و أنا مقيم مع أخي و رغد في هذه الشقة... نسبح في بحر الدموع و الألم...

 

لا يقوى أحدنا حتى على النهوض من المقعد الذي يجلس عليه... أسوأ اللحظات.. كانت تلك اللحظات التي رأيت فيه رغد تلطم وجهها و تصرخ و تنوح و تصيح...

 

" لماذا كتب علي أن أيتّم مرتين؟؟ من بقي لي بعدهما؟؟ أريد أن ألحق بهما.. أمي .. أبي .. أنا مدللتكما العزيزة.. كيف تفعلان هذا بي ؟؟ كيف تتركاني يتيمة من جديد؟ و أنا في أمس الحاجة إليكما.. ليتني متّ منذ صغري..ليتني احترقت مع المنزل و لم أعش هذا اليوم... وا حسرتاه"

 

كانت تجول في الشقة و تصرخ و تنادي كالمجنونة.. و تصفع رأسها بأي شيء تصادفه في طريقها..

 

و كنت أمشي خلفها، محاولا تهدئتها و مواساتها ، بينما أنا الأكثر حاجة للمواساة..

 

أبعد حرماني منهما لثمان سنين.. ثمان سنين كان من الممكن أن أقضيها تحت رعايتهما و حبهما.. اللذين مهما كبرت سأبقى بحاجة إليهما، أفقدهما بهذا الشكل؟؟

 

حينما أتذكر يوم وداعهما...

 

آه يا أمي.. و يا أبي..

 

لو كنت أعرف أنه اللقاء الأخير.. ما كنت تركتكما تخرجان...

 

أتذكر وصايا أمي... (اعتني بشقيقتيك جيدا لحين عودتنا).. أماه.. هاأنا قد اعتنيت بهما و إن قصّرت.. فأين عودتك ؟؟

 

لو كنت أعلم أنه آخر العهد لي بكما... ما فارقتكما لحظة واحدة حتى أموت دونكما أو معكما..

 

لكنه قضاء الله..و مشيئة الله..

 

يا رب.. فكما جاءاك ملبيين طائفين حول بيتك المشرّف، يا رب فأكرمهما بنعيم الجنة التي وعدت بها عبادك المؤمنين...

 

و لا حول و لا قوّة إلا بالله...

 

شهر كامل قد انقضى و لم تتحسن أحوالنا النفسية شيئا يذكر..

و هل يمكن أن يندمل جرح كهذا؟؟

لقد كانا في حافلة مع مجموعة من الحجيج عائدين إلى البلد، بعدما نفذ صبر الجميع و دفعهم الحنين لأهلهم للإقدام على السفر برا...و كانت مجازفة أودت بحياتهم جميعا ...

نحن.. و يا من كنا غارقين في بحر الحزن و المآسي.. و يا من تشردنا..و تشتتنا..و تفرّقنا و انتكست أحوالنا و تنافرت قلوبنا..و كنا ننتظر عودة والدينا لعل ّ الله يصلح الحال.. يأتينا نبأ مصرعهما المفاجئ المفجع.. و ينسف ما بقي لنا من قوة أيما نسف...

 

السلطات اتصلت بأخي سامر و أبلغته الخبر المفجع، ليذهب لاستلام الجثتين من إحدى المستشفيات، التي نقل إليها جميع راكبي الحافلة، و الذين قتلوا جميعا دون استثناء..

 

كنت أريد الذهب..فقط لألقي نظرة..فقط لأقبّل أي شيء منهما..رأسيهما..جبنيهما.. أيديهما..إقدامهما..أو حتى ملابسهما..أي شيء منهما و لهما..لكني بقيت رغما عني ملازما رغد في المستشفى.. متوقعا أن أفقدها هي الأخرى..بين لحظة و أخرى..

 

كانت أفظع أيام حياتي..

 

كانت نائمة معظم الوقت، و كلنا أفاقت سألتني :

 

" أين أبي؟؟ أين أمي ؟؟ ألا أزال حية ؟؟ متى سأموت؟؟"

 

و لا أجد شيئا أواسيها به غير آهات تنطلق من صدري ، و شلالات تتدفق من عيني.. ونيران تحرق جسدي و ترديني فتاتا.. رمادا..غبارا..

 

عندما عاد أخي..كنت أنظر إلى عينيه بتمعن..أحدق بهما بجنون..علّ صورة والدي قد انطبعتا عليهما.. علّني أرى طيف ما رأتاه..

 

أخذت أضمه، و أشمه و أقبّله.. فقد كان معهما..و ربما علق به شيء منهما..أي شيء... أي شيء...

 

و حين سألن عن رغد.. قلت باكيا :

 

" ستموت! إنني أراها تموت بين يدي.. ماذا أستطيع أن أفعل؟ ليتني متّ قبل هذا "

 

و حين تحدث معها ، سألته بلهفة :

 

" أين هما؟؟ هل عادا معك؟؟ هل عادا للمنزل؟ أعدني إليهما..فأنا أريد أن يشهدا عرسي..ليس مثل دانة !"

 

 

أي عرس يا رغد..أي فرح..أي لقاء تتحدثين عنه ؟؟

 

لقد انتهى كل شيء.. و الحبيبان اللذان كانا يدللانك و يحيطاننا جميعا بالحب و الرعاية.. ذهبا في رعاية من لا يحمد على مكروه قضى به سواه...

 

اللهم لا اعتراض على قضائك...

 

و إنا لله .. و إنا إليه راجعون....

 

 

 

 

 

 

 

 

اليوم، و كما قررت أخيرا، سأذهب إلى المزرعة.. فلا بد لي من مواصلة العمل، و الدراسة في ذلك المعهد.. و العودة إلى أهلي بعدما حصل.. أصبحت ضربا من المحال..

 

فمن يريد العودة إلى جحيم الذكريات... ؟؟

 

سامر..كان قد أهداني سيارة قبل أيام، جاءت منقذة لي في وقت الحاجة الحقيقية.. شكرته كثيرا.. و أذكر أنه يومها ابتسم ابتسامة واهية و قال :

 

" و لم كل هذا الشكر ! إنها مجرّد سيارة.. بلا روح و لا مشاعر !"

 

استغربت من ردّه، ألا أنه غير الحديث مباشرة...

 

زرت المزرعة مرتين اثنتين فقط مذ قدمت إلى هنا.. فقد كان بقائي قرب رغد هو مركز اهتمامي و بؤرته... أما أحوال العائلة هناك كانت مستقرة..

 

أجمع أشيائي في حقيبة أضعها على السرير، باب الغرفة مفتوح، يطل منه أخي سامر... و يتحدّث ...

 

" أحقا سترحل وليد؟؟ "

 

استدير إليه و أقول :

 

" كما ترى "

 

مشيرا إلى الحقيبة.. و أضيف :

 

" سأعود إلى عملي، و دراستي"

 

يظل واقفا عند الباب ، ثم يخطو خطوتين إلى الداخل و يقول بصوت خافت :

 

" أنا أيضا سأعود إلى عملي... انتهت إجازتي الممددّة "

 

التفت إليه و أنا أدرك ما يعني، بل هو أكثر ما يشغل تفكيري على الإطلاق، لكنني أقول :

 

" و إذا ؟؟ "

 

يقول :

 

" رغد... "

 

نعم ، لا زلنا و منذ زمن..نقف عند هذه النقطة.. رغد...

 

قال :

 

" لا يمكن تركها وحيدة..، خذها معك "

 

و فاجأني هذا الطلب، فهو آخر ما كنت أتوقع أن يطلبه أخي مني...

 

لقد كنت أنا من سيطرح الفكرة، و خشيت أن أعقد الأمور أكثر في وقت نحن فيه في غنى تام عن أي تشويش يزيدنا ألما فوق ألم...

 

قلت :

 

" معي أنا ؟؟ "

 

" نعم يا وليد.. فهناك حيث تقيم، لديك عائلة يمكن لرغد أن تظل تحت رعايتهم أثناء غيابك.. لكن هنا في هذه الشقة..."

 

لم يتم كلامه..

 

لقد كان هذا الموضوع هو شغلي الشاغل منذ قررت العودة للمزرعة، ألا أنني لم

أكن أعرف الطريق لفتحه أمام سامر، خطيب رغد...

 

قلت :

 

" ما كنتَ فاعلا لو أنكما تزوجتما إذن؟ "

 

قال :

 

" ربما ..أتركها في بيتنا مع والدي ّ "

 

و الكلمة قرصت قلبينا... و عصرت شعورنا...

 

تابع :

 

" ألا أنه .. لا والدين لنا.. و لا بيت.."

 

" يكفي أرجوك.."

 

قلت ذلك محاولا إبعاد غيمة الهم عني، فقد اكتفيت من كل ذلك.. اكتفيت من الهموم التي حملتها على صدري مذ ارتكبت جريمتي و حتى هذا اليوم...

 

بددت أشباح الذكرى المؤلمة بعيدا عن رأسي.. و قلت :

 

" أتظنها ترحب بذلك ؟؟ "

 

ابتسم ابتسامة مائلة للسخرية و قال :

 

" جرّب سؤالها بنفسك..."

 

و رمقني بنظرة حادة، ثم غادر الغرفة...

 

بعدما انتهيت من جمع أشيائي، ذهب إلى غرفة رغد...

 

طوال الأيام الماضية لم تكن تغادرها .. حتى القليل من الطعام الذي كانت تعيش عليه، تتناوله على سريرها.. حالتها كانت سيئة جدا ولازمت المستشفى وقتا طويلا، و كنا نتناوب أنا و سامر على رعايتها...ألا أنها تحسّنت في الآونة الأخيرة.. و أحضرناها إلى هنا.. و الحمد لله

 

فلو أصابها شيء..هي الأخرى، فسوف أموت فورا لا محالة...لن يقوى قلبي على تحمّل صدمة أخرى.. و خصوصا للحبيبة رغد..لا قدّر الله ..

 

طرقت الباب و ذكرت اسمي، ثوان، ثم أذنت لي بالدخول...

 

دخلت، فرأيتها جالسة على السرير، كالعادة، ألا أنها ترسم شيئا ما في كراستها...

 

اقتربت لألقي نظرة على ما ترسم، كانت صورتين وهميتين لوالدي ّ رحمهما الله.. مرسومتين بالقلم الرصاصي، و بمعالم غامضة مبهمة...

 

" كيف أنت صغيرتي؟ "

 

لم ترفع عينيها عن الرسمة، قالت :

 

" كما أنا "

 

و هو جواب يقتلني...إن كنتم لا تعلمون...

 

قلت :

 

" أنت بخير، الحمد لله .."

 

قالت :

 

" نعم ، بخير.. يتيمة مرتين، وحيدة و بلا أهل.. و لا من يتولى رعايتي .. عالة على ابن عمّي ... "

 

مزقتني كلماتها هذه، قلت :

 

" عالة على خطيبك !؟ "

 

قالت مصححة :

 

" ابن عمّي.. فأنا لن أتزوّجه.. ما لم يحضر والداي و يباركا زواجنا.."

 

كادت الدمعة تقفز من عيني... اقتربت منها أكثر.. و قلت محاولا المواساة :

 

" حتى لو لم تتزوجيه، يبقى ابن عمّك و مسؤولا عنك.. فلا تأتي بذكر كلمة عالة هذه مرة أخرى "

 

الآن، قامت بالخربشة على الصورتين بخطوط عشوائية حادة، ثم .. نزعت الورقة من الكراسة، ثم مزّقتها..

 

أخيرا نظرت إلي :

 

" لم لا ترسلاني إلى دار لرعاية الأيتام ؟ "

 

" رغد بالله عليك.. لم تقولين ذلك ؟؟ "

 

" نعم فهو المكان الأنسب لي، سامر يريد العودة للعمل و أنا أعيقه "

 

قلت بألم :

 

" و أنا ؟ "

 

رمقتني بنظرة مبهمة ، ثم قالت :

 

" و أنت ستعود إلى عملك، و فتاتك..، و دانة تزوجت و استقرت مع زوجها في الخارج..، بلا بيت و لا والدين .. و لا أهل.. إما أن ترسلاني لبيت خالتي، أو لدار الأيتام "

 

اغتظت، و قلت بعصبية :

 

" كفّي عن ذلك يا رغد، بالله عليك... أتظنين أنني سأتخلى عنك بهذه السهولة ! "

 

رغد حدقت بي، متشككة مرتابة...

 

قلت :

 

" أبدا يا رغد ! لا تظني .. أنه بوفاة والدي رحمه الله.. لم يعد لك ولي مسؤول.. إنك من الآن فصاعدا، لا .. بل من يوم وفاته فصاعدا بل و من يوم وفاة والديك الحقيقيين فصاعدا.. تحت مسؤوليتي أنا.."

 

لا تزال تحملق بي بريبة..

 

قلت :

 

" و من هذه اللحظة، اعتبريني أمك و أباك و أخاك و كل شيء.. "

 

شيء من التصديق ظهر على وجهها.. أرادت التحدث ألا أنها منعت نفسها .. قلت مؤكدا :

 

" نعم صغيرتي، و لتكوني واثقة مائة بالمائة.. من أنك ستبقين ملازمة لي كعيني هاتين.. و لسوف أفقأهما قبل أن أبعدك عني مترا واحدا ! "

 

 

الآن رغد راحت تنظر إلى المسافة التي تفصل بيننا، بضع خطوات تتجاوز المتر.. ثم تنظر إلي...

 

نظرت أنا إلى حيث نظرت، ثم خطوت خطوتين للأمام، و قلت :

 

" متر ! أليس كذلك ؟؟ "

 

هنا .. انطلقت ضحكة غير متوقعة من حنجرة رغد.. ضحكة صغيرة كصغر حجمها و حجم حنجرتها.. و قصيرة كقصر المسافة التي بيننا هذه اللحظة... و مبهجة كبهجة العيد !

 

لم أستطع منع نفسي من الابتسام.. و هل هناك أجمل من ابتسامة أو ضحكة عفوية تشق طريقها بين الدموع و الهموم؟؟

 

لما رأيت منها هذا التجاوب، فرحت كثيرا.. فضحكة رغد ليست بالأمر السهل..إنها أعجوبة حصلت في زمن المرض و المآسي...

 

قلت :

 

" بما أن سامر سيبدأ العمل و سينشغل ثمان ساعات من النهار خارج الشقة، و أنا لابد لي من العودة لعملي، فأنا سآخذك معي.. فهل تقبلين ؟؟ "

 

قالت :

 

" و سامر؟ يبقى وحيدا ؟ "

 

قلت :

 

" سنأتي أسبوعيا لزيارته أو يأتينا هو.. ربما تتغير ظروفنا فيما بعد.. و نستقر جميعا في مكان واحد.. ما رأيك ؟ "

 

نظرت إلى الأرض، ثم قالت :

 

" حسنا "

 

أثلج صدري، ارتخت عضلاتي و ارتاح قلبي من توتره.. قلت :

 

" إذن اجمعي أشياءك الآن، سنذهب عصرا "

 

وقفت رغد مباشرة، و بدأت بجمع قصاصات الورقة التي مزقتها قبل قليل..

 

أخذت تنظر إليها، و شردت...

 

قلت مداعبا :

 

" اطمئني يا رغد.. سترين..أي نوع من الآباء و الأمهات سأكون ! "

 

ابتسمت رغد، و ألقت القصاصات في سلة المهملات...

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~

 

 

لم يكن لدي الكثير من الأشياء، لذا لم احتج أكثر من حقيبة صغيرة جمعت حاجياتي فيها، و وضعتها قرب الباب..

 

وليد ذهب إلى الحلاق، و حينما يعود .. سنغادر..

 

سوف لن أتحدث عن فاجعة موت والدي ّ لأنني لا أريد لدموعي و دموعكم أن تنهمر.. فقد اكتفيت..تشبّعت للحد الذي لم تعد فيه الدموع تحمل أي معنى...

 

لقد كنت أنا من أصرّ عليهما بالحضور بأية وسيلة.. فقد كنت في حالة سيئة كما تعلمون.. و ربما هذا ما دفعهما لسلك الطريق البري الخطر..

 

أنا الآن فتاة يتيمة مرتين.. بلا ولي و لا أهل، غير خطيب لن أتزوجه يوما.. و ابن عم لن يتزوجني يوما.. لكنه لن يتخلى عني..

 

أجهل طبيعة الحياة التي سأعيشها من الآن فصاعدا.. ألا أنني لا أملك من الأمر شيئا

 

و إذا ما كتب لي العودة إلى المدينة الصناعية ذات يوم، فلسوف استقر في بيت خالتي..

 

حتى يومنا هذا، و الحظر الشديد مستمر على المدينة الصناعية و مجموعة من المدن التي تعرضت أو لا تزال تتعرض للقصف و التدمير من قبل العدو...

 

أما هذه المدنية، و كذلك المدينة الزراعية، فهما بعيدتان عن دائرة الحرب...

 

ارتديت عباءتي، مستعدة للخروج .. و لمحت سامر يقبل نحوي..

 

وقفت أنظر إليه و هو ينظر إلي.. و كانت النظرات أبلغ من الكلمات..

 

قال :

 

" سأفتقدك"

 

قلت :

 

" و أنا كذلك.. سنأتي لزيارتك كل أسبوع"

 

ابتسم ابتسامة واهنة و من ثم قال :

 

" هل ستكونين على ما يرام هناك ؟؟"

 

لم أرد.. فأنا لا أعلم ما الذي ينتظرني..

 

" أينما كنت يا رغد..أتمنى لك السعادة و الراحة "

 

نظرت إليه نظرة امتنان..

 

أمسك يدي بحنان و قال :

 

" سأكون هنا.. متى ما احتجتني.. دائما في انتظارك و رهن إشارتك.."

 

لم أملك إلا أن طوّقته بيدي الأخرى.. و قلت :

 

" يا عزيزي..."

 

و تعانقنا عناقا هادئا صامتا.. طويلا..

 

 

بعد مدّة ، عاد وليد..

 

ودّعنا سامر.. و ركبنا السيارة، وليد في المقدمة و أنا خلفه.. وانطلقنا...

 

لكي يقطع الوقت و يقتل الملل، أدار المذياع.. فأخذت أصغي إلى كل شيء و أي شيء.. كما كنت أراقب الطريق... و رغم الصمت الذي كان رفيق لسانينا، ألا أنني شعرت به يكلّمني...

 

أكاد أسمع صوته، و أحس بأنفاسه.. و الحرارة المنبعثة من جسده الضخم... كان هو مركزا على الطريق.. بينما أنا أغلب الأحيان مركزة عليه هو...

 

الآن، و بعد كل الأحداث التي مررت بها..أعترف بأنني لا أزال أحبه..

 

 

 

وصلنا إلى نقطة تفتيش..ما أن لمحتها حتى أصبت بالهلع..فبعد الذي عشته تلك الفترة.. صرت أرتجف خوفا من مثل هذه الأمور...

 

الشرطي طلب من وليد البطاقة و رخصة القيادة..

 

ثم سأله عني..

 

" ابنة عمي "

 

" أين بطاقتها ؟ "

 

" إنها لا تحمل بطاقة خاصة، فهي صغيرة "

 

" إذن بطاقة والدها "

 

" والدها متوف، ووالدي الكافل كذلك، توفي مؤخرا..ألا أنها مضافة إلى بطاقة شقيقي، خطيبها حاليا "

 

قال الشرطي متشككا :

 

" هل هذا صحيح ؟؟ "

 

قال وليد :

 

" طبعا ! "

 

الشرطي التفت إلي أنا و قال :

 

" هل هذا ابن عمّك ؟ "

 

قلت بوجل :

 

" أجل "

 

" أهو خطيبك ؟ "

 

" لا ! شقيق خطيبي.."

" و أين خطيبك أو ولي أمرك ؟ "

 

" لم يأت ِ معنا، لكنه على علم بسفرنا "

 

" صحيح ؟ "

 

 

 

وليد قال بعصبية وضيق :

 

" و هل تظنني اختطفتها مثلا ؟ بربّك إنها مثل ابنتي "

 

ابتعد الشرطي مترددا ثم سمح لنا بالعبور...

 

أنا كنت أنظر إلى وليد عبر المرآة.. مندهشة و مستنكرة جملته الأخيرة !

 

ابنته !؟ أنا مثل ابنته ؟؟

 

فارق السن بيننا لا يبلغ التسع سنين !

 

وليد أبي !

 

بابا وليد !

 

و شعرت برغبة مفاجئة في الضحك !

 

ألا أن هذه الرغبة تحوّلت إلى حرج شديد جدا..عندما أصدرت معدتي نداء الجوع !

 

مباشرة نظر وليد عبر المرآة فالتقت أنظارنا.. و أبعدت عيني بسرعة في خجل شديد...

 

تكلم وليد قائلا :

 

" لم تأكلي شيئا منذ الصباح..أليس كذلك؟ "

 

تحرجت من الرد عليه..و علتني حرة الخجل.. لم أكن في الآونة الأخيرة أتناول أكثر من وجبة واحدة في اليوم.. و كنت أجبر نفسي على أكلها فقط لأبقى حية..

 

أتذكر الآن.. الطبخات اللذيذة التي كانت أمي، و دانة تعدّانها..

آه أماه..

إنني مشتاقة لأي شيء من يديك.. حتى و لو كان السمك المشوي الذي تعدّينه، و اهرب أنا من المائدة كرها له...

كنت سأدخل متاهة الذكرى المؤلمة، ألا أن صوت وليد أغلق أبواب المتاهة حين سمعته يقول :

 

" سآخذك إلى مطعم جيد في المدينة الزراعية.. سيعجبك طعامه "

 

المشوار كان طويلا.. و الهدوء جعل النعاس يطغى علي.. فمنت لبعض الوقت..

 

صحوت من النوم على صوت وليد يهمس باسمي...

 

" رغد.. رغد صغيرتي.."

 

فتحت عيني.. فوجدته ملتفتا إلى الوراء يناديني.. و تلفت من حولي فرأيت السيارة واقفة ..

 

قال وليد:

 

" وصلنا "

 

قلت :

 

" المزرعة ؟ "

 

و أنا أطالع ما حولي.. باستغراب..

 

قال :

 

" المطعم "

 

قلت :

 

" ماذا ؟ "

 

" المطعم صغيرتي.. نتناول عشاءنا ثم نذهب إلى المزرعة "

 

و تذكرت أنني كنت جائعة ! كانت الوقت لا يزال باكرا..

 

وليد فتح بابه و خرج من السيارة، ثم فتح الباب لي..

 

هبطت و صافحتني أنسام الهواء الباردة.. فضممت ذراعي ّ إلى بعضهما البعض..

 

" أتشعرين بالبرد؟ "

 

" قليلا"

 

" المكان دافئ في الداخل.. هيا بنا "

 

سرنا جنبا إلى جنب، أنا بقامتي الصغيرة و رأسي المنحني للأسفل، و هو بجسده العملاق.. و رأسه العالي فوق هامته الطويلة! ثنائي عجيب متناقض ! دخلنا المطعم .. كان تصميم مدخله جميل.. و الكبائن متباعدة و متقنة الهندسة..

 

اختار وليد كبينة بعيدة، و جلسنا متقابلين، لكن ليس وجها لوجه!

 

شغلنا نفسينا بتقليب صفحات الكتيب الصغير، الحاوي لقوائم الأطعمة و المشروبات...

 

قال وليد :

 

" ماذا تودين ؟ "

 

في هذه اللحظة ، و أنا في توتري الشديد هذا، و الإحساس بقرب وليد يشويني.. قلت :

 

" دورة المياه "

 

" عفوا ! ؟ "

 

تركت الكتيب من يدي، قام وليد و قال :

 

" تفضلي.."

 

كانت دورة المياه النسائية في الطرف الآخر..على مقربة من الباب توقّف وليد..و تركني أمشي وحدي..

 

التفت إليه.. قال :

 

" سأنتظر هنا "

 

لم أشعر بالطمأنينة.. تراجعت .. قلت:

 

" لنعد "

 

قال :

 

" هيا رغد ! سأبقى واقفا في مكاني.. "

 

" لا.."

 

وليد نظر إلى ما حولنا ثم قال :

 

" حسنا، سأقترب أكثر"

 

و مشى معي حتى بلغنا الباب...

 

نظرت إليه بشيء من التردد، ألا أنه قال :

 

" لا تتأخري رجاء ً "

 

و أنا أفتح الباب قلت :

 

" إياك أن تبتعد ! "

 

قال مطمئنا :

 

" لا تقلقي.. "

 

و عندما خرجت وجدته واقفا بالضبط عند نفس النقطة !

 

عدنا إلى تلك الكابينة و طلب لي وليد وجبة كبيرة، مليئة بالبطاطا المقلية !

 

لا أعرف أي شهية تلك التي تفجرت في جوفي، و التهمتها تقريبا كاملة..!

 

و لو كان طلب طبقا آخر بعد ، لربما التهمته أيضا عن آخره.. يكفي أن يكون وليد قريبا مني، حتى أشعر برغبة في التهام الدنيا كلها...

 

بعد العشاء.. قام وليد بجولة في المنطقة، بين المزارع.. و أراني بعض معالم المدينة، و كذلك المعهد الذي يدرس فيه، و السوق الذي تباع فيه الخضراوات...

 

منذ زمن.. و أنا حبيسة الشقة و المستشفى، لا أرى الشمس و لا أتنفس الهواء النقي.. لذلك فإن الجولة السريعة هذه روحت عن نفسي كثيرا...

 

كان كلما تحدّث عن أو أشار إلى شيء، أصغيت له باهتمام.. ودققت بتمعن، و كأنه درس علي حفظه قبل الامتحان!

 

قبيل وصولنا إلى المزرعة، سألني :

 

" أتودين بعض البوضا..؟"

 

و كان ينظر إلي عبر المرآة ...

 

قلت منفعلة مباشرة :

 

" ماذا !؟ البوضا مجددا ! كلا أرجوك ! أنا يتيمة بلا مأوى الآن !؟؟ "

 

و ليد، حدق بي برهة ، ثم انفجر ضاحكا !

 

أنا كذلك، لم أقو على كبت الضحكة في صدري، فأطلقتها بعفوية...

 

نعم ! فلن تغريني البوضا مرة أخرى و لن أنخدع بها!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عندما وصلنا إلى المزرعة كانت الساعة تقريبا التاسعة مساءا...

 

مباشرة توجهنا إلى المنزل، و قرع وليد الجرس، ففتح العجوز الباب...

 

تهلل وجهه لدى رؤية وليد و صافحه و عانقه، ثم رحب بي ترحيبا كريما...

 

قال وليد :

 

" ابنة عمي .. تحت وصايتي الآن.. و إن لم يكن في ذلك أي إزعاج.. فهي ستبقى معي هنا حتى نجد حلا آخر.."

 

شعرت أنا بالحرج، ألا أن ترحيب العجوز خفف علي ذلك، قال :

 

" عظم الله أجرك يا بنيتي، على الرحب و السعة، و إن لم تتسع المزرعة لكما نحملكما على رؤوسنا.."

 

ابتسمت للعجوز و شكرته..

 

قال العجوز مخاطبا وليد، الذي كان يجول ببصره فيما حوله :

 

" في المطبخ.. تفضلا "

 

لم يتغيّر في ذلك المنزل أي شيء... سرت تابعة لوليد الذي تقدّم نحو إحدى الغرف، و التي يبدو أنها المطبخ... و العجوز خلفنا

 

هناك.. وجدنا أروى و أمها تجلسان على الأرض حول سفرة العشاء... و بادرتا بالنهوض بمجرد رؤيتنا...

 

و حانت اللحظة التي كنت أخشى حينها... ما أن وقع نظري على أروى... حتى شعرت بشيء ما يتفجر في صدري... شيء حارق موجع..

 

كانت تجلس ببساطة على الأرض، مرتدية بنطالا ضيقا و بلوزة قصيرة الكمين واسعة الجيب، و شعرها الذهبي الأملس الطويل مربوط بخصلة منه، و ينساب على كتفيها و ظهرها كذيل الفرس !

 

رحبت الاثنتان بنا ، ثم توجهت أروى نحو المغسل، و غسلت يدها و نشفتها ، ثم أقبلت نحو وليد و مدّت يدها لتصافحه !

 

وليد ببساطة مدّ يده و صافحها !

 

" حمدا لله على سلامتكما ! كيف حالكما ؟ "

 

قالت ذلك و هي تشد على يد وليد، و وليد يبتسم و يطمئنها، و أنا أسلط أنظاري على يديهما ، ثم عينيهما ، ثم أعود إلى يديهما، ثم أعض على شفتي السفلى بغيظ...

 

إلى متى ستظل هذه ممسكة بيد ابن عمّي؟؟ هيا ابتعدي !

 

" مرحبا بك يا رغد، عظم الله أجرك "

 

رفعت بصري عن يديهما و نظرت إليها ببغض، و مددت يدي لأصافحها.. أعني لأجبرها على ترك يد وليد...

 

" أجرنا و أجركم، غفر الله لنا و لكم "

 

قالت :

 

" كيف صحتك الآن ؟ "

 

" بخير و لله الحمد "

 

عادت تنظر إلى وليد ، و تخاطبه :

 

" هل كانت رحلتكما متعبة ؟ "

 

قال :

 

" لا ، كانت ممتعة "

 

نظرت إلى وليد فرأيته ينظر إلي و يبتسم...

 

قالت أروى :

 

" تفضلا.. شاركانا العشاء "

 

و كررت أمها الجملة ذاتها

 

قال وليد :

 

" بالهناء و العافية، تناولنا عشاءنا في أحد المطاعم.. أتموا أنتم طعامكم و نحن سنجلس في المجلس "

 

و على هذا ذهبنا إلى المجلس، وبقي الثلاثة حول السفرة.. و يبدو أن وليد صار يتحرك في المنزل بحرية كيفما يشاء...

 

جلس على أحد المقعدين الكبيرين المتقابلين الموجودين في المجلس، فجلست أنا إلى جواره.. و سكنا عن أي كلام أو حركة لبضع دقائق... ثم قال وليد :

 

" رغد"

 

نظرت إليه.. فرأيت ملامح الجدية و القلق على وجهه... قال :

 

" أنا آسف و لكنني في الوقت الحالي لا أستطيع توفير سكن آخر.. كما و أن الظروف لن تمكننا من العيش في شقة مستقلة، لأن عملي هنا و أقضي كل ساعات النهار هنا.. "

 

لم أعلّق ، فقال :

 

" هل هذا يروق لك ؟ "

 

قلت :

 

" أخشى أن يسبب وجودي الضيق لهم .."

 

قال :

 

" لا ، إنهم أناس طيبون جدا.. و كرماء لأقصى حد..، لن يزعجهم وجودك، أريد أن أعرف .. هل يزعجك أنت ذلك؟؟ "

 

قلت :

 

" سأبقى حيث ما تبقى أنت..، ألست المسؤول عني الآن؟ "

 

بدا الضيق جليا على وليد، مال بجدعه للأمام و قال :

 

" رغد يا صغيرتي.. الأمر ليس متروكا لظروفي بل هو حسب رغبتك أنت.. إذا رغبت بأي شيء آخر فأبلغيني و سأنفذه حتما "

 

قلت :

 

" حقا وليد ؟؟ "

 

قال :

 

" طبعا، بدون شك.. تعرفين أنني من أجلك أفعل أي شيء..."

 

شعرت بالصدق ينبع من عينيه.. و آه من عينيه ..

 

لو تعرف يا وليد.. أنا لا أريد من هذه الدنيا غيرك أنت.. لقد فقدت كل شيء.. والداي ماتا. .و تيتّمت مرتين.. و أختي رحلت.. و سامر تركته جريحا متألما.. و خالتي و عائلتها ظلوا بعيدين عني.. لم يبق لي إلا أنت..

 

أنت الدنيا في عيني..

 

أنا أريد أن أبقى معك، قريبة منك و تحت رعايتك و حبك ما حييت.. أينما كنت.. هنا أو في أي مكان في المجرّة.. فقط أبقني قربك.. و أشعرني باهتمامك و حبك..

 

" وليد .."

 

همست بصوت أجش... وليد أجابني مسرعا :

 

" نعم صغيرتي ؟ "

 

قلت :

 

" أنا.. أنا..."

 

و لم أتم، إذ أن أروى أقبلت الآن، تحمل أقداح الشاي...

 

" تفضلا.."

 

لم تكن لدي أدنى رغبة في احتساء الشاي ألا أنني فعلت من باب المجاملة..

 

أروى جلست على المقعد المجاور، قرب وليد...

 

تبادلا حديثا قصيرا، ثم قالت مخاطبة إياي :

 

" يمكنك استخدام غرفتي، و أنا سأنام مع أمي لحين ترتيب غرفة خاصة بك "

 

نظرت إلى وليد و قلت :

 

" و أنت ؟ "

 

قال :

 

" في غرفتي ذاتها "

 

هززت رأسي اعتراضا..

 

وليد قال :

 

" لا تخشي شيئا يا رغد.. المكان آمن هنا و موثوق كبيتنا تماما "

 

" لا ! لن أبقى وحدي هنا "

 

قال :

 

" يمكن لأروى البقاء معك في الغرفة.. "

 

قلت :

 

" إذن خذني لمكان آخر "

 

تبادل وليد و أروى النظرات، ثم نظر إلى المقعد الذي نجلس عليه، ثم قال :

 

" حسنا.. سأبات أنا على هذا.. داخل المنزل"

 

لم تعجبني الفكرة أيضا.. فنظرت إليه باعتراض و عدم اقتناع..

 

قال :

 

" هذه الليلة على الأقل.. ثم نجد حلا آخر"

 

فاستسلمت للأمر...

 

ذهبت أروى بعد ذلك لإعداد فراش لي في غرفتها... عندها قلت لوليد :

 

" وليد.. لا تبتعد عني أرجوك "

 

وليد نظر إلي بعطف و قال :

 

" لا تخشي شيئا صغيرتي.. أتظنين أنه، لو كان مكانا غير آمن، كنت تركتك تباتين فيه ؟ "

 

قلت :

 

" لكني أخاف.. أخاف كثيرا.. المكان غريب و الناس كذلك.. لا تبتعد عني "

 

كنت أقول ذلك و أنا متوترة.. و لما لحظ وليد حركة أصابعي المضطربة..

 

قال :

 

" اطمئني رغد.. و لسوف أبقي الباب مفتوحا "

 

ذهبنا أنا و وليد و أروى للتعرف على أرجاء المنزل و انتهينا إلى غرفة أروى..

 

غرفة بسيطة كسائر المنزل، لا تحوي شيئا مميزا ...

 

كان الفراش دافئا.. و جسدي متعبا ألا أن القلق لم يسمح لي بالنوم..

 

أروى نامت بسرعة.. أما أنا فتلاعبت بي الهواجس حتى بدأت أوصالي ترتعد خوفا..

 

 

ارتديت عباءتي.. و خرجت من الغرفة بحذر.. شققت طريقي بهدوء تام نحو المجلس.. كان الباب شبه مغلق، و وليد كان نائما على المقعد الكبير.. و بصيص خفيف من الضوء يتسلل إلى الغرفة عبر فتحة الباب.. و عبرها تسللت أنا أيضا إلى الداخل...و أوصدت الباب من بعدي !

 

لأنه طويل جدا، فإن قدميه الكبيرتين كانتا تبرزان من فوق ذراع المقعد.. أما ذراعاه فقد كانتا مرفوعتين فوق رأسه، إذ أن مساحة المقعد لا تكفي لضمهما على جانبيه !

مسكين وليد! لابد أن جسده غير مرتاح في نومته هذه البتة !

 

و مع ذلك كان يغط في نوم عميق... !

 

جلست أنا على المعقد الكبير الآخر... لبضع دقائق.. شاعرة بالأمان و الطمأنينة، و الدفء أيضا.. فقرب وليد يطيب لقلبي البقاء و لعضلاتي الاسترخاء و لعيني الإغماض..

استلقيت على المعقد.. و سمحت للنوم بالسيطرة علي.. بكل سهولة !

 

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~

 

 

وضعت المنبه على المنضدة قرب المقعد، و نمت بعد أرق، لأنني كنت قلقا على رغد.. أفكر..هل ستتقبل الحياة هنا..؟ هل ستألف الأوضاع و ترضى بها؟ هل سيسرّها العيش في منزل متواضع، و حال متوسطة، و هي ابنة العز و الدلال و الغنى ..؟؟

إن علي ّ أن أجد أكثر من أجل تحسين وضعي المالي و العام..فرغد لم تعتد حياة الفقر و الحاجة... و لا تستحق حياة كهذه...

 

 

استيقظت بسرعة على رنين المنبه المزعج...

 

كنت قد ضبطته لإيقاظي وقت الفجر لأصلي...

 

حينما جلست، لمحت شيئا يتحرك على المقعد الكبير الآخر و الموازي للمقعد الذي نمت عليه ..! و ذلك الشيء جلس أيضا

 

دققت النظر فيه ..أظنه خيال رغد! أو ربما هوسي بها جعلني أتهيأ خيالها في كل مكان !؟ في اليقظة و المنام !

 

قلت متسائلا :

 

" رغد ؟"

 

ذلك الشيء تكلم مصدرا صوتا ناعسا ، يشبه صوت رغد !

 

" نعم "

 

قلت :

 

" رغد صغيرتي ! أهذه أنت ؟؟ "

 

" نعم، أريد أن أنام "

 

و استلقت على المقعد مجددا !

 

نهضت أنا عن مقعدي و وقفت أمدد أطرافي.. شاعرا بالإعياء ... إن هذا المقعد صغير و لا يتسع لجسد رجل مثلي !

تقدمت نحوها

 

" رغد ! ما الذي تفعلينه هنا ؟ "

 

قالت و هي شبه نائمة :

 

" كنت خائفة "

 

" مم ؟ "

 

" من الأشباح "

 

ماذا !؟ أهي نائمة أم تهذي ؟؟

 

" أي أشباح ؟؟ "

 

جلست رغد فجأة و نظرت من حولها يمينا و شمالا... و هي تقول :

 

" أشباح؟؟ أين ؟ أين ؟ "

 

و يبدو أنها استفاقت أخيرا .. ثم نظرت إلي .. ثم قالت :

 

" وليد .. "

 

قلت :

 

" نعم.. "

 

قالت :

 

" نحن في منزل أروى أليس كذلك ؟ "

 

" نعم صغيرتي، هل كنت تحلمين ؟ "

 

أخذت تفرك عينيها...

 

قلت :

 

" لم أنت هنا ؟ "

 

قالت :

 

" لم أشعر بالطمأنينة هناك.. "

 

" لم صغيرتي؟ "

 

قالت و هي تنظر إلي برجاء :

 

" أريد أن أبقى معك .. المكان غريب علي.."

 

" ستعتادينه.. لا تقلقي "

 

" لكن يا وليد... "

 

هنا طرق الباب و سمعت صوت العم يناديني...

 

" وليد .. انهض بني ..الصلاة "

 

و كاد يفتح الباب، ألا أنه كان موصدا ! إنها رغد !

 

صغيرتي المجنونة !

 

 

أجبت :

 

" نعم عمي أنا مستيقظ "

 

قال :

 

" هيا إذن "

 

قالت رغد :

 

" إلى أين ؟ "

 

" إلى المسجد "

 

قالت معترضة :

 

" و تتركني وحدي ؟؟ سآتي معك "

 

كنت أعرف أنها ستقول ذلك !

 

ذهبت إلى الباب مسرعا و فتحته فرأيت العم إلياس يسير نحو المخرج... و كنا قد اعتدنا الذهاب للصلاة في المسجد المجاور سيرا على الأقدام...

 

قلت :

 

" عمّي .. اذهب أنت سأصلي هنا "

 

تعجّب العم و قال :

 

" لم يا ولدي ؟ "

 

" أخبرك لا حقا.. تقبل الله منكم "

 

جعلت الباب شبه مغلق

 

و عدت إلى رغد التي بادرتني بالسؤال :

 

" الحمام قرب الغرفة أليس كذلك ؟ "

 

" بلى "

 

و همّت بالخروج قاصدة إياه ...

 

" انتظري رغد "

 

نظرت إلي باستغراب...

 

قلت :

 

" حتى يخرج العم ... "

 

و عدت أنظر من فتحة الباب حتى إذا ما غادر العم خارجا، فتحته و استدرت إلى رغد قائلا :

 

" تفضلي ... "

 

رغد سارت ببطء و هي تنظر إلى الأرض بخجل.. تنحيت أنا جانبا .. و لما صارت قربي .. رفعت رأسها إلي و قالت :

 

" أنا آسفة " ...

 

توترت، و لم يتجرأ لساني على النطق بشيء... فأخفيت نظري تحت الأرض.. منتظرا منها الخروج...

 

ألا أنها بقيت واقفة قربي هكذا لوهلة... و أنا شديد الحرج، ثم قالت :

 

" لكنك..أصبحت أبي الآن ! أليس كذلك ! "

 

رفعت نظري إليها بسرعة مندهشا، و ارتفع حاجباي تعجبا !

 

كانت تنظر إلي، و الآن.. ابتسامة مرسومة على شفتيها أستطيع أن أرى عذوبتها رغم الظلام...

 

قالت :

 

" بابا وليد ! "

 

و أسرعت خارجة من الغرفة ... تاركة إياي في ذهول و جنون !

 

إذا كانت ..هذه الفتاة.. اليتيمة المدللة.. الحبيبة الغالية.. ستعيش معي و تحت رعايتي أنا في بيت واحد.. فإنني و بدون أدنى شك.. سأفقد عقلي و أتحول خلال أيام، بل خلال ساعات.. إلى مجنون لم يخلق الله مثل جنونه جنونا...

و أنتم الشاهدون !

 

يتبع.......

Link to comment
Share on other sites

لأن الظروف لم تسمح لنا قبل الآن بشراء خاتمي الخطوبة، و أقصد بذلك ظروف وليد ، فإنني فتحت الموضوع معه مؤخرا، بعدما مضت فترة على وفاة والديه، رحمهما الله.

 

قررنا أن نذهب لشراء الخاتمين و الشبْكة غدا.. لن نقيم أي احتفال، إنما عشاء خاص بي معه...

 

وليد، هو رجل رائع بكل المقاييس.. ربما كان التعويض الذي أرسله الله لي عوضا عما فقدت.

 

في مظهره، وسم، جذاب ! طويل القامة، عريض المنكبين، ممتلىء الجسم و الوجه!

في أخلاقه، كريم.. لطيف..نبيل.. متفان، مقدام !

في عمله، مخلص، صادق.. أمين.. مجتهد، نشيط جدا!

 

في أول مرة التقينا، كان ذلك قبل عدة أشهر، حين دخل رجل غريب إلى المنزل و هو يستنجد!

 

عندما أتذكر ذلك اليوم ، و رغم المرارة التي كانت فيه، أضحك !

 

لقد خرجت من المنزل راكضة .. بملابسي المجردة !

 

حينما عرض علي الزواج ، فرحت كثيرا.. أمي و خالي كانا يمدحانه أمامي باستمرار، و أنا كنت ألحظ إعجابهما بخلقه و طبعه، و أعجبت به مثلهما ...

 

علاقتي بوليد كانت بالكاد قد بدأت تتطور، ألا أن تطوّرها أخذ منحى آخر حين حضرت رغد للعيش معنا...

 

و هذه الرغد فتاة غريبة الأطوار !

 

أول الأمر كانت غارقة في الحزن، ثم بدأت تتفتح للحياة، و الآن بفرض وجودها في ساحة وليد !

 

إنه يهتم بها كثيرا جدا، و يعاملها و كأنها ملكة ! تصدر الأوامر و هو ينفّذ .. حتى أنه يفكر جديا في شراء طقم غرفة النوم الباهظ الذي أشارت إليه اليوم .. !

 

و يريد تحويل إحدى غرف المنزل إلى غرفة خاصة بها، بعدما طلبت هي مؤخرا أن تنام في غرفة مستقلة !

 

أنها فتاة مدللة جدا، و وجودها أبعد وليد عني ، و جعله يصرف جل الاهتمام لها هي .. و يهملني ...

 

اليوم ذهبنا إلى الأسواق تنفيذا لرغبتها، حيث اختارت طقم غرفة النوم ذاك، و اشترت العديد من الأشياء .. بمبالغ كبيرة !

 

أنا أخشى أن أتحدّث معها أو مع وليد حول هذه النقطة، حتى لا أسبب مشكلة و يتهمني أحد بشيء، لكن...

 

نحن في وضع مالي متواضع ! و هي، كانت من عائلة ثرية معتادة على نيل ما تريد بسهولة...و لا أعلم، متى سيمكنها أن تدرك تماما أن والديها قد توفيا... و أنها لم تعد تتربى في عزّهما و دلالهما!

 

و رغم ما أنفقته رغد هذا اليوم، فأنا لم أتنازل عن رغبتي في شراء خاتمي الخطوبة و طقم الشبكة، فهي من حقّي، و قد وعدني وليد بالذهاب لأسواق المجوهرات و شرائها...

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~ ~

 

 

العلاقة بين رغد و أروى تزداد اضطرابا مرة بعد أخرى، و هذا يقلقني كثيرا...

 

رغد، في أحيان ليست بالقليلة تتصرف بغرابة، لا أعرف وصفا دقيقا أذكره لكم، لكن.. إنها .. تتدلل كثيرا !

 

و لأنها معتادة على الدلال، و تنفيذ جميع رغباتها دون استثناء، و لأنني الشخص الوحيد المتبقي أمامها من العائلة، فإنها .. باختصار تتدلل علي !

 

نعم حينما كانت صغيرة كنت أعشق تدليلها و أقبل على ذلك بشغف، ألا أن الأمر تغيّر الآن..إنها لم تعد طفلة كما أنني... إنني...

ماذا أقول ؟؟

لست أباها، أو أخاها، أو زوجها أو حتى ابنها لأستطيع مجاراتها ببساطة في كل تصرفاتها... أنا حائر.. حائر جدا!

 

البارحة، و بعدما عدنا من السوق، و قد اشترت هي العديد من الأشياء، فوجئت بها قادمة نحوي، و قد تغيّر لون عينيها إلى الأزرق ! و إذا بها تسألني :

 

" كيف أبدو ؟ "

 

كنت أجلس و أروى في الصالة، نتحدّث عن الخاتمين اللذين تصر أروى على شرائهما، و أظن هذا من حقّها فهي تود وضع خاتم للخطوبة مثل أي فتاة !

اعتقد أن الفتيات يهتممن بأمور تبدو في نظر الرجال، أو لنقل في نظري أنا كواحد من معشر الرجال ... لا تغضبن ! سخيفة أحيانا !

 

 

نظرت ُ إلى أروى ثم إلى رغد مندهشا.. و كانت لا تزال تنتظر رأيي في لون عينيها الجديد ! شعرت بالحرج الشديد .. فقلت :

 

" هل صبغتيهما بالفرشاة! "

 

قاصدا أن تبدو دعابة خفيفة تلطّف الجو، ألا أن رغد نظرت إلى أروى و قالت :

 

" و هل أنت ِ صبغتِ عينيك بالفرشاة ؟ "

 

قالت أروى :

 

" لا ، صبغهما الله لي هكذا ، لذا فهما تناسباني تماما "

 

الجملة أزعجت رغد ، فقالت بغيظ :

 

" تعنين أن لون عيني الآن لا يناسبني ؟ "

 

صمتت أروى، و نظرت إلي، تقصد تحويل السؤال إلي .. ، و لذا نظرت رغد نحوي و أنا أرى الغضب يتطاير من عينيها هاتين.. و لم أجد جوابا مناسبا ألا أنني لم أشأ إحراجها فقلت :

 

" و إن ناسباك ، فالأصل هو الأنسب دائما "

 

و إجابتي الغبية هذه لم تزد الطين إلا بللا !

 

قالت غاضبة :

 

" نعم الأصل هو الأنسب دائما، هذا ما يجب أن تدركه أنت ! "

 

و لم أفهم ما ترمي إليه ! ثم أضافت :

 

" لو كان سامر هنا، لصفّر إعجابا "

 

ثم استدارت و غادرت الصالة...

 

تضايقت أنا من هذا الموقف.. و التزمت الصمت مدّة ، ألا أن أروى قطعت الحديث قائلة :

 

" ألم أقل لك !؟ إنها تغار مني "

 

التفت إليها و قلت :

 

" لا ، ليس الأمر كذلك ! لكنك لا تعرفين كم كانت مدللة تفعل ما تشاء في بيت أبي... كان رحمه الله يدللها كثيرا "

 

قالت أروى :

 

" و ها أنت ورثته ! "

 

التفت إلى أروى، فأشاحت بوجهها عني.. و كأنها غاضبة مني ..

 

قلت :

 

" ما بك أروى ؟ ماذا يزعجك ؟ "

 

التفتت إلي و أجابت :

 

" ألست تدللها أنت أيضا ؟ "

 

قلت :

 

" أ لأنني سمحت لها بشراء كل ما أرادت ؟ تعلمين أن أغراضنا احترقت في بيتنا و هي بحاجة لأشياء عدّة ! "

 

" أشياء عدّة كالملابس الباهظة التي اشترتها و الحلي أيضا ؟؟ بربّك ما هي فاعلة بها و هي باقية في هذا البيت بالحجاب و العباءة ! "

 

سكتت قليلا و قالت :

 

" لم لا ترسلها إلى خطيبها لبعض الوقت ؟ أظنها في حنين إليه "

 

وقفت منزعجا و رميت أروى بنظرة ثاقبة ، جعلتها تعتذر

 

" لم أقصد شيئا يا وليد إنما ..."

 

قلت مقاطعا :

 

" يجب أن تعرفي يا أروى.. أن رغد هي جزء من مسؤولياتي أنا، الجزء الأكبر.. و متى ما شعرت بالضيق من وجودها فأعلميني، و في الحال سآخذها و نرحل "

 

ظهر الذهول على ملامح أروى ، فوقفت و قالت :

 

" وليد ! "

 

قلت :

 

" نعم ، نرحل سوية.. لأنه لا يوجد سبب في هذا العالم يجعلني أتخلى عن ابنة عمي ساعة واحدة، مهما كان "

 

و كان هذا بمثابة التحذير ...

 

قالت أروى :

 

" و .. حين نتزوّج ؟ "

 

صمت فترة ، ثم قلت :

 

" لن يكون زواجنا قبل زواجها هي ، بحال من الأحوال "

 

" و .. متى ستتزوج هي و أخوك ؟ "

 

قلت بسرعة و بغضب :

 

" ليس الآن، لا أعرف ، ربما بعد عام أو عشرة .. أو حتى مئة ، لكن ما أعرفه هو أنني لن أتزّوج قبلها مطلقا "

 

و تركت أورى، و انصرفت قاصدا رغد...

نعم رغد، فهي من يشغل تفكيري هذه الساعة، و كل ساعة..

 

 

كنت أعرف أنني سأراها باكية.. و هكذا رأيتها بالفعل.. و قد نزعت العدستين الزرقاوين، و تحول بياض عينيها إلى احمرار شديد...

 

" صغيرتي.. يكفي ! "

 

طالعتني بنظرة غاضبة ، و قالت :

 

" كنتما تسخران مني ، أليس كذلك ؟ "

 

" لا أبدا ! لا يا رغد ! "

 

قالت بانفعال :

 

" لو كان سامر هنا ، لقال قولا لطيفا و لو من باب المجاملة.. "

 

و ذكر اسم سامر يجعلني أتكهرب !

 

قلت بدون تفكير :

 

" أنت ِ رائعة إن بهما أو بدونهما يا رغد "

 

و ابتلعت لساني بسرعة !

 

رغد تأملت عيني، و ربّما سرّها ما قلت.. فمسحت الدمعتين الجاريتين على خديها ، و قالت :

 

" حقا ؟ هل بدوت رائعة ؟ "

 

اضطربت، حرت في أمري.. بم أجيب ..؟؟

 

يا رغد أنت تثيرين جنوني.. ماذا تتوقعين مني ؟ أنا.. و للأسف، و بكل أسف..لست زوجك حتى يحل لي أعجب بك و أبدي إعجابي لك.. كيف لي أن أصرّح أمامك : أنت رائعة، و أنت لست ِ ملكي..؟ أنى لي أن أتأملك و أنت لست ِ زوجتي أنا ؟؟

يا رغد.. أنت لستِ امرأتي و أنا لا أستطيع تخطي الحدود التي يجب أن تبقى بيننا..

و إن لم أر روعتك، و لم أتأملها و لم أعلّق عليها، فلتعلمي بأنك في قلبي أروع مخلوقة أوجدها الله في حياتي.. مهما كان مظهرك ..

 

لا تزال تنظر إلي منتظرة الإجابة.. كطفلة صغيرة بحاجة إلى كلمة طيبة من أحد.. قلت :

 

" بالطبع ! أنت دائما رائعة منذ صغرك ! "

 

رغد ابتسمت، أظن بفرح.. ثم قامت و اتجهت إلى أحد الأكياس التي تحوي ما اشترته من السوق، و أخرجت بعض الأشياء لتريني إياها !

 

أرتني أحد الفساتين، و هي تقول :

 

" هذا سيدهشك ! انظر .. ما رأيك ؟؟ "

 

الفستان كان أنيقا، و في الواقع أنا لست خبيرا بمثل هذه الأمور ، لكني أظن أنه من النوع الذي يعجب النساء !

 

قالت :

 

" سيغدو أجمل حين أرتديه ! "

 

و قربته من جسمها و ذهبت لتشاهد ذلك أمام المرآة..

 

كانت تبدو سعيدة ..

 

قالت تخاطب المرآة :

 

" متأكدة سيبهر دانة حين تراه ! و ستشعر بالغيظ ! "

 

ثم اكفهر وجهها فجأة .. و شردت برهة ، و استدارت إلي .. و رمت بالفستان على السرير..

 

قلت :

 

" ما الأمر ؟ "

 

قالت :

 

" أريد أن أرتديه "

 

قلت :

 

" إذن افعلي ! "

 

قالت و بريق من الدموع لمع في عينيها :

 

" أرتديه لأبقى حبيسة في هذه الغرفة ؟ "

 

و صمتت قليلا ثم قالت :

 

" لو كان والداي حيين.. لكنا الآن هناك، في بيتنا.. أريهما أشيائي هذه، و أسمع تعليقاتهما.. "

 

" رغد .. "

 

" و لكنت ارتديت ما أشاء.. و تزيّنت كيفما أريد .. بكل حرية.. "

 

" رغد صغيرتي ... "

 

" و لكنت اشتريت ما يحلو لي دون حساب.. و لطلبت من والدي تجديد طقم غرفة نومي .. لم يكن ليتضايق من طلباتي.. فقد كان يحبني كثيرا.. و يدللني كثيرا.. و يحرص على مشاعري كثيرا.. أكثر من أي أب آخر في الدنيا .. "

 

و ارتمت فوق الفستان المرمي على السرير، و أخذت تبكي بحرقة...

 

تمزّق قلبي أنا .. خلية خلية..لهذا الموقف الأليم المرير.. و رغما عنّي تمخّضت مقلتي عن دمعة كبيرة...

 

اقتربت منها محاولا المواساة :

 

" أرجوك يا رغد.. كفى عزيزتي .. "

 

رغد استمرت في البكاء ، و لم تنظر إلي ، لكنها قالت وسط الآهات :

 

" لن يشعر أحد بما أشعر به.. حبيسة و مقيّدة في هذا المكان..

ليتهما يعودان للحياة.. و يعيداني معهما إلى البيت.. و أنا سأتخلى عن كل شيء فقط لأعيش معهما ! "

 

مسحت دمعتي ، و قلت بصوت ألطف و أحن :

 

" بالله عليك يا رغد..يكفي فقد تفطّر قلبي "

 

رغد استدارت نحوي، و أخذت تنظر إلي مطولا..

 

ثم قالت :

 

" هل تحس بما أحسّه يا وليد ؟؟ أتعرف معنى أن تفقد والديك، و مرتين، و بيتك و عائلتك، و مدينتك و جامعتك، و تبقى مشردا عالة متطفلا على غرباء ؟ في مكان لا يوفر لك أبسط حقوقك ؟ أن ترتدي ما تشاء ! "

 

" رغد ! ماذا بيدي ؟ أخبريني ؟ ماذا أستطيع أن أفعل ؟ و حتى لو خرجنا من هذا المنزل و سكنا منزلا آخر... لا حل للمشلكة ! "

 

" بلى ! "

 

قالت رغد ذلك بسرعة ، فقلت أنا مسرعا :

 

" ما هو ؟ "

 

رغد الآن.. عقدت لسانها و هي تنظر إلي نظرات عميقة، كأنها تفكّر فيما تود قوله ثم قالت للقهر :

 

" أرسلني إلى بيت خالتي "

 

ذهلت لسماع هذه الجملة ، و ترنحت قليلا ، ثم سألت :

 

" إلى بيت خالتك ؟؟ كيف ؟ و زوج خالتك ؟ و حسام ؟؟ "

 

قالت :

 

" أتزوّجه "

 

هنا .. توقّف قلبي عن النبض، و توقفت عيناي عن الرؤية، و أذناي عن السمع، و كل حواسي عن العمل ، بل و الساعة عن الدوران...

 

لم أسترد شيئا من حواسي المفقدوة إلا بعد فترة، و أنا في المزرعة ..

و كان أول شيء استعدته هو الشم، إذ غزت رائحة السيجارة أنفي و أيقظت إحساسه عنوة ...

 

قلبتني جملتها هذه رأسا على عقب... و بعد أن كنت شديد الحزن و التعاطف معها، أصبحت أرغب في خنقها..

 

حسام ؟ نعم حسام.. إنه الحبيب السري الذي يعيش في قلب رغد منذ الطفولة.. ليس في قلبها فقط، بل و في صندوق أمانيها الذي لم أنسه يوما...

 

أهذا ما تريدين يا رغد ؟؟

 

 

 

 

 

لم تمض تلك الليلة بسلام.. ظل قلبي ينزف ..من الطعنة العميقة التي سددتها رغد إلى صدري...

 

لذا فإنني عاملتها بشيء من الجفاء في اليوم التالي، و حين هممنا أنا و أروى بالذهاب إلى السوق لشراء الخاتمين و العقد، و سألتني إذا كنا نسمح بذهابها ، أجبت :

 

" أروى تريد أن نشتريهما بمفردينا "

 

" و تتركاني وحدي ؟؟ "

 

" لا ، بل مع الخالة ليندا "

 

و لم أسمح لها بإطالة الحديث، بل انصرفت مباشرة...

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~

 

و ليته أحضرها عوضا عن كل هذا !

 

فبدلا من تأمل المجوهرات، يتأمل الساعة بين الفينة و الأخرى.. و اتصل مرتين لسؤال أمي عنها !

 

بصراحة، وليد يبالغ في اهتمامه بها و أنا منزعجة من هذا الأمر.. و أتمنى لو يأتي خطيبها و يعتني بها لبعض الوقت، حتى نتنفّس !

 

تجوّلنا كثيرا، بحثا عن طقم يناسبنا.. و وليد لم يكن مركزا معي جيدا، بل كان يقول عن أي كل عقد أسأله عن رأيه به :

 

" جميل، دعينا نشتريه ! "

 

اخترنا في النهاية طقما جميلا مناسبا، بالإضافة إلى خاتمي الخطوبة .. و أراد وليد أن نعود للمزرعة لكنني ألححت علي بالذهاب إلى مطعم و تناول العشاء هناك..

إنها فرصة ذهبية بالنسبة لي، لا وجود لرغد معنا!

 

" فيم تفكّر ؟ "

 

سألته و أنا أراه شاردا، قال :

 

" أأ .. في المزرعة ، تعرفين أننا تركنا عمل اليوم غير منجز .. حالما أعود فسأنجزه "

 

قلت :

 

" أوه وليد ! أتفكّر بالعمل حتى و أنت معي هنا ؟ دع عنك المزرعة و شؤونها و لنتحدّث في أمور تخصّنا "

 

لم تظهر عليه أمارة مشجعة ، تضايقت من شروده عني ، قلت :

 

" وليد ! أنا معك ! هل تراني ؟ "

 

الآن ابتسم و قال :

 

" طبعا أروى ! أنا آسف..، فيم تودّين الحديث ؟ "

 

قلت ببعض الخجل :

 

" في أمور بيتننا و خطط مستقبلنا ! "

 

قال وليد :

 

" أخبرتك بأننا لن نتزوّج قبل رغد "

 

رميت بالملعقة التي كانت بين أصابعي ، أتناول بها طبق المهلبية الباردة .. و قلت بانفعال :

 

" رغد ثانية ! أوه .. رغد ، رغد ، رغد ! وليد ! هللا توقفت عن ذكرها أمامي كل ساعة ؟؟ "

 

قال وليد و هو مرتبك :

 

" أروى ! ما حلّ بك ؟؟ "

 

قلت :

 

" ما حلّ بك أنت ؟؟ ألا تشعر بأنك تهملني من أجلها ؟ إنني خطيبتك ! "

 

قال :

 

" أنا آسف يا أروى، لكنك .. لا تعلمين ما تعنيه رغد بالنسبة لي .. "

 

قلت :

 

" ماذا تعني ؟؟ "

 

وليد غيّر الجملة و قلب السؤال ، إلى ما يعنيه هو بالنسبة لها ، إذ قال :

 

" إنها فتاة يتيمة، و بلا بيت و لا عائلة و لا ولي غيري، إن أهملتك أنت، فباستطاعتك اللجوء إلى أمك أو خالك، أما إن قصّرت مع ابنة عمي اليتيمة الوحيدة ، فإلى من ستلجأ ؟؟ "

 

أنا قلت مباشرة :

 

" إلى خطيبها "

 

و لا أدري لم انزعج وليد فجأة و قال :

 

" لنغيّر الحديث، ماذا كنت تودين قوله بشأن المزرعة ؟؟ "

 

قلت :

 

" أي مزرعة ؟؟ "

 

" المزرعة ! ألم تتحدثي عن المزرعة و مستقبلنا فيها ؟ "

 

اشتططت غضبا و قلت :

 

" بل عن عش الزوجية و خططنا المستقبلية فيه "

 

احمرّ وجه وليد ، و تمتم بجمل الاعتذار...

 

لكن ، أي اعتذار يا وليد؟ إنني أشعر بأنك لا تشعر بوجودي ... و كأنني لست خطيبتك.. و كأننا لن نتزوّج ذات يوم !

 

عندما عدنا إلى المزرعة ، و لم أكن أنا سعيدة بالقدر الذي تمنيت، دخلت إلى المنزل مباشرة ، أما وليد فذهب لينجز أعمال اليوم التي اضطر لتركها من أجل مرافقتي...

 

في الصالة، وجدت رغد جالسة تقرأ أحد الكتب..

 

" تأخرتما "

 

" نعم، فقد ذهبنا إلى المطعم.. و تنزهنا لبعض الوقت "

 

و ظهر الاستياء على وجهها، و قالت :

 

" و هل اشتريتما الخاتمين ؟ "

 

" أجل "

 

" هل أستطيع رؤيتهما ؟ "

 

قلت بحنق :

 

" نعم طبعا ، لكن غدا ، بعدما نلبسهما أنا و وليد لبعضنا البعض "

 

قالت :

 

" و أين وليد ؟ "

 

" في المزرعة ، سيعمل لبعض الوقت "

 

و استأذنت و ذهبت إلى غرفتي...

 

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

 

تركتني في غيظي ، اشتعل نارا كجهنم.. أكاد أحرق أوراق المجلة التي بين يدي

و لكن لا

لن أفوّت هذا بسهولة ! و لسوف أفسد عليهما سهرة الغد و أحرمهما من الهناء بخاتميهما !

 

نزعت الخاتم الذي ظل بنصري الأيمن محبوسا به لأربع سنين...

لم أكن قد نزعته قبل الليلة، كما لم أكن قد أبلغت وليد عن انفصالي الشرعي عن سامر.. رغم أن فترة قد مضت على ذلك..

 

لم أكن أريده أن يشعرني بأنه مهتم بي فقط و فقط لأنه ليس لدي من يهتم بي غيره.. كنت أود أن أشعر.. بأنه يهتم بي و يحبني و يريد بقائي معه حتى لو كان والداي على قيد الحياة ، ليس فقط حتى مع وجود خطيب لي..

 

 

عندما سألني :

 

" ماذا بيدي ؟ ما حل المشكلة "

 

كدت أقول :

 

" تزوّجني ! "

 

و كم كنت سأبدو بلهاء غبية و أنا أعرض على ابن عمّي ، و المرتبط، و الذي نعيش في بيت خطيبته أن يتزوّجني !

 

أردت أن ألفت نظره إلى وجود حل اسمه الزواج ، فقلت :

 

" أتزوج حسام "

 

و انتظرت ردة فعله، انتظرت أن أرى مقدار اهتمامه بي .. و رغبته في بقائي معه..كم تمنيت لو يهتف :

 

" مستحيل ! "

 

ألا أنه التزم الصمت، ثم غادر...

 

أحيانا.. أشعر بأنه يهتم بي و يحبني كثيرا.. لكن.. مثل حبه لدانة.. و أنا أريده أن يحبّني مثلما أحبه أنا.. و أن يعجب بي أنا.. و ألا ينظر إلى عيني امرأة غيري أنا !

و إن كان يريد رؤية عيون زرقاء، أو خضراء، أو حتى صفراء.. فأنا سأغير لون عيني و شعري و وجهي و كل شيء لإرضاء ذوقه !

 

لقد قال إنني رائعة منذ الطفولة ! كم أشعر بالسعادة كلما تذكرت هذه الجملة ! إنها كنزي الثمين الذي أفتحه و أنعش مشاعري به كلما أصابني اليأس ..

 

وليد و أروى يخططان لقضاء سهرة خاصة بهما ليلة الغد، للبس الخاتمين.. و أنا .. أخطط لأن أمرض غدا، و أقلق وليد بشأني، و أصرف تفكيره عن السهرة الخاصة، و أحرم أروى مما تصبو نفسها إليه !

 

سترين يا أروى !

 

 

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

لأنني لا أحب تأجيل عمل اليوم إلى الغد، و لأنني سأضطر لاختصار ساعات العمل غدا أيضا، من أجل السهرة التي تريدها أروى احتفالا بوضع الخاتمين ، فإنني قررت أن أقضي ساعات في العمل بالمزرعة الآن...

 

كنت متعبا، فقد قمت بعدة أشياء منذ الصباح، و كان يوما حافلا بالمهام التي كان علي إنجازها.. عدا عن هذا ، فهناك فتاة صغيرة تلعب في دماغي منذ الأمس، و تسبب لي صداعا رهيبا !

 

انتصف الليل، و أنا لا أزال في المزرعة أبذل مجهودا بدنيا لا يتناسب و الظلام و التوقيت، ألا أنني لم أشأ المغادرة قبل إتمامه...

 

 

كنت سأنقل بعض الأشياء إلى السيارة الحوض، ألا أنني حين وجدتها على مبعدة ، تقاعست عن تحريكها، فآخر شيء أفكر به هو قيادة سيارة الآن، اذا قمت بحمل بعض تلك الأشياء بجهد إلى الحوض، و تركت البقية لأنقلها في اليوم التالي، فقد أرهقت كثيرا جدا...

 

كنت أتصبب عرقا، و أشعر بإعياء شديد، و بحاجة ماسة و فورية للاستحمام ، و النوم مباشرة...

 

 

 

عدت إلى المنزل منهك القوى شديد التعب، متوقعا أن يكون الجميع نيام في مثل هذا الوقت ، لذا دهشت حين رأيت رغد جالسة في الصالة تقرأ كتابا !

 

" ألم تنامي بعد ؟ "

 

رفعت رغد عينيها عن الكتاب ، و قالت :

 

" ليس بعد "

 

و كانت نظراتها حادة توحي برغبة منها في الشجار !

 

و هو شيء أفضل الغرق في المحيط عليه، خصوصا و أنا بهذا الحال و التعب !

 

" تصبحين على خير "

 

قلت ذلك، و توجهت نحو غرفة نومي، لأنفذ بجلدي، و لكنني ما كدت أخطو بضع خطوات حتى سمعتها تناديني :

 

" وليــــد "

 

يا رب !

 

لست بمزاج جيّد لتلقي أي لوم و عتاب على تركك وحدك كل هذه الساعات ! أجّلي كل هذا للغد يا رغد ! و أعدك بأنني سأتلقى هجومك بأوسع صدر !

 

التفت إلى الوراء ، و لم أجب ... لكن لسان حالي أجاب : نعم ؟

 

أغلقت الكتاب الذي بين يديها، و وقفت ..

 

إنه التأهّب للهجوم ! رغد أرجوك الرحمة ! هذه الليلة فقط !

 

" أنا جائعة "

 

هل سمعتم شيئا كالذي سمعت ؟؟ تقول جائعة !

 

" ماذا ؟ "

 

" أنا جائعة ! "

 

تلفت يمينا و شمالا.. أبحث عن شخص يؤكد لي ما سمعت !

 

" ألم تتناولي عشاءا ؟ "

 

" كلا "

 

" حسنا ، لم لا تذهبين للمطبخ و تحضّرين وجبة لك ؟؟ "

 

قالت :

 

" أشتهي البيتزا "

 

" البيتزا ؟ "

 

" نعم ! البيتزا "

 

قلت :

 

" و لكن تحضيرها سيستغرق وقتا ! لم َ لم تعدّيها قبل الآن ؟ "

 

" لا أعرف طريقة لتحضيرها، و لا أريد أن أعرف، كما و أنني شعرت بالجوع الآن فقط "

 

و بالتالي ماذا ؟؟

 

قلت :

 

" حسنا ، حضّري شيئا آخر .. "

 

" أريد بيتزا "

 

" رغد ! و هل تعتقدين أنني أستطيع تحضير بيتزا ؟؟ "

 

" تستطيع شراءها من المطعم "

 

نظرت إلى الساعة ، كانت الواحدة ليلا !

 

" مطعم ؟ الآن ؟؟ "

 

" نعم ، لابد أنه يوجد مطعم واحد على الأقل مفتوح الآن "

 

و هذا يعني أن علي ّ أنا الذهاب للبحث عن مطعم و جلب البيتزا ! آخر عمل أفكّر في القيام به على الإطلاق !

 

" حضّري لك أي وجبة من الطبخ ، الوقت متأخر و أنا متعب .. "

 

" لا أشتهي غير البيتزا ! "

 

" كلي أي شيء الآن ، و غدا آخذك إلى المطعم "

 

قالت :

 

" معكما أنت و أروى ؟ "

 

و رمقتني بنظرة حادة .. ثم أضافت :

 

" هل تقبل العروس ؟ "

 

تنهّدت ، و قلت خاتما الموضوع :

 

" أمامك المطبخ بما حوى ... تصبحين على خير "

 

و استدرت و تابعت طريقي، و لما بلغت الباب و فتحته سمعتها تقول :

 

" لو كان سامر هنا ، لما سمح بأن أنام و أنا جائعة ! و لكان لفّ العالم ليحضر لي ما أريد "

 

أفلتت أعصابي، صفعت الباب بقوّة و أنا أستدير إليها ، و أراها تجلس على المقعد و تحني رأسها إلى الأرض، و تبدأ بالبكاء...

 

سرت إليها و وقفت قربها و قلت بعصبية :

 

" حسنا.. أنا ذاهب لإحضار ما تريدين "

 

و سكت لأتنفس، ثم تابعت :

 

" لا تستفزّيني هكذا ثانية ! "

 

رفعت رأسها و نظرت إلي، ربما نظرة استغراب أو اعتذار ، لم أكد أميّزها لأنني سرعان ما استدرت و ذهبت نحو الباب، و ما أن فتحت الباب حتى وصلني صوتها و هي تقول:

 

" مع عيدان البطاطا المقلية... ! "

 

التفت إليها فوجدتها تبتسم ! نعم تبتسم !

 

أتعرفون أي نوع من الابتسامات ؟؟ تلك التي تنسي المرء أنه يتصبب عرقا و أن عضلاته مرهقة حد الشلل ، و مشاعره متهيجة حد الغليان !

 

يا لهذه الفتاة !

 

 

لم يكن العثور على مطعم مفتوح أمرا سهلا، لكنني اشتريت لصغيرتي المدللة هذه ما تريد، و خلال 40 دقيقة ، عدت إلى المنزل ...

 

 

كانت لا تزال جالسة على نفس المقعد ، و الكتاب في حضنها و يداها موضوعتين على صفحتيه ...

 

لم تنهض لدى دخولي...

 

قلت :

 

" وصل عشاؤك ! "

 

لم ترد... اقتربت منها ، فوجدت عينيها مغمضتين... و ببساطة كانت نائمة !

 

" رغد .. "

 

لم تجب، اقترب أكثر و همست :

 

" رغد هل نمت ِ ؟ "

 

و لم تستفق.

 

ماذا أفعل بهذه الفتاة ؟؟

 

في منتصف الكتاب المفتوح، لمحت شيئا يلمع.. اقتربت أكثر، إنه ليس إلا خاتم خطوبة رغد.. ! مددت يدي و أخذت الخاتم...و دققت النظر فيه.. محفور بباطنه الحرفان الأولان من اسمي رغد و سامر، مع تاريخ الخطوبة...

 

 

بقيت واقفا في مكاني أعبث بذلك الخاتم، و أتمنى أن امحيه من الوجود، و أمحي معه كل علاقة ربطت بين سامر و رغد.. حتى رابطة الدم !

 

في آخر مرّة زارنا فيها سامر.. في آخر لحظة قضاها معنا.. في المزرعة ، و آخر صورة التقطتها عيناي لهما هو و رغد، كانا في عناق حميم.. حلل كل خلايا الدم الجارية في عروقي.. و أصابني بأنيميا حادة فتّاكة...

 

لكني حتى هذه اللحظة، أجهل مصير هذه العلاقة و لا أجسر على التحدّث مع رغد بشأنها...

 

التفت الآن إلى رغد، نائمة بعمق و هدوء... و تعرفون كم تطيب لي مشاهدتها هكذا.. و تعرفون كم أعاني و أجاهد نفسي أقف عند الحدود فيما بيننا..

 

اقتربت منها أكثر، و همست :

 

" رغد.. قومي إلى غرفتك "

 

لكنها لم تتحرك، ناديت :

 

" رغد انهضي يا صغيرتي.. هل ستنامين هنا ؟؟ "

 

و مددت يدي و ربت بخفة على يدها ، رغد تحركت، و مالت بجدعها على المقعد حتى أسندت رأسها عليه و هي تقول :

 

" أوه أروى حلّي عني ، أكرهك ! "

 

و صمتت !

 

دهشت ! بم تحلم صغيرتي هذه اللحظة ؟؟ و لم تقول شيئا كهذا ؟ و ماذا يعني ذلك؟؟

 

" هذا أنا وليد، أنت تنامين في الصالة رغد، قومي إلى غرفتك "

 

ابتسمت رغد، و هي نائمة ، ثم قالت :

 

" بابا .. أحبك .. "

 

و غطت في سكون عميق !

 

ليتني أدخل حلمك و أرى... بما و من تحلمين !

 

نوما هنيئا...صغيرتي..

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~

 

عندما نهضت، و على صوت منبه مزعج ، رأيت نفسي نائمة على المقعد في وضع غير مريح ! و على المنضدة الموضوعة أمام المقعد ، وجدت كيسا يبدو أنه لأحد المطاعم !

نهضت و نظرت من حولي فلم أر أحدا، لكنني كنت أسمع صوت المنبه القوي قادما من ناحية غرفة وليد !

 

مددت يدي نحو الكيس أولا و تفقّدت ما به

 

" إنها البيتزا ! "

 

و صوّبت نظري ناحية غرفة وليد، فوجدت الباب مفتوحا على مصراعيه ... و كان المنبه يرن باستمرار ... دون أن ينهض وليد...

 

قمت أنا و تسللت إلى الغرفة، و أوقفته، و ألقيت نظرة على وليد...

 

كان مستلق ٍ على السرير و أطرافه الأربعة موزعة على جميع الزوايا ! كان يبدو غارقا في النوم جدا !

 

و مع ذلك ما أن نطقت باسمه :

 

" وليد "

 

حتى فتح عينيه بسرعة، ثم نهض جالسا باندفاع !

 

هل صوتي مفزع لهذا الحد ؟؟ لقد كان المنبه يرن حد البحة!

 

وليد تلفت يمينا و شمالا ثم نظر إلي

 

" رغد ؟ ما بك ؟ "

 

إنه بالفعل فزع !

 

قلت :

 

" لا شيء ! إنه وقت الصلاة ! "

 

 

خرجت من غرفته، و ذهبت إلى غرفة أروى،التي لا أزال أشاركها فيها، حاملة معي كيس المطعم !

 

وجدت الباب موصدا من الداخل !

 

" أروى! تبا لك ! سأعتبره طردا ! "

 

بعد قليل، و قد خرج وليد مع العجوز كالعادة للصلاة للمسجد، حملت كيسي و البطانية ، و ذهبت إلى غرفة وليد و تابعت نومي على المقعد !

 

وجدتها فرصة ذهبية لتوسيع دائرة الخلاف بيننا، أنا و أروى.. قلت مخاطبة وليد بعد عدة ساعات :

 

" إنها لا تريدني في غرفتها، و لا في بيتها و لا مزرعتها، أخرجني من هذا المكان "

 

وليد كان متضايقا جدا، قال :

 

" لا يمكن أن تتعمّد أروى إيصاد الباب دونك! ربما أقفلته خطأ ً "

 

" طبعا ستقول هي أنه خطأ، لكني متأكدّة من أنه مقصود ، وليد لا أريد العيش في هذا المكان.. "

 

امتقع وجه وليد و كأبت ملامحه بشدّة... و فرك جبينه براحة يده ثم قال :

 

" إلى أين نذهب إذن ؟ "

 

قلت :

 

" دعنا نعود إلى شقة سامر "

 

لم ترق الفكرة لوليد، و قال :

 

" و عملي ؟ "

 

" فتّش عن عمل آخر، إنه عمل متعب و لا يستحق اهتمامك و مجهودك على أية حال "

 

وليد حزن من قولي هذا، كما ظهر جليا على وجهه، ألا أنه قال :

 

" سأحاول إيجاد حل آخر..."

 

و صمت قليلا ، ثم تابع و هو يضيق فتحة عينيه :

 

" ألا أنني لن أسمح لك بالزواج قبل الخامسة و العشرين ! "

 

ذهلت من كلامه، و من نظرته فحملقت به بفضول ، و سألت :

 

" و لم الخامسة و العشرين بالذات ؟ "

 

" هذا على الأقل، فأنت لا تزالين صغيرة ، و ستظلين صغيرة لبضع سنين ! "

 

بشكل تلقائي، رفعت يدك اليمنى مبرزة إصبعي البنصر، لأثبت بأنني مخطوبة يعني كبرة ! و للدهشة ، لم أجد الخاتم !

 

تبدّلت ملامحي ، و أخذت أقلب كفي ظهرا و بطنا و أفتش عن الخاتم في أصابعي العشرة ! لا ، بل العشرين !

 

وليد كان يراقبني، و رآني و أنا أضطرب، ثم أذهب نحو المقعد و أفتّش ما حوله..

 

أقبل وليد يسير ببطء ، حتى وقف خلفي مباشرة، و كنت أنا جالسة على الأرض محنية رأسي للأسفل ، أتحسس بيدي الأرضية تحت المقعد ...

 

يا إلهي أين اختفى !؟

 

" عمّ تبحثين ؟ "

 

رفعت نظري إلى الجبل الطويل الواقف خلف، فرأيت ميلا بسيطا لإحدى زاويتي فمه للأعلى، يعني ، شبه ابتسامة ماكرة !

 

قلت و أنا لا أزال في وضعي أنظر إليه كمن ينظر للسقف !

 

" هل رأيته ؟ "

 

" ما هو ؟؟ "

 

" محبسي ! "

 

" أي محبس ؟؟ "

 

" خاتم خطوبتي يا وليد ، تركته على الكتاب البارحة ! "

تغيّرت تعبيرات وليد و قال :

 

" هل يعني لك فقده شيئا مهما ؟؟ "

 

قلت مستغربة :

 

" طبعا ! إنه ليس مجرّد خاتم ! "

 

وليد عبس بعض الشيء، ثم مد يده في أحد جيوبه، و أخرج الخاتم... و وضعه على المنضدة ...

 

نهضت أنا و نظرت إلى الخاتم، ثم إلى وليد... و حرت في أمره...

 

ولى وليد مدبرا خارجا من المنزل ألا أنه حين بلغ الباب استدار و قال :

 

" لن تضعي شيئا كهذا في يدك اليسرى قبل مضي سنين ! مهما كان الطرف الآخر ! لن أسمح بذلك ..."

 

 

و انصرف !

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~ ~

 

أخيرا حلّ الليل! كم أنا مسرورة و في قمة السعادة.. فالليلة سنرتدي أنا و وليد خاتمي الخطوبة أخيرا !

 

قضيت فترة طويلة على غير العادة أمام المرآة أتزيّن !

أعددت لسهرة جميلة و رومانسية مع خطيبي، في الغرفة الخارجية...

و الإعداد يشمل العشاء، و طبق التحية، و الشموع الحمراء، و فستاني الأزرق الداكن، و تسريحتي الجميلة، و خاتمي الخطوبة، و طقم الشبكة، و أيضا الكلام اللطيف الذي حضّرته لأقوله لوليد!

 

و هو أهم ما في السهرة، فإن في قلبي مشاعر أود التعبير عنها...

بصراحة حتى الآن لا أشعر بأنني كبقية الفتيات المخطوبات، لأن ظروف وليد لم تسمح لنا بالاستمتاع بأيام خطوبتنا كما ينبغي... كيف نهنأ و والداه توفيا قبل فترة تعتبر وجيزة...؟؟

و الآن بعدما استرد كيانه، و اجتاز الصدمة، حلّت رغد.. كعائق دون انفرادي بخطيبي!

 

و اليوم هي مستاءة منّي لأنني نسيت باب غرفتي مغلقا، بعد استبدال ملابسي، و أويت للنوم !

 

على كل ٍ استياؤها هذا جاء بفائدة ألا وهي بقاؤها بعيدة بعض الشيء !

 

فتح الباب أخيرا و دخل وليد.. خطيبي العزيز..

 

و انبهر بكل ما حوله، فقد صنعت جوا رومانسيا رائعا !

 

" جميل ! ذوقك جميل ! "

 

" شكرا وليد! تفضّل بالجلوس ! "

 

اتخذنا مجلسينا متقابلين تفصلنا مائدة العشاء المميز... و إلى جانبنا منضدة صغيرة وضعت عليها علبة الخاتمين و العقد...

 

تبادلنا أطراف الحديث، الهادىء اللطيف، و الابتسامات الناعمة ! و بمجرّد أن نلبس الخاتمين، سأقول له : ( أحبك يا وليد ! )

 

كم تتخيلون كان مقدار سعادتي؟؟

 

و ماذا تتصوّرون لون وجهي ؟؟

 

و هل لديكم فكرة عن سرعة دقّات قلبي ؟؟

 

ليتكم كنتم معنا...

 

تناول وليد علبة الخاتمين، و أمسك بخاتمي الذهبي، و هم ّ بإلباسي إياه...

 

إنها اللحظة الحاسمة التي كنت انتظرها ...

 

حينها، سمعنا طرقا سريعا على الباب جعلنا نفزع و ننهض واقفين بسرعة...

 

" وليد.. "

 

و انفتح الباب ، فإذا بها أمي تقبل مسرعة ...

 

" أمي .. ماذا حدث ؟؟ "

 

أمي كانت تنظر إلى وليد و هي مقبلة نحوه و مخاطبة له بقول :

 

" وليد.. أسرع .. رغد متعبة جدا ! "

 

وليد ، لم ينتظر حتى إلى أن تنهي أمي جملتها، رمى بالخاتم بسرعة فوقع في كأس العصير... و قفز خارجا من الغرفة يركض بقوة... كمتسابق في الماراثون...

 

لم تكن غير ثانية ، أو ربما عشر الثانية أو حتى جزء من مئة جزء منها ، إلا و اختفى وليد.. و تلاشى كل شيء...!

 

و خيّم سكون على الغرفة.. لا يعكّره إلا رنين الخاتم المصطدم بالكأس..

و ظلام لا يوتّره إلا لهيب الشمع المنصهر أمام عيني ...

و بقايا أمسية..انتهت قبل أن تبدأ..

و سعادة اختفت قبل أن تظهر..

و لسان خرس قبل أن ينطق...

( أحبك يا وليد ) ....

 

يتبع............

Link to comment
Share on other sites

اشكرك ع المرور و الرد .. و اشكر شذا الروح ع الردود... :up::up:

 

القصة مكررة وفية الكثير من القصص مكررة... شى طبيعي .. :ssm11::ssm11:

 

وصاحبة القصة الاصلية ماكملت القصة ليحين :ssm11: .. لاكن ان شاء الله جريب راح تكمل الدكتورة القصة ..ان شاءالله... :D

 

ومستحيل .. تكمل القصة في يوم وليلة واكيد انت اتعرف ان هي كانت مشغولة بشهادة .... :aq16:

 

بس نتمنى ان القصة راح تكتمل ... :D

 

تحياتي... يوسف ش س

Link to comment
Share on other sites

بعد الانتصار الذي حقّقته، ليلة أن أفسدت ُ على أروى سعادتها، شعرت بنشوة كبيرة!

 

كيف لا، و ليلتها.. بقى وليد قلبي معي في المستشفى ، يحيطني بالرعاية و العطف !

 

لقد زالت جميع الآلام المفتعلة التي أرغمت معدتي على التظاهر و الإحساس بها ، بمجرد أن رأيت وليد مقبلا نحوي بقلق !

 

و تحوّلت إلى رقص عندما رأيه أصابع يده خالية من أي محابس !

 

سألته بعد ذلك، و نحن في المستشفى، و أنا أنظر إلى يده اليمنى :

 

" أين خاتمك ؟ "

 

وليد فكّر قليلا ثم قال :

 

" في علبته ! "

 

شعرت بسعادة كدت معها أضحك بقوة ! لكنني منعت نفسي بصعوبة لئلا يكتشف وليد بأنني لا أشكو من أي شيء !

إلا من غيرتي من الدخيلة، و رغبتي في إبعادها عني نهائيا

 

أخفضت نظري لئلا يقرأ وليد ما بعيني من فرح و مكر .. و بقيت كذلك بضع ثوان، ، إلى أن سمعته يقول :

 

" و أنت ؟؟ "

 

رفعت نظري إليه ، في بلاهة ! ماذا يعني ؟؟

 

قال :

 

" أين خاتمك ؟ "

 

و من عينيه إلى يدي اليمنى مباشرة ! لم أرتده مذ خلعته تلك الليلة !

 

قال :

 

" لا تقولي أنك أضعته مجددا ! "

 

قلت مداعبة :

 

" هل وجدته ؟؟ "

 

وليد اندهش و قال مستغربا :

 

" أحقا أضعته ثانية ؟؟ أي فتاة أنت ! "

 

قلت مباشرة :

 

" أنا رغد ! "

 

ابتسم و قال :

 

" حقا !؟ كدت ُ أنسى ! كنت ِ تضعين ألعابك و تأتين إلي طالبة مني البحث عنها ! "

 

ابتسمت ُ بخجل...

 

قال :

 

" لكنها كانت ألعاب .. أما هذا .. "

 

و بتر جملته...

 

و ظل ينظر إلي بصمت برهة.. ثم وجه عينيه نحو الجدار...

 

قلت :

 

" وليد .. "

 

بصوت خافت هامس، التفت إلي و أجاب :

 

" نعم ؟ "

 

" هل.. ستظل تعتني بي .. فيما لو بقيت ُ دون زواج عشر سنين أخرى ؟ "

 

استغرب وليد من سؤالي، ثم قال :

 

" و عشرين، و خمسين ، و مئة ! "

 

قلت بخجل :

 

" حقا وليد ؟ "

 

" طبعا صغيرتي ! إنك جزء مني ! "

 

كدت ُ أقول بسرعة :

 

" و أنت كلّي ! "

 

و لكنني خدّرت الجملة في لساني لئلا تصحو !

 

قلت و أنا أعبث بأصابعي :

 

" وليد ... "

 

و أتممت :

 

" تخلّصت ُ من الخاتم "

 

و نظرت إليه لأرى تعبيرات وجهه

 

بدا مستغربا حائرا

 

قلت موضّحة أكثر :

 

" سامر حل ّ رباطنا و لذلك .. خلعته "

 

هي تعبيرات غاية في الغموض ، تلك التي ارتسمت على وجه وليد لحظتها... ذهول مفاجأة ، صدمة، استياء... عدم تصديق، أو .. لا أدري.. لا أدري ما كان معناها...

 

بعد صمت الاستيعاب و التفكير ، قال :

 

" إذن .. إذن ... أنت و سامر ... "

 

أتممت ُ جملته :

 

" لم نعد مرتبطين ! "

 

وليد وقف فجأة ، و أخذ يحوم...في الغرفة ، يفكّر .. ثم استدار إلى فجأة و سألني :

 

" لماذا يا رغد ؟ "

 

تبادلنا نظرة عميقة، ثم أحنيت رأسي و أخفضت عيني نحو الأسفل.. خشية أن تصرخ الجملة من عيني : ( لأني أحبك أنت ! )

 

التزمت الصمت، و لم أرفع بصري إليه مجددا... فما كان منه إلا أن أقبل نحو الستارة ليغلقها

 

بعدما أغلقها حول سريري، قال جملة أخيرة :

 

" مهما كان السبب، و لأنك تحت رعايتي الآن، فاحذفي فكرة الزواج من رأسك نهائيا.. طوال السنين المقبلة "

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~ ~

 

الآن، و أخيرا..أصبحت رغد حرّة !

 

اتصلت بسامر و علمت منه بالتفاصيل، و الجملتان اللتان ظلتا معلقتين في رأسي كانت أولاهما :

 

" لا داعي لأن تأتيا لزيارتي ، لا أريد أن أراها "

 

أما الثانية، فهي :

 

" تستطيع أن تتزوّج الآن ممن أرادت "

 

" من تعني ؟ "

 

" اسألها ! "

 

 

 

كل هذا أكد لي ، أن رغد بالفعل انفصلت عن سامر من أجل رجل آخر... و هذا الآخر لن يكون غير حسام، و أنا لن أكون وليد إن سمحت لها بالزواج من أي مخلوق على وجه الأرض.. فرغد من هذه اللحظة أصبحت لي ! نعم لي !

و مهما كانت العقبات، و مهما عاندت الظروف، فسوف لن أسمح لأي رجل بدخول حياتها و سرقتها مني مجددا.. و لن تكون في النهاية إلا لي أنا..

 

 

 

توالت الأيام، و رفع الحظر أخيرا عن المدينة الصناعية و صار بإمكان الناس التحرك منها و إليها دون خطورة .. و ما أن حدث ذلك ، حتى طالبتي رغد بأخذها إلى بيت خالتها و ألحّت علي بالطلب ، الأمر الذي جعل الشكوك في رأسي تكبر و تتفاقم و أصبحت مهووسا باسم حسام حتى صرت أراه في الكوابيس...

و بعد إلحاح شديد منها وافقت على اصطحابها لزيارة عائلة خالتها بمجرد انتهاء موسم الحصاد .

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~

 

بعد أيام، سيأخذني وليد أخيرا لرؤية خالتي و نهلة و الجميع ... كم اشتقت إليهم ! كم من الشهور مضت مذ افترقنا في تلك الليلة الحمراء ...

 

كنت رغم ذلك على اتصال شبه يومي بنهلة أخبرها عن كل شيء يدور من حولي و داخلي ...

 

في أحد الأيام، كان وليد يعمل في المزرعة كالعادة، و كنت أراقبه و أرسم منظرا جميلا على مقربة منه، الشقراء كانت داخل المنزل مشغولة ببعض الأمور مع والدتها

 

 

فجأة ، إذا بي أرى أناس غرباء يدخلون المزرعة، و يعبرون الممر و يقتربون منّي !

 

كانوا أربعة رجال... تقدّم أحدهم نحوي أكثر و سأل :

 

" أأنت الآنسة أروى نديم ؟؟ "

 

قال آخر مقاطعا :

 

" أرأيت ؟ كما توقّعت ! إنها فتاة قاصر ! "

 

قال الرجل الأول و هو يقترب أكثر :

 

" أنت هي ؟ "

 

تراجعت أنا للوراء، و ألقيت بالفرشاة و علبة الألوان جانبا و هتفت :

 

" وليـــــد "

 

وليد كان يعمل بالجوار.. ، و حين سمع ندائي أقبل مسرعا .. فلما ظهر أمام عيني ركضت إليه في ذعر ...

 

" رغد .. ماذا هناك ؟ "

 

و نظر إلى الرجال الغرباء ...

 

ثم سألهم :

 

" من أنتم ؟؟ "

 

قال الرجل الذي تحدّث إلي :

 

" أنا المحامي يونس المنذر، و هؤلاء رجال قانون أتباعي ، أتينا بحثا عن الآنسة أروى نديم "

 

و نظر باتجاهي أنا

 

اختبأت أنا خلف وليد، و أطللت برأسي لأراهم !

 

قال المتحدّث :

 

" أهي هذه ؟ "

 

قال وليد :

 

" لا ، لكن هل لي أن أعرف ماذا تريدون منها ؟ "

 

قال المتحدّث :

 

" أهي هنا ؟ أ هذه مزرعة المرحوم نديم وجيه ؟ "

 

" نعم . فماذا تريدون منها ؟ "

 

" عفوا من تكون يا سيد ؟ "

 

" وليد شاكر، زوج أروى نديم "

 

تبادل الرجال جميعهم النظرات ، ثم قال المتحدّث :

 

" هل يمكننا التحدث إلى السيدة أروى ؟ فالأمر مهم "

 

قال وليد :

 

" هل لي أن أعرف .. الموضوع ؟؟ "

 

قال الرجل :

 

" الموضوع يتعلق بإرثها، و لكن لا أريد مناقشته دون حضورها شخصيا و مع البطاقة المدنية ، بعد إذنك "

 

وليد استدار ليتحدّث معي ...

 

" رغد، من فضلك، استدعي أروى، و اطلبي منها إحضار بطاقتها ، و احضري بطاقتي من محفظتي ، تجدينها في أول أدراج الخزانة في غرفتي "

 

أذعنت للأمر و ذهبت مسرعة نحو أروى ، و أخبرتها بالأمر، ثم أسرعت إلى غرفة وليد أفتّش عن محفظته

 

 

استخرجت المحفظة من أحد أدراج الخزانة، و أخرجت البطاقة منها و أثناء ذلك ، لمحت شيئا داخل المحفظة أثار فضولي !

 

مجموعة من قصاصات الورق مرصوصة خلف بعضها البعض و مدسوسة خلف البطاقة !

 

بفضول سحبت واحدة منها فاكتشفت أنها جزء ممزق من صورة فوتوغرافية ما !

 

استخرجت القصاصة الثانية ، و الثالثة ، و الجميع، حتى وجدت قطعة حاوية على وجه شخص !

 

رتبت القصاصات .. حتى اكتملت الصورة ، و صارت جليّة أمامي ...

 

صورة لفتاة صغيرة، تجلس على الأرض، و أمامها علبة ألوان و دفتر تلوين تلّون رسومه ... صورة لا يقل عمرها عن 13 عاما كما لا يزيد عمر الطفلة الظاهرة فيها عن 5 سنين !

إنها صورتي أنا !!

 

 

" رغد "

 

سمعت صوت أروى مقبل نحوي فأعدت القصاصات بسرعة كيفما اتفق، و أخذت البطاقة و خرجت مسرعة من الغرفة ...

 

" ها أنا "

 

خرجنا سوية من المنزل إلى المزرعة، فوجدنا وليد و الرجال الأربعة و قد جلسوا على المقاعد الموجودة حول طاولة موضوعة على مقربة من المنزل ...

 

حينما أقبلنا.. وقف الجميع .. و قال وليد مشيرا إلى أروى :

 

 

" هذه هي أروى نديم وجيه "

 

و بعد أن استوثق الرجال من البطاقة ، قال ذلك الرجل نفسه :

 

" إذن فأنت لست فتاة قاصر كما اعتقدنا "

 

قالت أروى :

 

" أنا في الرابعة و العشرين من العمر ! "

 

قال الرجل :

 

" هذا سيسهّل مهمّة استلامك للإرث "

 

أورى و وليد تبادلا نظرة التعجب ، ثم قالت :

 

" الإرث ؟ أي إرث ؟ والدي رحمه الله لم يترك لنا غير هذه المزرعة ! "

 

و أشارت بيدها إلى ما حولها ...

 

الرجل تحدّث قائلا :

 

" لا أتحدّث عن إرث والدك رحمه الله "

 

تعجبت أروى ، و سألت :

 

" من إذن ؟؟ "

 

قال الرجل :

 

" عمّك المرحوم عاطف وجيه "

 

حملقنا نحن الثلاثة في وجوه بعضنا البعض، في منتهى الدهشة و الاستغراب ، و إن كنت أنا أقلهم استغرابا !

 

قال وليد :

 

" عاطف وجيه ؟؟ أبو عمّار ! "

 

أجاب الرجل :

 

" نعم أبو عمّار ، رحمهما الله "

 

وليد و أروى نظرا إلى بعضهما .. ثم إلى الرجل الغريب ...

 

سألت أروى :

 

" عمّي عاطف ! عجبا ! لقد مات قبل عام ! هل ذكرني في وصيته !؟ "

 

الرجل قال :

 

" لم يترك المرحوم وصية، كما لم يترك وريثا ، لكنه ترك ثروة ! "

 

ازداد تحديق وليد و أروى في بعضهما البعض ، ثم سألت أروى :

 

" ثروة ؟ "

 

قال الرجل :

 

" نعم ، و لك منها نصيب كبير "

 

حلّ الصمت برهة ، ثم قالت أروى :

 

" ما يصل إلى كم تقريبا ؟ "

 

قال الرجل بصوت تعمّد أن يكون واضحا رنانا :

 

" ما يصل إلى الملايين يا سيدتي ! "

 

فغرت أروى ، و كذلك وليد و أنا.. كلنا فغرنا أفواهنا من الذهول ... و قالت أروى غير مصدّقة :

 

" ملا...يين ؟؟ تركها لي ..!! "

 

قال الرجل :

 

" نعم ملايين ! "

 

هزّت أروى رأسها غير مصدّقة... و هي تضع يدها على صدرها من الذهول ...

 

قال الرجل :

 

" يبدو أنك لم تكوني على علم ٍ يا سيّدتي.. بأن عمّك المرحوم عاطف وجيه كان مليونيرا فاحش الثراء ! "

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~

 

لقد كانت مفاجأة هزّت كياننا جميعا ...

 

عاطف وجيه، هو والد عمّار القذر، الذي قتلته بيدي قبل تسع سنين ..

 

و عاطف هذا ، كان رجلا شديد الثراء و يملك العديد من الأملاك ... و من بينها مصنع كبير كان يضاهي معظم مصانع المدينة الساحلية، و هو مصنع لم تلمسه يد الحرب، كما فعلت بمصانع أخرى ، منها مصنع والدي السابق ...

 

حقيقة، كان حدثا مزلزلا شل ّ حركتنا و أفكارنا طوال عدّة أيام...

 

و الفتاة الفقيرة التي ارتبطت بها ، و التي قبلت بي على حالي و عللي ، و فتحت قلبها و بيتها و كل ما لديها من أجلي، و التي كنت أفكر بالانسحاب من حياتها من أجل رغد... أصبحت الآن..مالكة لثروة كبيرة !

 

يا للأيام ...

 

يا للزمن .. الذي يؤرجحنا و مصائرنا إيابا و ذهابا... علوا و هبوطا... مستقبلا و ماض ٍ !

 

 

كان يفترض عليها السفر إلى المدينة الساحلية من أجل إتمام الإجراءات اللازمة شخصيا.. و استلام نصيبها العظيم من تلك الثروة...

 

و كان علي أنا ترتيب الأمور من أجل هذه الرحلة، إلى المدينة الساحلية، مدينتي الأصلية، و التي لم أزرها منذ زمن..

 

 

 

" هل تصدّق يا وليد ؟؟ إنني لا أكاد أصدّق ! كأنه حلم ! آخر شيء كنت أتوقعه في الوجود على الإطلاق..هو أن أرث شيئا و من ثروة عمّي الذي لم أره في حياتي غير بضع مرّات عابرة ! "

 

قالت ذلك ، و هي بين التصديق و التكذيب.. تشع عيناها فرحا و ابتهاجا..

 

قلت :

 

" سبحان الله ! "

 

أروى، مدت يديها و أمسكت بيدي و قالت :

 

" شدّ على يدي ّ بقوّة يا وليد ! دعني أحس بالألم لأتأكّد من أنها حقيقة "

 

ابتسمت لها و قلت :

 

" إنها حقيقة مذهلة ! صدّقي يا أروى ! أصبحت ِ ثرية ! "

 

أروى نظرت إلي بسعادة، و اغرورقت عيناها بالدمع، ثم ارتمت في حضني ...

 

" ضمّني بقوّة يا وليد.. فأنا أريد أن أشعر بأنها الحقيقة..بأنني لا أحلم..بأنني في الواقع..وبأنك معي ! "

 

أحطتها بذراعي مشجعا ..و مؤكدا لها ما أعجز أنا نفسي عن تصديقه... و مكررا :

 

" سبحان الله...سبحان الله "

 

أغمضت عيني، و نحن متعانقين، و سبحت في بحر الذكرى البعيدة... استعرض شريط حياتي و المفاجآت التي اختزنها القدر لي ، و صدمني بها مرة تلو أخرى ...

 

قالت أروى :

 

" ماذا سنفعل الآن؟؟ "

 

" لا أعرف ! لازلنا في أول الطريق ! "

 

ابتعدت أروى عن صدري قليلا، و نظرت إلي مطولا، و ابتسمت و قالت :

 

" لا حاجة للقلق..ما دمت معي "

 

ابتسمت لها، فعادت و غمرت رأسها في صدري بارتياح...

 

أما أنا فأغمضت عيني في ألم...و مرارة ..في حيرة و ضياع.. ماذا سأفعل الآن؟؟ ماذا ينتظرني بعد ؟؟ ماذا تخبئين لي أيتها الأقدار ؟؟

 

و عندما فتحتهما..لمحت عينين حمراوين..ملأتهما الدموع..تنظران إلي بألم، مطلتين من فتحة الباب.. و ما أن رأيتهما ..حتى انسحبت صاحبتهما مبتعدة .. تاركة إياي في بحر من الضياع..

 

لم استطع البقاء مكاني لحظة بعد.. أبعدت أروى عني قليلا و قلت :

 

" دعيني أذهب لترتيب بعض الأمور.. من أجل السفر "

 

أروى ابتسمت و قالت :

 

" و أنا أيضا سأرتب بعض أموري... لا أدري كم سنغيب هناك ! "

 

 

 

و تركتها و تسللت نحو غرفة رغد..

 

طرقت الباب مرارا لكنها لم تجبني، و حين هممت بالانصراف رأيت مقبض الباب يتحرك أخيرا...

 

في الداخل، وجدت رغد غارقة في الدموع المريرة..فتصدّع فؤادي و طار عقلي خوفا عليها...

 

" ما بك صغيرتي؟؟ ماذا حصل ؟"

 

رمتني رغد بنظرة ثاقبة .. لم يكفها تمزيق أحشائي بل و صهرت الجدار الذي خلفي من حدّتها...

 

" رغد !؟ "

 

قالت :

 

" متى ستسافران ؟ "

 

قلت :

 

" خلال أيام معدودة "

 

قالت :

 

" هل يجب أن تذهب أنت ؟ "

 

استغربت سؤالها و أجبت :

 

" طبعا ! فأروى ستكون بحاجة إلي بالتأكيد ! "

 

قالت بنبرة حزينة :

 

" و أنا ؟ "

 

نظرت إليها بتعجّب ، و قلت :

 

" بالطبع ستكونين معنا ! "

 

رغد لم تعقّب، بل أحنت رأسها للأسفل بحزن...

 

اقتربت منها أكثر ، ثم قلت :

 

" رغد ! و هل تظنين أنني سأترك هنا و أذهب ؟؟ "

 

رغد رفعت رأسها و نظرت إلي نظرة جعلت قواي تخور فجأة ...

 

قلت بصوت ضعيف واهن :

 

" أرجوك يا رغد.. ماذا تقصدين ؟ أخبريني بلسانك فلغة العيون هذه ..ترسلني إلى الجنون "

 

قالت رغد :

 

" ستصبحان ثريين ! "

 

ثم أضافت :

 

" هنيئا لكما ! "

 

و غطت وجهها بيديها كلتيهما و بكت بكاء ً مؤلما...

 

" أرجوك يا رغد، لم كل هذا ؟؟ ماذا يجول برأسك الآن ؟؟ "

 

رغد قالت و هي على وضعها هذا :

 

" دعني وحدي "

 

لم أقبل، قلت مصرا :

 

" ما بك الآن ؟ أخبريني أرجوك ؟؟ "

 

أزاحت رغد يديها و رمقتني بنفس الناظرة ، و قالت :

 

" أريد الذهاب إلى خالتي ! هلا ّ أخذتني إلى هناك ؟ "

 

 

 

 

رتبنا الأمور للسفر برا ، أنا و رغد و أروى و الخالة ليندا ، فيما ظل العم إلياس في المزرعة، يهتم بأمورها بمساعدة الأشخاص الذين عيّنتهم أنا للعمل عندنا قبل مدّة.

 

خطة سفرنا كانت تقتضي منا التعريج على المدينة الصناعية أولا ، من أجل زيارة عائلة أم حسام، كما ترغب رغد و تلح، و من ثم الذهاب إلى المدينة الساحلية.

 

في السيارة، كانت أروى تجلس على المقعد المجاور لي، و كنا نتبادل الأحاديث معظم الوقت، بينما يخيم صمت غريب على المقعدين الخلفيين، رغد و الخالة !

 

الخالة سرعان ما غلبها النعاس فنامت، أما الصغيرة الحبيبة، فكلما ألقيت نظرة عبر المرآة إليها وجدتها تحدّق بي بحدّة ! و كلما حاولت إشراكها في الحديث معنا ردت ردا مقتضبا سريعا ، باترا !

 

المشوار إلى المدينة الصناعية المنكوبة لم يكن طويلا، لكن الشارع كان خاليا من أية سيارات، الأمر الذي يثير الوجل في قلوب عابريه !

 

عبرنا على نفس محطة الوقود التي بتنا عندها تلك الليلة.. و نحن مشردون في العراء !

 

المحطة كانت مهجورة، و البقالة مقفلة... المكان ساكن و هادىء ، لا يحركه شيء غير الريح الخفيفة تعبث بأشياء مرمية على الأرض ...

 

كم كان يومنا مأساويا...

 

خففت السرعة، و جعلت أراقب ما حولي و أستعرض شريط الذكريات... لقد نجونا بأعجوبة ! سبحان الله ...

 

" وليد .. "

 

كان هذا صوت رغد، تناديني بوجل.. و كأن الذكرى أثارت في قلبها الفزع... التفت إليها فوجدتها تكاد تلتصق بمقعدي ! و علامات التوتر و الخوف مستعمرة تقاسيم وجهها الدائري...

 

قلت مشجعا :

 

" نجونا.. بفضل الله .."

 

و سبحنا في بحر عميق من الهدوء الموحش ...

 

تابعنا طريقنا ، و الذكرى تجول في رأسينا... هنا مشينا حفاة.. هنا ركضنا... هنا وقفنا... هنا حملت رغد... هنا وقعت رغد ... هنا أصيبت رغد ! آه ..ما كان أفظع ذلك الجرح ! ...

و هنا ...

هنا ...

ماذا تتوقعون هنا ؟؟

إنها سيارتي !

 

" وليد ! "

 

نادتني رغد و هي ترى سيارتي القديمة واقفة إلى جانب الطريق ، مع سيارات أخرى في نفس المكان !

 

أوقفت السيارة ، و أخذت أتفرج على سيارتي القديمة هناك !

 

التفت إلى رغد فوجدتها تنظر إلي ...

 

يا للأيام ! بل يا للشهور ! أما زالت سيارتي القديمة واقفة في انتظار عودتي في مكانها !

 

فتحت الباب و هممت بالنزول ، ناو الذهاب و تفحصها عن كثب !

 

" إلى أين وليد ؟؟ "

 

سألني رغد ، قلت :

 

" سألقي نظرة ! "

 

و قبل أن أخرج كانت رغد قد فتحت بابها و سبقتني !

 

وقفت إلى جانبها ، و قلت :

 

" سأرى ما إذا كانت تعمل أم لا ! "

 

" سآتي معك "

 

و طبعا لا داعي لأن اعترض !

 

ذهبنا سوية، و بيدي نفس الميدالية التي أهدتني إياها صغيرتي، و التي تضم جميع مفاتيحي ، و اقتربنا من السيارة.

 

فتحت الأبواب الغير موصدة، و تفحصت ما بالداخل ...و رغد إلى جانبي..

 

" كما هي ! لم يتغير شيء ! أ رأيت يا رغد ؟؟ "

 

لم تعقّب ، بل ظلت تتفحصها بعينيها ، و ربما تستعيد الذكرى المرعبة ..

 

ركبت مقعدي الأمامي ، فأسرعت هي لركوب المقعد المجاور...و أغلقت الباب.

 

شغّلت المقود فعمل كما ينبغي،

 

" سليمة لم يصبها شيء ! رغد .. أتصدّقين ذلك ! سبحان الله ! "

 

رغد قالت :

 

" هيا بنا..ننطلق للخلف، و نعود من حيث أتينا تلك الليلة، و نعود بالزمان للوراء، و ننسى ما حصل انطلاقا من هذه النقطة ! "

 

ابتسمت و قلت :

 

" يا ليت ... "

 

و تنهّدت و أضفت :

 

" يا ليتنا بعدما وصلنا إلى هذه النقطة، رجعنا للوراء ، و رجع كل شيء كما كان... "

 

و أسندت رأسي إلى مسند المقعد.. و أغمضت عيني ...

 

لست أريد العودة للوراء بضعة اشهر، بل تسع سنين ، بل عشر... بل 15 ...

إلى ذلك اليوم الذي اقتحمت فيه مخلوقة صغيرة حياتي فجأة ! و ملأتها صراخا ، و بكاء ، و دموعا.. و ألما...

 

فتحت عيني و التفت إلى رغد، فوجدتها تنظر إلي بقلق..

 

إنها هي ذاتها... المخلوقة التي غزت عالمي منذ سنين .. ذاتها التي تجلس قربي الآن ، لا يفصلني عنها سوى بضع بوصات...

 

تنظر إلي نظرتها للعالم بأسره، و أمثّل بالنسبة لها كل الناس...

 

" رغد .. "

 

" نعم ؟ "

 

" كيف تشعرين الآن ؟؟ "

 

قالت :

 

" الآن الآن ؟"

 

" نعم الآن ! ؟ "

 

ابتسمت و قالت :

 

" بالسرور ! "

 

عجبا ! أمر هذه الصغيرة كله محيّر !

 

 

بعد ذلك، أقفلت أبواب السيارة، و ودعناها على أمل العودة لها ذات يوم، و تابعنا مشوارنا نحو المدينة...

 

 

 

ما إن أطللنا على مشارفها، حتى رأينا الدمار و الخراب يعشش على شوارعها و أجوائها...

 

اضطررت لسلك طرق ملتوية و معقّدة لأصل إلى قلبها...

 

المباني المتهدّمة ، الأشجار المحترقة، الشوارع المدمّرة، و الأشياء المبعثرة هنا و هناك ...

 

 

كلها ، مناظر تثير الرعب في قلب الصخر...

 

عبرنا أخيرا على الشارع المؤدي إلى منزلنا... و آه من ألم المنظر .. آه بعد ألف آه و آه...

 

 

 

بيتنا.. كتلة من الفحم الأسود... محاطة بطبقة من الرماد و الغبار...

 

تحوّل ذلك المنزل الصغير الهادئ، الحبيب .. إلى شبح ميت.. لا أثر فيه و لا معلم من معالم الحياة و الروح...

 

" يا إلهي ! "

 

قالت رغد ذلك ، و وضعت يدها على وجهها لتحاشي رؤية المنظر المؤلم...

و تخفي الدموع التي ساحت على الجانبين.. رثاء و عزاء ...

 

 

لم أستطع أن أمر من هنا مرور الكرام ، أوقفت سيارتي عند الباب ، المكان الذي اعتدت أن أوقفها فيه.. و نظرت من حولي ...

 

شعرت باختناق شديد في صدري، و كأن الغبار و الرماد قد سدّت حويصلاته ، و منعت جزيئات الهواء من الدخول...

 

 

مع ذلك، لم أتمالك منع نفسي من المضي قدما...

 

فتحت الباب، وقلت :

 

" سألقي نظرة"

 

و التفت إلى رغد.. كانت لا تزال تخفي وجهها خلف يديها...

 

قلت :

 

" رغد.. أتأتين ؟؟ "

 

أردتها أن تأتي معي.. شيء حي يتحرك معي في سكون ذلك الشبح الميت، أردت أن أشعر ببعض الحياة.. ببعض الأمان..بأن هناك من لا زال حيا معي .. رغم موت من مات.. و فناء من فني...

 

 

أروى قالت :

 

" سآتي معك ! "

 

رغد بسرعة أبعدت يديها عن وجهها و فتحت الباب !

 

 

خالتي الأخرى أيضا تبعتنا... و سرنا نحن الأربعة نحو الداخل...

 

الأبواب كانت مفتوحة، كما تركناها أنا و دانة ليلة هروبنا ...

 

سرنا ندوس على الرماد، و نتنفس الغبار.. و رائحة الخراب و الوحشة... تقرصنا الذكريات و تصفعنا المناظر المؤسفة، و تحني ظهورنا الحسرة على ما كان و ما لم يعد...

 

رغد أمسكت بيدي، و كلما سرنا خطوة شدت ضغطها علي.. و كلما رأت شيئا أغمضت عينيها بقوّة و عصرت الدموع المتجمعة في محجريها...

 

حتى إذا ما بلغنا الردهة المؤدية إلى غرفة والدي ّ ، حررت يدي من بين أصابعها، و هرولت نحو الباب و فتحته باندفاع...

 

" أمي... أبي ... "

 

حينها فقط، أدركت كم كنت مجنونا حين سمحت للفضول بالتغلب علي ... و وقفت عند المنزل...

 

اقتحمت رغد الغرفة و هي تهتف

 

" أمي .. أبي .. "

 

و انهارت على السرير ، تحضن الوسائد و تبكي بحرارة و مرارة .. بكاء عاليا صدّع الحجر ... و أدمع الجدران.. و زلزل الأرض...

 

" أنا أنتظركما ! لماذا لا تعودان ؟ أي حج هذا الذي لا يعود الحجيج فيه من بيت الله ! .. الله ! يا الله .. أنت ترى بيتي الآن ! أنت رب البيت و أنا لا بيت لي... و أنت رب الناس و أنا لا ناس لي ! أتاك جميع الآباء و الأمهات.. و أنا لا أب لي و لا أم ! يا رب.. لا أب لي و لا أم ! يتّمتني مرتين يا رب .. مرتين يا رب .. مرتين أفقد فيهما أعظم ما أعطيتني إياه .. بل أربع مرّات ! أمان و أبان ! أربع أيتام في بيت خرب محروق ! "

 

كيف احتمل أنا ..وليد .. كلاما كهذا من رغد ؟؟

 

انهرت باكيا معها بلا شعور... و أي شعور يبقى للمرء و هو يرى ما نراه...؟ حسبنا الله و نعم الوكيل ...

 

من وسادة إلى وسادة، و من زاوية إلى زاوية، و من شيء إلى شيء، أخذت صغيرتي تتنقل و هي تهتف

 

" أمي .. أبي "

 

تفتش حطام الخزائن، و تستخرج الخرق المحروقة المتبقية من ملابسهما و تحضنها و تقبّلها و تصرخ .. و قلبي يصرخ معها .. و تتمزق، و قلبي يتمزّق معها .. و تنهار و قلبي ينهار معها أيما انهيار...

 

 

" يكفي رغد.. بالله عليك، دعينا نرحل "

 

أبت رغد الحراك، بل زاد تشبثها حتى ببقايا الستائر.. و شباك النوافذ..

 

 

أروى و الخالة بكتا لبكاء رغد، و وقفتا في الخارج في حزن و أسف على ما حلّ ببيتنا.. و بوالدينا..

 

 

رغد ، أقبلت فجأة نحو الأدراج الموجودة أسفل المرآة.. و أخذت تفتح الواحدا تلو الآخر... و تستخرج أشياء أمي ، ما تبقى منها و تضم ما تضم، و تقبّل ما تقبّل ، و تضع في حقيبتها ما تضع..

 

" هنا كانت أمي تجلس كل يوم تسرّح شعرها ! "

" وليد انظر ! هذا سوار أمي المفضل ! "

" وليد هل تعتقد أنها قد تغضب إن احتفظت به !؟"

" أريد أن آخذ هذا معي !، و هذا .. و هذا و هذا و هذا ! "

" وليد ..لا أريد أن أخرج من هنا ! ليتني كنت هنا و احترقت قبل رحيلهما "

 

و مرة أخرى أسمعها تدعو على نفسها بالموت.. هتفت متوسلا :

 

" يكفي يا رغد ، هيا نغادر المكان أرجوك فلم أعد أحتمل المزيد "

 

اقتربت منها و أمسكت بذراعها و أرغمتها على الخروج من الغرفة، رغم مقاومتها..

 

كانت رغد تبكي بكاءا شديدا ، و استمرّت في نوبتها هذه و نحن واقفان عند الباب، لا توافق على التزحزح عنه خطوة بعد...

 

" رغد .. صغيرتي ... "

 

ناديتها بأتعس صوت صدر من حنجرتي الكئيبة...على الإطلاق..

 

نظرت إلي و قالت بأسى :

 

" من بقي لي بعدهما؟ من بقي لي ؟ "

 

قلت :

 

" أنا يا رغد .. لك و معك دائما..أنا يا رغد.. أنا ... "

 

رغد نظرت إلي نظرة حزينة قاتلة، و فكها الأسفل يرتجف من البكاء.. و الدموع تقطر منه ...

 

" رغد ... "

 

" وليد ... ضمّني "

 

وقفت كالأبله ، لا أفهم و لا أفكر و لا أتصرف !

 

قالت و فكها لا يزال ترتجف :

 

" ضمّني .. ألست أبي و أمي الآن ؟ ألست من بقي لي ؟ "

 

لحظتها.. تمنيت لو أتحوّل إلى جدار ، يكون أكثر نفعا مني .. كأي جدار عانقته و تشبثت به.. كأي جدار ربما، و مع كونه جمادا لا روح فيه و لا حياة، أشعرها بالدفء و العطف و الأمان... أما أنا.. و أنا واقف أمامها كالشبح الميت، الغير مجدي .. فلم يكن مني إلا أن أحنيت رأسي للأمام في عجز عن فعل شيء أكثر أهمية و حرارة و نفعا من الجدران ...

 

 

لن أسامح نفسي ما حييت، على خذلاني لصغيرتي في لحظة كهذه...

 

 

بعد ذلك ، و رغم أنني كنت مصرا على المغادرة فورا، ألا أن رغد كانت مصرّة على دخول غرفتها و تفقّد أشيائها...

 

السرير كان محروقا، و لا زلت أشكر الله ألف مرة لأن رغد ليلتها كانت نائمة في بيت خالتها..

ألف حمد لك يا رب..

 

الأثاث، في موضعه السابق، ألا أنه مكتس باللون الأسود المتفحم.. و مغطى بذرات الرماد و فتات المحروقات...

 

لم أشأ دخول الغرفة، وقفت عن الباب أراقب رغد و هي تتحسس أشياءها المحروقة... حتى إذا ما انتهت إلى مجموعة لوحاتها الكبيرة ، جعلت تتفقدها بسرعة و وله ، و تهتف بألم :

 

" لا ، لا .. لا ... "

 

ثم نظرت إلي و قالت بين دموعها :

 

" وليد .. لقد احترقت َ ! "

 

و أخذت تحضن الرماد... و البقايا... أخيرا قررت الدخول، و حين صرت قربها مباشرة قالت و هي تنثر الرماد من حولها :

 

" أنظر.. لقد احترقت حتى الصورة ! لماذا ؟ يا إلهي ماذا تبقى لي ؟ ماذا تبقى لي ؟؟ "

 

 

 

" دعونا نغادر المكان و نختصر الألم أرجوكما "

 

كان ذلك صوت أروى التي كانت واقفة عند الباب.. قالت رغد

 

" ارحلوا و اتركوني.. أريد الموت هنا.. آه يا رب.. لماذا عشت أنا و ماتا هما ؟ حتى الصورة احترقت ! ماذا تبقى لي ؟؟ "

 

أروى تقدمت نحونا و أمسكت بيد رغد محاولة مواساتها و تشجيعها، ألا أن رغد نهرتها بقوة، و رمتها ببعض الكلمات الجارحة، ربما من شدة حزنها ...

 

و لم تسمح لنا رغد بمغادرة المنزل حتى تفقدته غرفة غرفة و ممرا ممرا و زاوية زاوية...

حتى المطبخ جلست فيه فترة طويلة تستعيد الذكرى و تقلّب المواجع ، و تكرر

 

" هنا كانت أمي تطهو الطعام ، و هنا كان أبي يدوّن ملاحظاته في المفكرة ! ، و هناك كانت دانة تزين كعكاتها بالشكولا ! ... و سامر يقف هناك، يتحدّث عبر الهاتف، و عند هذه الطاولة كنت أنا أجلس لأقشر البطاطا !

ليت ذلك يعود...

و لو يوما واحدا فقط..

أعيش فيه وسط عائلتي .. بين أمي و أبي، و أختي و أخي.. يوما واحدا فقط.. عسى أن يكون آخر أيام حياتي... "

 

بل إن هذا سيكون آخر أيام حياتي أنا، ما لم تتوقفي عن ذلك يا رغد ... ارحميني...

 

حملت رغد معها تذكارا من كل مكان و عن كل شخص.. حتى سامر...كما أخذت حليها و حلي دانة، بل و ما بقي من فستان زفافها المحروق أيضا !

 

" سأعطيه لأختي حين تعود ! كانت مهووسة به .. و تعتبره كنزها الثمين ! مسكينة يا دانة ! "

 

 

 

 

خرجنا من ذلك الحطام الكئيب بعدما أغرقناه بالدموع و ملأناه بالألم... إن كنت، الشخص الذي لم يعش في هذا المنزل فترة طويلة، و لم يحمل معه سوى القليل من الذكريات، و أنا أكاد أنصهر من حرارة ما بداخلي، فكيف برغد ...؟؟

 

ابتعدنا عنه و قلوبنا معلقة عنده، و أنظارنا متشبثة به حتى اللحظة الأخيرة...و أخذنا معنا ما غلا مما نجا، و ما نجا مما غلا

 

لم تتوقف سيل الدموع حتى بعدما وصلنا إلى منزل أبي حسام، و كان الآخر محترقا ، ألا انه أحسن حالا من بيتنا المدمّر...

 

حين قرعنا الباب، فُتح و ظهر من خلفه أفراد العائلة أجمعون، و الذين كانوا في انتظارنا منذ ساعات...

 

 

ما إن رأت رغد خالتها حتى صرخت.. و انهارت في حضنها بحرارة ...

 

 

اللقاء كان من أقسى اللقاءات التي مررت بها في حياتي.. لا يضاهيه أي لقاء، عدا لقائي بأهلي بعد خروجي من السجن، مع فارق ضخم، هو أنه لا أهل أمامي لأعود إليهم و أعانقهم و أبكي فوق صدورهم...

 

 

استهلكنا كمية كبيرة من الدموع حتى أوشكنا على الجفاف، صعدت رغد بعد ذلك مع ابنة خالتها إلى الطابق العلوي، و ذهبت النساء إلى غرفة أخرى، و بقينا نحن الرجال في غرفة المعيشة نقلّب الأحزان و نتجرّع الآهات و نتبادل التعازي...

 

 

حينما حل الظلام، أردت أخذ عائلتي إلى فندق لقضاء الليلة قبل متابعة السير غدا، مع أنني لست واثقا من العثور على مكان مناسب، و طلبت من حسام استدعاء الثلاث...

 

ذهب حسام و عاد بعد قليل مع أمه و أروى و أمها ، فسألت عن رغد ، فأخبرتني أم حسام أنها أرسلت ابنتها الصغرى لاستدعائها...

 

لحظات و إذا بالفتاة الصغيرة ( سارة ) تأتي نحونا و تقول :

 

" تقول رغد إنها ستبقى معنا و لن ترحل مع وليد و خطيبته الشقراء الدخيلة و أمها ! "

 

 

تبادلنا جميعا النظرات المتعجبة، و حملقنا في الفتاة الصغيرة ... ثم سألتها أمها :

 

" سارة ! هل هذا ما قالته ؟؟ و هل طلبت منك نقل هذا إلينا ؟؟ "

 

و هنا أقبلت الآنسة نهلة، و نظرت إلى أختها بغضب، ثم إلينا أنا و أروى و قالت :

 

" رغد ستبات معي الليلة "

 

شعرت بالضيق الشديد من ذلك، فقلت :

 

" أين هي ؟ أود ا لتحدّث معها فهلا ّ استدعيتها ؟ "

 

قالت :

 

" إنها لا تريد الخروج الآن... "

 

ضقت أكثر و قلت :

 

" أرجوك آنستي، هلا استدعيتها "

 

و ما كدت أنهي الجملة حتى طارت الصغيرة سارة لاستدعائها !

 

ثوان و إذا بها تعود قائلة :

 

" لن تذهب معك ! ارحل و اتركها و شأنها "

 

هتفت الآنسة نهلة :

 

" سارة ! تبا لك ! لا تتدخلي أنت و ابقي في مكانك "

 

قلت :

 

" هل أخبرتها بأنني أريد التحدّث معها ؟؟ "

 

موجها الخطاب إلى الفتاة الصغيرة، فابتسمت الأخيرة و قالت :

 

" نعم ! و قالت إنها لا تريد التحدث معك، و إن علي إخبارك بأنها لن تذهب معكم فارحلوا ! "

 

أم حسام ذهبت الآن إلى غرفة ابنتها و عادت بعد قليل قائلة :

 

" دعها تنام هنا الليلة ، إنها في حالة سيئة "

 

و عبارة ( حالة سيئة ) أزعجتني و أقلقتني أكثر...

 

" أرجوك يا سيدتي ، استدعيها لأتحدّث معها الآن "

 

 

و ما إن أنهيت جملتي هذه حتى رأيت رغد تظهر أمامي، ثم تقول :

 

" سأبقى هنا في بيت خالتي ! لن أرحل معكم "

 

اجتاحني الهلع، فقلت :

 

" تعنين الليلة ؟ "

 

قالت :

 

" بل كل ليلة ، سوف أعيش هنا بقية عمري "

 

نظرت إليها، و إلى جميع من حولي في عدم تصديق .. ثم سألتها :

 

" ماذا تعنين يا رغد ؟ لا يمكنك ذلك ! "

 

قالت بصوت متحد ٍ :

 

" بلى ، يمكنني "

 

" رغد ! مستحيل ! "

 

قالت بتحد أكبر :

 

" بلى يا وليد، سأبقى أنا مع عائلتي الحقيقية، و ارحل أنت مع عائلتك الجديدة.. و في أمان الله "

 

 

يتبع......

Link to comment
Share on other sites

لأنني كنت أريد أن أبتعد عنه، و عن أروى التي تقترب منه أكثر يوما بعد يوم، و لأنني أصبحت بإحباط شديد بعد نزول الثروة المفاجئة على أروى، و تعلّقها اكثر و أكثر بوليد، رفضت متابعة سفري معه...

 

لم أعد أحتمل المزيد، إن الذي ينبض بداخلي هو قلب و ليس محرك سيارات! لا أحتمل رؤية أروى معه، أختنق كلما أبصرتها عيني، أريدها أن تتحول إلى خربشة مرسومة بقلم الرصاص، حتى أمحوها من الوجود تماما بممحاة فتّاكة!

 

وليد ، و أروى و أمها، و أفراد عائلة خالتي ، كانوا جميعا يقفون ناظرين إلي، و أنا أكرر :

 

" سأبقى هنا بقية عمري "

 

وليد وقف أولا صامتا، ذلك الصمت الذي يستلزمه استيعاب الأمور، ثم قال :

 

" مستحيل ! "

 

نشبت مشادة فيما بيننا، وتدخلت خالتي، و حسام و نهلة، واقفين إلى صفي، يطلبون من وليد تركي معهم..ألا أن وليد قال بغضب :

 

" هيا يا رغد فأنا متعب ما يكفي و أريد أن أرتاح "

 

بدأت العبرات تتناثر من مقلتي على مرأى من الجميع، و رقت قلوب أقاربي لي، و ساورتهم الشكوك بأنني غير مرتاحة مع ، أو لا ألقى معاملة حسنة من قبل وليد !

 

قالت خالتي :

 

" دعها تبات عندنا الليلة على الأقل، و غدا نناقش الأمر "

قال وليد :

 

" رجاء ً يا خالتي أم حسام، أنه أمر مفروغ منه "

 

قالت خالتي :

 

" و لكنها تريد البقاء هنا ! هل ستأخذها قهرا ؟ "

 

قال وليد :

 

" نعم إذا لزم الأمر "

 

و هي جملة رنت في الأجواء و أخرست الجميع، و أقلقتهم !

 

حتى أنا، ( ابتلعت ) دموعي و حملقت فيه بدهشة منها !

 

يأخذني معه رغما عني ؟ يمسك بي قهرا و يشدني بالقوة، أو يحملني على ذراعيه عنوة، و يحبسني في السيارة !

 

تبدو فكرة مضحكة ! و مثيرة أيضا !

و لكن يا لسخافتي ! كيف تتسلل فكرة غبية كهذه إلى رأسي في لحظة كهذه !

 

حسام قال منفعلا :

 

" ماذا تعني ؟؟كيف تجرؤ !؟ "

 

رمقه وليد بنظرة غاضبة و قال بحدة :

 

" لا تتدخّل أنت "

 

قال حسام مستاء :

 

" كيف لا ؟ أ نسيت أنها ابنة خالتي ؟ نحن أولى برعايتها منك فأمي لا تزال حية أطال الله في عمرها "

 

تدخّل أبو حسام قائلا :

 

" ليس هذا وقت التحدّث بهذا الشأن "

 

التفت إليه حسام و قال :

 

" بلى يا والدي، كان يجب أن تحضر إلى هنا منذ شهور ، لولا الحظر الذي أعاق تحركنا "

 

وليد تحدّث بنفاذ صبر قائلا :

 

" هل تعتقد أنني سأقبل بهذا ؟ "

 

حسام قال حانقا :

 

" ليست مسألة تقبل أم لا تقبل ! هذا ما يجب أن يحدث شئت أم أبيت، كما و أنها رغبة رغد "

 

و التفت إلي، طالبا التأييد، كما التفت إلي وليد و الجميع !

قلت بتحد:

 

" نعم، أريد العيش هنا مع خالتي "

 

وجه وليد تحوّل إلى كتلة من النار... الأوداج التي تجانب عنقه و جبينه انتفخت لحد يخيل للمرء إنها على وشك الانفجار !

عيناه تقذفان حمما بركانية حامية !

رباه !

كم هو مرعب ! يكاد شعر رأسي يخترق حجابي و يشع من رأسي كالشمس السوداء !

 

قال :

 

" و أنا، لن أبتعد عن هذا المكان خطوة واحدة إلا و أنت معي "

 

في لحظة حاسمة مرعبة هذه، يتسلل تعليق غبي من ابنة خالتي الصغرى، حين تقول :

 

" إذن .. نم معنا ! "

 

جميعنا نظرنا إلى سارة نظرة مستهجنة، تلتها نظرة تفكير، تلتها نظرة استحسان !

قال خالتي :

 

" تبدو فكرة جيّدة ! لم لا تقضون هذه الليلة معنا ؟ "

 

وليد اعترض مباشرة، و كذلك أروى ... و بعد نقاش قصير، نظر إلي وليد و قال :

 

" لهذه الليلة فقط "

 

معلنا بذلك موافقته على المبيت في بيت خالتي، و إصراره على عدم الخروج من الباب إلا و أنا معه !

 

يا لهذا الوليد ! من يظن نفسه ؟؟ أبي ؟ أمي ؟ خطيبي ؟؟

لو كان كذلك، ما تركني تائهة وسط دموعي في بيتنا المحروق، بحاجة لحضن يضمني و يد تربّت على كتفي، و وقف كالجبل الجليدي، يتفرّج علي ...

 

أخرجت لنهلة كل ما كبته في صدري طوال تلك الشهور...حتى أثقلت صدرها و رأسها،و نامت و تركتني أخاطب نفسي!

 

كذلك نام الجميع، و مضى الوقت... و أنا في عجز كلي عن النوم، و وليد يلعب فوق جفني ّ ، لذا نهضت عن السرير، و ذهبت إلى الطابق السفلي، بحثا عن وليد !

كنت أدرك أنني لن أتمكن من النوم و لن يهدأ لي بال حتى أراه...

 

لمحته جالسا في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أثناء ( شجارنا ) و كان يبدو غارقا في التفكير العميق...

 

انسحبت بحذر، إذ إنني لم أكن أريد الظهور أمامه.. فظهوري سيفتح باب للمشادة !

لكني، بعدما رأيته، أستطيع أن أنام قريرة العين !

(نوما هنيئا..يا وليد قلبي !)

جملة أكررها كل ليلة قبيل نومي,,مخاطبة بها صورة وليد المحفورة في جفنيّ...

و التي أعجز عن محوها و لو اقتلعت جفني من جذورهما...

 

 

 

 

~ ~ ~ ~

 

وافقت كارها على قضاء الليلة في بيت أبي حسام، و لم أنم غير ساعتين، لأن أفكاري كانت تعبث بدماغي طوال الوقت.

 

ماذا إن قررت صغيرتي البقاء هنا ؟

أتعتقد هي أنني سأسمح بهذا ؟؟

مطلقا يا رغد مطلقا .. و إن كان آخر عمل في حياتي، فأنا لن أدعك تبتعدين عني...

ما كدت أصدّق، أنك ِ تحررت ِ من أخي... الطيور..يجب أن تعود إلى أعشاشها...

مهما ابتعدت، و مهما حلّقت...

مهما حدث و مهما يحدث يا رغد.. أنت ِ فتاتي أنا...

 

تناولنا فطورنا في وقت متأخر، الرجال في مكان و النساء في مكان آخر... و حين فرغنا منه، طلبت أم حسام أن تتحدّث معي حديثا مطوّلا، فجلسنا أنا و هي، و ابنتها الصغيرة في غرفة المجلس... و كنت أعلم مسبقا عن أي شيء سيدور الحديث !

 

" وليد يا بني.. إن ما مرّت به رغد لهي تجربة عنيفة، احترق بيتها، و تشردت ، ثم مات والداها، ثم انفصلت عن خطيبها، و عاشت في مكان غريب مع أناس غرباء ! هذا كثير على فتاة صغيرة يا بني ! "

 

التزمت الصمت في انتظار التتمة

 

" إنه لمن الخطأ جعلها تستمر في العيش هناك، إنها بحاجة إلى رعاية (أموية و أبوية).. لذلك يجب أن تبقى معنا "

 

هزت رأسي اعتراضا مباشرة... فقالت أم حسام :

 

" لم لا ؟ "

 

" لا يمكنني تركها هنا "

 

" و لكن لماذا ؟ إنه المكان الطبيعي الذي يجب أن تكون فيه بعدما فقدت والديك، مع خالتها و عائلة خالتها، التي تربت بينهم منذ طفولتها"

 

قلت مستنكرا :

 

" لا يمكن ذلك يا أم حسام، الموضوع منته "

 

استاءت أم حسام و قالت :

 

" لماذا ؟ أترى تصرّفك حكيما ؟؟ تعيش معك أنت، ابن عمّها الغريب، و زوجته و أمها الأجنبيتين، و تترك خالتها و ابنتي خالتها !؟ "

 

وقفت من شدة الانزعاج من كلامها ... كيف تصفني بالغريب ؟؟

 

" أنا ابن عمّها و لست بالرجل الغريب "

 

" و ابن عمّها ماذا يعني ؟ لو كان سامر لكان الأمر مختلفا .. بل إنه حتى مع سامر لا يمكنها العيش بعدما انفصلا . أنت لست محرما لها يا وليد "

 

استفزّتني الجملة، فقلت بغضب:

 

" و لا حسام و لا أباه ! "

 

أم حسام ابتسمت ابتسامة خفيفة و هي تقول :

 

" لكنني هنا ! "

 

" و إن ْ ؟ ... أروى و أمها أيضا هناك "

 

" لا مجال للمقارنة ! إنهما شخصان غريبان ، و أنا خالة رغد ، يعني أمها "

 

قلت بنفاذ صبر :

 

" لكنك لست ( المحرم ) هنا ! لن يغيّر وجودك و ابنتيك شيئا ! "

 

أم حسا صمتت برهة ثم قالت :

 

" إن كانت المشكلة في ذلك، فحلّها موجود، و إن كان سابقا لأوانه "

 

الجملة دقّت نواقيس الخطر في رأسي، فقلت بحذر و بطء :

 

" ماذا ... تقصدين ؟ "

 

أم حسام قالت :

 

" كان يحلم بالزواج منها منذ سنين، فإن هي وافقت على ذلك، أصبح حسام و رغد زوجين يعيشان معا في بيت واحد ! "

 

كنت أتوقع أن تقول ذلك ، و أخشاه.. اضطربت و تبدّلت تعبيرات وجهي ، و استدرت فورا مغادرا الغرفة

 

حين بلغت الباب سمعتها تناديني :

 

" وليد ! إلى أين ! ؟ "

 

استدرت إليها و النار مشتعلة من عيني و صدري، لم أكن أريد أن أفقد أعصابي لحظتها و أمام أم حسام.. لكنني صرخت :

 

" سآخذها و نغادر فورا "

 

و تابعت طريقي دون الاستجابة إلى نداءاتها من خلفي

 

و من أمامي، رأيت حسام، واقفا على مقربة، ينتظر نتاج اللقاء الودي بيني و بين أمه

 

لما رآني في حال يوحي للناظر بشدة انفعالي، و رأى أمه مقبلة من بعدي تناديني ، سأل بقلق :

 

" ماذا حصل ؟ "

 

لم يجب أينا، الجواب الذي كان بحوزتي لحظتها هي لكمة عنيفة توشك على الانطلاق من يدي رغما عني، كبتها عنوة حتى لا أزيد الموقف سوء ً

 

التفت ّ الآن إلى الصغيرة سارة و طلبت منها استدعاء رغد و أروى و الخالة ليندا

 

" اخبريهن بأننا سنغادر الآن "

 

و ركضت الفتاة إلى حيث كن ّ يجلسن .. في إحدى الغرف .

 

أم حسام قالت :

 

" وليد ! يهديك الله يا بني ، ما أنت فاعل ؟ "

 

أجبت بحنق :

 

" راحل مع عائلتي ، و شكرا لكم على استضافتنا و جزيتم خيرا "

 

حسام خاطب أمّه :

 

" هل أخبرتِه ؟ "

 

أجابت :

 

" نعم ، و لكن ... "

 

و نظرت إلي، فحذا هو حذوها ، و قال :

 

" هل أخبرتك أمي عني و عن رغد ؟ "

 

اكتفيت هذه المرّة بنظرة حادة فقأت بها عينيه...

 

بدا مترددا، لكنه قال :

 

" منذ زمن كنت أفكّر في ... "

 

و هذه المرّة صرخت في وجهه بشدّة :

 

" لا تفكّر في شيء و ابق حيث أنت "

 

الاثنان تبادلا النظرات المتعجّبة ... و المستنكرة

 

ثم نطق حسام :

 

" و لتبق رغد معي أيضا، فأنا أرغب في الزواج منها بأسرع ما يمكن، و بما أنك هنا.. يمكننا أن ... "

 

و في هذه المرة، و بأسرع ما يمكن ، و بعد انفلات أعصابي تماما، تفجرت اللكمة الدفينة في يدي، نحو وجه حسام ، بعنف و قسوة...

 

ربما الصدمة مما فعلتـُه فاجأت حسام أكثر من الضربة نفسها، فوقف متسمرا محملقا في ّ في دهشة و ذهول !

 

كنت لا أزال أشعر بشحنة في يدي بحاجة إلى التفريغ ! و ليتني أفرغتها فورا في أي شي.. حسام، الجدار، الأرض ، الشجر، الحجر ، الحديد ... أي شيء.. و لا أن أكبتها لذلك الوقت... ...

 

عادت سارة، و معها أروى و أمها

نقلت نظري بين الثلاث و لم أكد أسأل ، إذ أن الصغيرة قالت :

 

" رغد تقول : ارحلوا ، فهي لن تأتي معكم أبدا ! "

 

تحدّثت أروى الآن قائلة :

 

" إنها مصرّة على البقاء هنا و اعتقد، أنها تشعر بالراحة و السعادة مع خالتها و ابنتيها ! "

 

و استدارت إلى أمها متممة :

 

" أليس كذلك أمي ؟ "

 

قالت خالتي ليندا :

 

" بلى، مسكينة ، لقد مرّت بظروف صعبة جدا، لم لا تتركها هنا لبعض الوقت يا وليد ؟ "

 

عند هذا الحد، و ثار البركان...

الجميع من حولي يقفون إلى صفها ضدّي، الكل يطلب مني ترك رغد هنا.. و يرى أنه التصرف السليم، و قد يكون كذلك، و قد يصدر من إنسان عاقل ، أما أنا..في هذه اللحظة فمجنون، و حين يتعلّق الأمر برغد فأنا أجن المجانين...

 

سألت الصغيرة سارة :

 

" أين هي ؟ "

 

أشارت إلى الغرفة التي كانت النساء يجلسن فيها

 

قلت :

 

" أ أستطيع الدخول ؟ "

 

فنظرت إلي الصغيرة سارة ببلاهة ، أشحت بأنظاري عنها و نظرت إلى أروى محوّلا السؤال إليها ، و كررت :

 

" أ أستطيع الدخول ؟ "

 

قالت أروى :

 

" أجل ... "

 

و سرت ُ نحو الغرفة ، و أنا أنادى بصوت عال مسموع :

 

" رغد ... رغد "

 

حتى أنبهها و ابنة خالتها إلى قدومي..

طرقت الباب، ثم فتحته بنفسي، و أنا مستمر في النداء...

الجميع تبعني، و رموني بنظرات مختلفة المعاني، لا تهمني، كما لا يهمكم سردها هنا

وجدت صغيرتي واقفة و إلى جانبها ابنة خالتها، و على وجهيهما بدا التوتر و القلق...

 

قلت :

 

" رغد، هيا بنا ... "

 

هزّت رأسها اعتراضا و ممانعة ، فقلت بصوت جعلته أكثر حدّة و خشونة :

 

" رغد ، هيا بنا، سنرحل فورا "

 

رغد تكلّمت قائلة :

 

" لن أرحل معكم ، اذهبوا و اتركوني و شأني "

 

رفعت صوتي أكثر و قلت بلهجة الإنذار الأخير :

 

" رغد، أقول هيا بنا ، لأنه حان وقت الرحيل، و أنا لن أخرج من هنا إلا و أنت معي "

 

قالت رغد بتحد ٍ :

 

" لن أذهب ! "

 

في هذه اللحظة، استخدمت بقايا الشحنة المكبوتة في يدي ..التي حدّثتكم عنها.. على حبيبة قلبي ، رغد

أسرعت نحوها، و أمسكت بذراعها بعنف، و شددتها رغما عنها و أجبرتها على السير معي نحو الباب ...

من حولي كان الجميع يهتف و يستنكر و يعترض ، و لكنني أبعدت ُ كل من حاول اعتراض طريقي بعنف، و دفعت حسام دفعة قوية صفعته بالجدار

أم حسام حاولت استيقافي و صرخت في وجهي ، و مدّت رغد ذراعها الأخرى و تشبثت بخالتها، و بابنة خالتها ، و بكل شيء...ألا أنني سحبتها من بين أيديهم بقسوة

أروى و أمها حاولتا ثنيي عما أقدمت عليه فكان نصيبها زجرة قوية مرعبة فجّرتها في وجهيهما كالقنبلة...

نحو المخرج سرت و لحق بي حسام و البقية من بعده فأنذرته :

 

" عن طريقي ابتعد لأنني لا أريد أن تصيبك كسور أنت في غنى عنها "

 

" من تظن نفسك !؟ اترك ابنة خالتي و إلا .. "

 

استخرجت المفتاح من جيبي و فتحت باب السيارة المجاور لمقعد السائق، و دفعت رغد عنوة إلى الداخل ، و أقفلته من بعدها .

 

و الآن.. علي ّ أن ألقّن حسام درسا ، ليعرف جزاء من يتجرّأ على خطبة حبيبتي منّي ...

 

كنت أنوي إيساعه ضربا، ألا أن تدخّل من حولي جعلني أكتفي ببعض اللكمات التي لا تسمن و لا تغني من جوع، و لا تخمد بركانا جنونيا ثار في داخلي بلا هوادة .

وسط المعمة و البلبلة و الصراخ و الهتاف، و استغاثة رغد و ضرباتها المتتالية لنافذة السيارة ، و الفوضى التي عمّت الأجواء، التفت أنا إلى أروى و الخالة ليندا و هتفت بقوة :

 

" ماذا تنتظران ؟ هيا إلى السيارة "

 

و توجّهت إليها باندفاع، فركبتها و فتحت الأقفال لتركب الاثنتان، و أوصدها مجددا، و أنطلقت بسرعة ...

 

قطعنا مسافة طويلة، و نحن في صمت يشوبه صوت محرّك السيارة، و صوت الهواء المتدفق من فتحة نافذتي الضيقة، و صوت بكاء رغد المتواصل...

 

لم يتجرّأ أحد على النطق بكلمة واحدة... فقد كنا جميعا في ذهول مما حصل..

 

لم أتخيّل نفسي... أقسو على صغيرتي بهذا الشكل..ولكن .. جن جنوني لفكرة أنها باقية مع حسام، أو صائرة إليه...

 

و إن كان آخر عمل في حياتي، فأنا لن أسمح لأحد بأخذ رغد منّي مهما كان..و مهما كانت الظروف.. و مصيرك يا رغد لي أنا...

 

" أما اكتفيت ِ بكاء ً ؟ هيا توقّفي فلا جدوى من هذر الدموع ... "

 

قلت ذلك بأسلوب جاف ، جعل أروى تمد يدها من خلفي، و تلامس كتفي قاصدة أن أصمت و أدع رغد و شأنها...

صمت ّ فترة لا بأس بها، بعدها فقدت أي قدرة لي على التركيز في القيادة، و أنا أرى رغد مستمرة في البكاء إلى جانبي...

أوقفت السيارة على جانب الطريق، و التفت إليها ...

كانت تسند رأسها إلى النافذة، في وضع تخشع له قلوب الجبابرة..فكيف بقلب وليد ؟؟

 

" صغيرتي ... "

 

ألقت علي نظرة إحباط و خيبة أمل أوشكت معها أن أستدير و أعود أدراجي و أوصلها إلى بيت خالتها ... ألا أنني تمالكت نفسي ...

 

" رغد ... أنا آسف ... "

 

لم تعر جملتي أية أهمية، و ظلت على ما كانت عليه...

 

" أرجوك يا رغد.. قدّري موقفي، لا أستطيع تركك في مدينة و أسافر أنا إلى أخرى ! إنك تحت مسؤوليتي و لا يمكنني الابتعاد عنك ليلة واحدة "

 

لم أر منها أي تجاوب، مددت يدي بعد تردد و أمسكت ُ بيدها ، فسحبت يدها بقوة و غضب :

 

" اتركني ... "

 

قلت :

 

" لا أستطيع أن أتركك في أي مكان ... "

 

رغد أجابت بانفعال :

 

" و أنا لا أريد الذهاب معك ! أهو جبر ؟ أهو تسلّط ؟ لا أريد السفر معك ... أعدني إلى خالتي .. أعدني إلى خالتي .. "

 

و أجهشت بكاء قويا ...

 

قلت أنا :

 

" سنعود لزيارتها حين ننهي مهمتنا ، و سنبقى هناك القدر الذي تريدين "

 

صرخت رغد :

 

" أريد العيش معهم مدى الحياة ! ألا تفهم ذلك ؟ "

 

اشتط غضبي من هذه الجملة، فأمسكت بيدها مجددا و شددت قبضتي عليها و قلت بحدة و أنا أضغط على أسناني كأني أمزّق حقيقة أكرهها بين نابي ّ :

 

" لن أدع لك الفرصة لتحقيق ما يدور برأسك.. و أقسم يا رغد.. أقسم بأنه ستمضي سنون خمس على الأقل، قبل أن أسمح لأي رجل بالزواج منك .. و إن كان ابن خالتك يطمع بك، فلينتظر هو بالذات عشر سنوات حتى أسمح له بطرح الفكرة ، و إن تجرأ على إعادة عرضه ثانية قبل ذلك .. فوالذي لم يخلق في داخلي قلبين اثنين، لأقننه درسا يُنسيه حروف اسمه ... و دون ذلك، لن يبعدك شيء عني ّ غير الموت.. الموت و الموت فقط "

 

لم أدرك تماما خطورة ما تفوّهت به ، إلا بعد أن رأيت رغد تحملق بي بذهول شديد، و قد تبخّرت الدموع التي كانت تجري على وجنتيها.. و ألجم حديثي لسانها و منعها حتى عن التأوّه من شدة قبضي على يدها...

ربما أكون قد كسرت أحد عظامها أو حرّكت أحد مفاصلها .. لقد كنت أضغط بقوة شديدة... أصابت عضلات يدي أنا بالإعياء...

سكون تام خيّم علينا، ما عاد هناك صوت للمحرك، و لا للهواء ، و لا لرغد، و لا لأي شيء آخر..

حررت يد رغد من قبضتي، فرأيتها محمرّة.. و بالتأكيد مؤلمة...

ألا أن رغد لم يظهر عليها الألم، و لم تسحب يدها بعيدا عني ، كما لم ترفع عينيها المذهولتين عن عيني ...

 

 

 

~~~~~~~~

 

طوال الأشهر الماضية، كنت أنظر إلى خطيبي وليد نظرة إعجاب شديد، أكاد معها أجزم بأنه أفضل رجل على وجه الأرض، و لا أرى منه أو فيه أي عيب أو نقص...

و كانت جميع خصاله و طباعه تعجبني، و سلوكه و تصرفاته كلها مثار إنبهاري ..

و في هذا اليوم، رأيت شيئا أذهلني و فاجأني...

لم أتصوّر أن يكون وليد بهذا التسلّط أو هذه القسوة ! لم أتوقع أن يصدر منه أي تصرّف وحشي.. كنت أراه إنسانا هادئ الطباع و مسالما... و عظيم الخلق...

 

الطريقة التي سحب بها رغد رغما عنها، و الطريقة التي زجرنا بها حين حاولنا ثنيه عما كان مقبلا عليه، و الطريقة التي لكم بها حسام بوحشية، و الطريقة التي خاطب بها رغد و نحن في طريقنا الطويل إلى المدينة الساحلية، كلها أثارت في قلبي الخوف و الحذر...

و ذكّرتني، بأن خطيبي هذا قد قتل شخصا ما ذات يوم ... !

 

كان الطريق إلى المدينة الساحلية طويلا جدا، و مملا جدا ... و قد سيطر الصمت الموحش علينا نحن الأربعة ...

والدتي سرعان ما نامت، و بقيت أنا أراقب الطريق، و أحاول النظر إلى وليد ، ألا أنه كان مركزا في الطريق تركيزا تاما، و كان يسير بسرعة مخيفة !

 

" هللا خففت السرعة يا وليد ! "

 

طلبت منه ذلك، فقد شعرت بالخوف من انفعاله ... ألا أنه لم يخففها بل قال :

 

" طريقنا طويل جدا ... أجدر بي زيادتها "

 

ثم التفت إلى رغد، و التي كانت مشيحة بوجهها نحو النافذة و مسندة رأسها إليها ، و خاطبها قائلا :

 

" اربطي حزام الأمان "

 

لم أر من رغد أي حركة ، أهي نائمة ؟ أم لم تسمع ؟ أم ماذا ؟؟

 

عاد وليد يقول :

 

" رغد .. اربطي حزام الأمان "

 

رأيتها تتحرك، ثم سمعتها تقول :

 

" لماذا ؟ هل تنوي أن تصدمنا بشاحنة أو جبل ؟ "

 

بدا على وليد ، من نبرة صوته ، نفاذ الصبر و الاستياء، إذ قال :

 

" لا قدّر الله ، فقط اربطيه للسلامة "

 

قالت رغد :

 

" لا تخش على سلامتي ! مرحبا بالموت في أي وقت .. أنا انتظره بشوق "

 

الجملة هذه أربكت وليد فانحرف في مسيره قليلا و أفزعنا ! ثم خفف السرعة تدريجيا، حتى أوقف السيارة... و التفت إلى رغد قائلا :

 

" توقّفي عن ذكر الموت يا رغد.. تجرّعت منه ما يكفي.. إياك و تكرار ذلك ثانية "

 

لم تعقّب رغد، بل أسندت رأسها إلى النافذة من جديد...

 

قال وليد :

 

" اربطي الحزام "

 

قالت :

 

" لن أفعل ! "

 

" رغد ! هيا ! "

 

" لن أربطه ! "

 

" إذن، أنا سأربطه ! "

 

و رأيت وليد يمد يده باتجاه الحزام، ثم رأيتها ترتد بسرعة إليه! أظن أن رغد دفعتها بعيدا ، ثم سمعت صوت اصطكاك لسان الحزام بفكّه !

لقد ربطته بنفسها !

ثم سمعت وليد يقول :

 

" فتاة مطيعة "

 

و يعاود الانطلاق بالسيارة بأقصى سرعة !

 

بعد فترة، توقّف وليد عند إحدى محطّات الوقود، من أجل الوقود، و الطعام، و الصلاة...

 

خاطبنا مشيرا إلى مبنى على جانبنا :

 

" يوجد هنا مصلى للسيدات، حينما تفرغن عدن إلى السيارة ، ثم نذهب إلى المطعم "

 

أنا و والدتي فتحنا البابين الخلفيين، و نزلنا...

وليد فتح بابه.. ثم التفت إلى رغد... و التي كانت لا تزال جالسة مكانها لا تصدر منها أي حركة تشير إلى عزمها على النهوض ! ..

 

" ألن تنزلي ؟ "

 

سألها ، فسمعتها ترد بسؤال :

 

" إلى أين ستذهب أنت ؟ "

 

قال وليد :

 

" إلى المسجد "

 

و أشار بيده إلى نفس البناية، و التي تحوي مصلى صغيرا خاصا بالرجال، و آخر بالنساء ، يفصلهما جدار، و يقع باباهما في الطرفين المتضادين ..

يظهر أن الفكرة لم ترق لرغد ( هذه المدللة المدلّعة ) و أبت إلا أن يقف وليد عند مدخل المصلى النسائي، حارسا على الباب !

 

بعد ذلك، اقترح وليد أن ندخل إلى المطعم المجاور لتناول الطعام، فلم يعجبها الاقتراح، فاقترح أن يذهب هو لإحضاره و نبقى نحن في السيارة، و أيضا لم يعجبها الاقتراح ! يا لهذه الفتاة ... لقد بدأت أشعر بالضيق من تصرفاتها ! إنها بالفعل مجرد طفلة كبيرة !

 

أتدرون ما فعلت في النهاية ؟

أصرّت على الذهاب معه، و تركتنا أنا و أمي نعود للسيارة !

ركبت أنا المقعد الأمامي، و أمي خلفي مباشرة، و قلت مستاءة :

 

" إنه يدللها بشكل يثير سخطي يا أمي .. أستغرب.. لم َ لم ْ يتركها في بيت خالتها كما أرادت و أصرّت ! إنه ينفذ جميع رغباتها بلا استثناء! فلم عارض هذه الرغبة ؟؟ "

 

قالت والدتي :

 

" هذا لأنه يشعر بالمسؤولية الكاملة تجاهها، لا تنسي يا ابنتي أنها يتيمة و وحيدة "

 

قلت :

 

" هل سمعت ِ ما قاله ؟ يبدو أن ابن خالتها يخطط للزواج منها، بعدما انفصلت عن خطيبها السابق ! أظنه حلا ممتازا لمثل وضعها ! لم يعارضه وليد ؟ "

 

قالت :

 

" هو الأدرى بالمصلحة يا أروى، لا تتدخلي في الموضوع بنيّتي "

 

و في الواقع، الموضوع كان يشغل تفكيري طوال الساعات الماضية...

 

لقد قال وليد و هو في قمّة الثورة و العصبية ، مخاطبا رغد أنه لن يسمح لها بالزواج من أي رجل قبل مرور سنين ! ... هذه الجملة تثير في داخلي شكوكا و أفكارا خطيرة ...

 

بعد قليل، أقبل وليد يحمل كيسا حاويا للطعام، و إلى جانبه تسير مدللته الصغيرة ..

من خلال النافذة، ألقت رغد علي نظرة غيظ حادة لم أفهم لها سببا، ثم ركبت السيارة إلى جوار والدتي...

وليد بعدما جلس، أخذ يوزّع علينا حصصنا من الطعام، و الذي كان عبارة عن

( هامبرجر ) و بعض العصير...

 

و حين جاء دور (المدللة) ، التفت إليها مادا يده، مقدّما علبة البطاطا المقلية ...

 

" تفضلي رغد.. طبقك "

 

الفتاة التي تجلس خلف وليد مباشرة قالت ببساطة :

 

" لا أريد ! كله أنت ! "

 

وليد بدا مستغربا ! و قال :

 

" ألم تطلبي بطاطا مقلية !؟ "

 

قالت :

 

" بلى، غيّرت رأيي، احتفظ به "

 

وليد مدّ إليها بعلبة ( الهامبرجر ) الخاصة به...

 

" خذي هذه إذن "

 

قالت :

 

" لا أريد ! شكرا "

 

" و لكن هل ستبقين دون طعام ؟ ماذا تريدين أن أحضر لك ؟؟ "

 

" لا شيء ! لا أشتهي شيئا و لا أريد شيئا ! "

 

" و هذه البطاطا ؟؟ "

 

" كلها ! أو ... أطعمها مخطوبتك ! "

 

و أسندت رأسها إلى النافذة، معلنة نهاية الحوار !

 

وليد أعاد علبتي البطاطا و الهامبرجر إلى داخل الكيس، و انطلق بالسيارة ...

باختصار، أنا و أمي كنا الشخصين اللذين تناولا وجبتيهما !

 

عدّة مواقف حصلت أثناء الرحلة الطويلة الشاقة، و رغد إذا خاطبتني ، تخاطبني بطريقة جافة و خشنة، كأنها تصب جم غضبها علي أنا !

بعد مرور ساعات أخرى، و وسط الظلام، استسلمت أنا للنوم..

حينما أفقت بعد مدة لم أحسبها، وجدت السيارة موقفة، و وجدت وليد و رغد يجلسان في الخارج، على الرمال، و أمي نائمة خلفي، و يتحدّثان فيما لا يعلم به إلا الله ...

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~ ~

 

لأن النعاس غلبني، كما غلب جميع من معي، أوقفت السيارة و في نيتي الخروج و الاسترخاء قليلا ، و تجديد نشاطي...

 

استدرت للخلف، فرأيت رغد تنظر إلي مباشرة !

 

" لماذا توقّفت ! ؟ "

 

" ألم تنامي ؟ أشعر بالتعب، سأمشي قليلا ... "

 

و ما إن سرت بضع خطوات، حتى تبعتني صغيرتي ...

لم نتحدّث، و أخذت أسير ببطء... على الرمال مبتعدا عن السيارة عدّة أمتار... و أشعر بها تسير خلفي، دون أن ألتفت إليها...

بعد مسافة قصيرة، استدرت قاصدا العودة، فوقعت عيناي على عينيها مباشرة...

 

أعتقد أن الزمن توقّف عن السير تلك اللحظة... لو تعرفون ما الذي تفعله، نظرة واحدة إلى عيني رغد بي ... لربما بررتم التصرفات الغريبة التي تصدر مني !

إنها ترسلني إلى الجنون... فهل يلام مجنون على ما يفعل ؟؟

 

بعد أن تابع الزمن سيره، تقدّمت نحوها... عائدا إلى حيث السيارة... رغد بقيت واقفة مكانها، إلى أن تجاوزتها ببضع خطوات، ثم أحسست بها تسير خلفي...

 

مشاعر كثيرة شعرت بها و أنا أغرس حذائي في الرمال..خطوة بعد خطوة...

الشعور بالقلق..لما يخبئه القدر لي، الشعور بالغيظ من رغبة رغد في البقاء مع خالتها.. و ابن خالتها، و بالندم من قسوتي معها.. بالرغبة في الاعتذار.. و بالشوق لأن أواسيها و أعيد إلى نفسها الطمأنينة و الأمان و الثقة بي.. و بالحزن مما قد يكون الآن دائرا في رأسها حولي.. و برغبة جنونية ، في أن أستدير إليها الآن و أهتف في وجهها :

( أنا أحبك ! ) ...

ماذا سيحدث حينها ؟؟

و أخيرا.. بشعور ٍ مسيطر...إن تمكّنت من السيطرة على جميع مشاعري و كبتها ، لا يمكنني الصمود في وجه هذا الشعور بالذات !

إنه قارس و قارص !

أنا جائع !

 

صدر نداء استغاثة من معدتي، سألت الله عشر مرات ألا يكون قد وصل إلى مسامع رغد !

 

حينما وصلت إلى السيارة، أسرعت الخطى إلى (نافذتي) المفتوحة فمددت يدي و استخرجت كيس الطعام، قبل أن تصل رغد ...

 

عدت ُ إلى الرمال، و جلست عليها.. و فتحت الكيس و استخرجت العلب الثلاث المتبقية فيه، علبة البطاطا المقلية، و الهامبرجر، و العصير !

رغد وقفت على مقربة تنظر إلي ! لابد أنها متعجبة مني ! رفعت رأسي إليها و قلت :

 

" تعالي و شاركيني ! "

 

و قمت بتقسيم الشطيرة ( الهامبرجر) إلى نصفين... و مددت ُ يدي بأحدهما إليها..

 

كانت لا تزال تنظر إلي باستغراب... قلت :

 

" صحيح باردة ، و لكنها تبقى طيبة المذاق "

 

ترددت رغد، ثم جاءت، و جلست إلى جانبي... و تناولت (نصف الشطيرة) من يدي...

قرّبت منها علبة البطاطا، و كذلك العصير، فرفضتهما...

بدأت أقضم حصتي من الشطيرة، و أبتلع أصابع البطاطا الباردة، و أشرب العصير، و أتلذذ بوجبتي هذه !

إنه الجوع ، يصيّر الرديء لذيذا !

 

قلت و أنا أمضغ إصبع بطاطا :

 

" لذيذ ! جرّبيه ! "

 

و أمسكت أحدها و قرّبته منها... كنت أنتظر أن تمد يدها لتمسكه بأصابعها، ألا أنها مدّت رأسها و أمسكته بأسنانها ! و بدأت تمضغه، و يبدو أنه أعجبها لذلك ابتسمت !

أن أراها تبتسم، و إن كانت ابتسامة خفيفة باهتة سطحية، بع كل الذي حصل، لهو أمر يكفي لأن يجعلني أنسى عمري الماضي...

الماضي... آه ... الماضي...

في الماضي، كنت أطعمها أصابع البطاطا بهذه اليد... نفس اليد كانت تمد إليها بإصبع البطاطا قبل ثوان...

نفس اليد، التي تتوق لأن تمسح على رأسها و تطبطب على كتفيها و تضمها إلى صدري...

نفس اليد، التي شدّتها بعنف وقسوة، و أجبرتها على ركوب السيارة رغم مقاومتها...

إنها نفس اليد التي قتلت بها عمّار... و ضربت بها سامر ... و لكمت بها حسام... و سأذبح بها أي رجل يحاول الاقتراب منك يا رغد...

و بهذه اليد ذاتها، سأبقى ممسكا و متمسكا بك لآخر نسمة هواء تدخل إلى صدري، أو تخرج منه...

يا رغد... ليتك تعلمين...

 

" رغد ... "

 

نظرت إلي، فبقيت صامتا برهة، بينما عيناي تتحدثان بإسهاب... ألا ليتك تفهمين...

 

" نعم ؟؟! "

 

" سامحيني..."

 

جاء دورها الآن لتنظر إلي نظرة مليئة بالكلام... ألا أنني عجزت ُ عن ترجمته...

 

قلت :

 

" سامحيني.. أرجوك "

 

لم ترد إيجابا و لا سلبا، ألا أنها مدّت يدها إلى علبة البطاطا، و تابعت أكلها... على الأقل، هي إشارة حسنة و مطمئنة...

 

انهينا وجبتنا الباردة ، و في داخلي شعور غريب بالسعادة و الرضا، و الاسترخاء ، و الشبع أيضا !

 

و عوضا عن تجديد نشاطي، تملّكتني رغبة عارمة في النوم !

 

( فرشت ) الكيس على الرمال، و تمددت واضعا رأسي فوقه.. و أغمضت عيني..

 

أنا متأكد من أنني لو بقيت على هذا الوضع دقيقتين اثنتين، لدخلت في سبات عميق و فوري...

 

الذي حصل هو أن صغيرتي و بمجرد أن أغمضت عيني نادتني بقلق :

 

" هل ستنام وليد ؟؟ "

 

قلت و أنا أتثاءب :

 

" أنا نعسان بالفعل ! سوف أسترخي لدقائق "

 

" وليـــد ! اجلس ! "

 

صدر هذا الأمر من صاحبة الدلال و السيادة ، جعلني انهض فورا ، و أصحو تماما !

التفت إليها فوجدتها تنظر إلي بقلق...

 

" دعنا نعود إلى السيارة و نم هناك "

 

" حسنا... إذن هيا بنا "

 

و نهضنا و عدنا إلى مقعدينا...

 

" هل يضايقك أن أزيح مسند مقعدي للوراء يا رغد ؟ "

 

" كلا .. خذ راحتك "

 

" شكرا "

 

صمت برهة ثم عدت أقول :

 

" أنا متعب بالفعل، قد أنام طويلا ! إذا نهضت ِ و وجدت ِ الشمس توشك على الشروق، فلتوقظيني "

 

" حسنا "

 

" نوما هنيئا، صغيرتي "

 

" لك أيضا "

 

 

 

 

~ ~ ~ ~ ~

 

لم ينته الأمر هنا...

 

صحيح أن وليد قد نام بسرعة، ألا أن رغد ظلت تتحرك، و أشعر بحركتها لفترة...

 

كنت أتظاهر بالنوم.. و من حين لآخر أفتح عيني ّ قليلا ، خصوصا إذا أحسست بحركة ما...

هذه المرّة فتحتها فتحة صغيرة، فرأيت يد رغد تمتد إلى مقعد وليد، و رأسها يستند عليه...

هذا لا شيء...!

فالشيء.. الذي أيقظ كل الخلايا الحسية و العصبية و الوجدانية في جسدي، في ساعة كنت فيها في غاية التعب و النعاس، و أرسل أفكاري إلى الجحيم ...هو جملتها الهامسة التالية :

 

" ( نوما هنيئا... يا وليد قلبي ...) "

 

يتبع.........

Link to comment
Share on other sites

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

Guest
الرد على هذا الموضوع...

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

Loading...

×
×
  • Create New...