Jump to content
منتدى البحرين اليوم

"المسافة بين العرس والمقبرة شجرة"


Recommended Posts

"المسافة بين العرس والمقبرة شجرة"

...نصفها للسرير والباقي للتابوت..

 

 

 

تطرق حبات المطر نافذة غرفتها وكأنها تدعوها لتحضر حفلة الشتاء هذا المساء، كم تحب أن تراقب السماء وهي تبكي، ينزلق حزن السماء مع المطر، فتخلع ثوبها الضبابي ،لترتدي ثوبا ناصعا ..بينما هي تجلس تتذكر أوقاتا كانت أمضتها برفقته كهذه التي تعود السماء لتحتفل بمراسم الشتاء لكن أمامها وحدها من دونه.

هي رائحة أحضانه تتسلل إلى مخيلتها ...دفء أنفاسه..نبضاته التي كانت تشعر بها جيدا ..لقد رحل بكل هذا ولم يترك إلا ذكرياته تسكن المكان.

تركض نحو المكتبة كل تلك الكتب كان جلس برفقتها، تتصفحها علها تجده قابعا في أحد صفحاتها، تتوحد مع فكره هذه اللحظة ، كيف كان يقرأ ؟..ما الصفحة الأخيرة التي كان قرأها، وما التي عبرت إليها أنفاسه فاستوقفته أكثر من غيرها ؟ ما الجملة التي استوقفته والحكاية التي حازت على إعجابه أكثر ....

تتسلل إلى أقلامه ودفاتره... حروف خطها بنفسه ..متشابكة كلماته..غير واضحة لكنها كانت تقرؤها بسهولة ويسر، لم تسأله يوما عن كلمة عجزت عن قراءتها.

قصائد شوق وحب كان سجلها بصوته في أيام مضت، تدير المسجل فيحرقها هجير صوته يتحول الصوت إلى صورة تقف أمامها ..ترتعد ولا تقوى على المتابعة تقفل على صوته , تفتح خزانة الملابس ..ملابسه كما هي ما زالت معلقة في مكانها، تنفض عنها الغبار بين الحين والآخر، ربطات عنقه مميزة ..كانت اختارت له معظمها، تدس يدها في جيوبه واحدة ..واحدة، عله ترك شيئا ،وصية ما أو ورقة كتب عليها آخر كلماته.

غادر الحياة دون أن يتمكن أن يبوح لها بشيء، كان في جعبته شيء ما أراد أن يقوله لها ،لكنه لم يفعل ، سرقه الموت بسرعة وبقيت الحسرة تملأ قلبها ، تتخيل ماذا تراه أراد أن يقول لها؟ ماذا أراد أن يبوح؟

منديل أبيض أخرجته من جيب بدلة رمادية كان يحب لبسها كثيرا، كان هذا اللون يشبه شعره الذي زحف إليه الشيب للتو ، كان غادر الحياة في منتصف العمر بعد أن كانت أوهمته بحصاد قريب وغد مريح، ينسيه عذاباته وغربته، تضم المنديل ..تتنشقه ..فيه ترك شيئا منه، ربما مسح به عرق جبينه بعد يوم عمل مضني ، أو عبق به بعض رذاذ عطره الذي كانت تعشقه، أو علقت به بعض أنفاسه.

تركض نحو النافذة التي كان يتسلل منها إلى السماء بنظراته ، وتأملاته وأحلامه التي كان يرسمها برماد نجومها المحترقة كل مساء.

كان يحدثها عن حلمه ..تعترضه أحيانا ثم تعود لتوافقه .. من شرفته تلك كان ينظر لأبعد نقطة في الأفق ، يصل بمخيلته إلى وطنه الذي طالما تمنى أن يعود إليه، كان يقول لها :هناك سأفتح لي مكتبا .. وسيكون لنا بيت جميل، تضيف هي: أريد أن تحيط به أشجار السرو من كل الجهات، السروات شامخة أحب شموخها.. وكبرياءها

وحيث منزل والدي سأبني مسجدا، ليتذكره الناس ويتذكرونني للأبد.

وتقول: سنزور حيفا وعكا والقدس ورام الله كما فعلنا في السنوات الأولى لزواجنا، سنبحث عن خطواتنا في الأماكن ذاتها التي كنا زرناها, كان لنا هناك ذكريات جميلة لا تنسى.

تفتح ألبوم الصور ..ما أشدها إيلاما، هو هنا قابع فيها بلا حراك "أشياء الميت أحيانا تؤلم أكثر من جثة صاحبها" يقهرها أنها لا تقدر أن تعيده إلى الحياة.. بيدها فقط مجرد صور له

حنطت الزمن في فترة أو مناسبة ما.

تستمع لضجيج الليل ... تختنق بصمته ، فهي وحيدة إلا من أشيائه، وسادتها بالقرب من وسادتها لكنها خالية ..ومكانه بقي شاغرا يشغله في أحلامها.

هو كأوراق الخريف المتساقطة ،سقطت من أغصانها لكنها ظلت تحركها ذبذبات الهواء المشحونة بالكهرباء.

استله الموت لكن ذاكرتها مليئة به ... مشحونة بخطواته وابتساماته وهمساته يسكنها حتى العمق.

تنظر إلى المطر ..كأنفاسها بدأ يتسارع لا يمكنها أن توقف المطر وكذلك شريط الذكريات.

في هذا المنزل كان يسكن ومن هنا مر نعشه يوم دفنه ..أصرت أن يمر ليودع منزله الوداع الأخير، وقفت هناك بالقرب من النافذة الكبيرة وأخذت تلوح لموكب جثته حين مرت من أمامها.

واليوم سبع سنوات مرت ..تابعت هي كفاحه في الحياة ونضاله الوطني،بقيت حتى اللحظة تنبش في ذاكرتها تبحث عن أدق تفاصيلها ..أرهقها فراقه ،عيناها بعده شاردتان .. حزينتان والساعة تسير عقاربها بطيئة يذكرها الوقت به، بأولى لحظات الفجر التي كان يحب أن يشهدها ..بوقت تناول طعام الغداء الذي لم يتغير موعده يوما ، وساعة العودة من العمل مساءَ وبيده ملفات القضايا التي كان يحملها معه ليراجعها قبل أن يترافع بها في اليوم التالي ، كانت هي كل حياته وظل هو كـــــــــل ذكرياتها.

ميسون أبوبكر

العنوان مقتبس من الأديبة غادة السمان من كتابها "عاشقة في محبرة"

 

م

ن

ق

و

ل

Link to comment
Share on other sites

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

Guest
الرد على هذا الموضوع...

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

Loading...
×
×
  • Create New...