Jump to content
منتدى البحرين اليوم

نحو وعي سياسي


mahbooooob17

Recommended Posts

للامانه منقول من ملتقى البحرين للكاتب ناصر البحراني وفقه الله على هذا الجهد

 

نحو وعي سياسي .. ( 1)

 

أساليب نشأة الدساتير ..

 

- تظل الفكرة السائدة - اليوم - في الفكر السياسي ، وفي تحليلات فقه القانون الدستوري ، أن السيادة نابعة من الشعب . وبالتالي ، فإن الشعوب ( في العصر الحديث ) صارت هي صاحبة الأختصاص في وضع الدساتير وإصدارها . إن هذا التجسيد الحقيقي لمفهوم سيادة الشعب لم يكن كذلك منذ زمن ليس بالبعيد .

 

فقد عرفت الدساتير صورا ً مختلفة من حيث أشكال إصدارها ، ولقد عكست هذه الصور حقيقة الصراع الذي جرى ما بين الحاكم والمحكموم ، وهو الصراع الذي أفرز لنا ، أنماطا ً متعددة من اصور ، وأشكال الحكم .

 

إن الصورة الأولى للدولة ، كانت تقوم على أساس الدمج الكلي ما بين شخص الحاكم والدولة . ولعل تلك الصورة تجد خير تعبير لها في مواقف لويس الرابع عشر بالقول (( الدولة هي أنا )) فالسيادة كانت مطلقة للملك ، دون أي قيد ، والقانون كان تعبيرا ً عن أرادته وحدها .

 

ومن الطبيعي في مثل تلك المرحلة (( مرحلة الملكية الملطقة )) أن لا يجري الحديث عن الدستور ، الذي هو - في المقام الأخير - شكل من أشكال القيد على سلطة الحكام .

 

إلا إن آلية تطور وعي الشعوب ، وتنامي إدراكها إشكاليات الحكم ، قد أفرزت - خلال مسيرة متميزة - أنماطا ً أخرى للحكم . فظهرت الوثائق ، والإعلانات ، والنصوص المقيدة للسلطان المطلق .

 

ومن كفاح الشعوب ومقاومة السلاطين ، ظهرت الدساتير كحلول وسط ، وتحاول إرضاء نزعتين متعارضتين .

 

وقد اتخذت الدساتير - في البداية - الشكل غير الديمقراطي إذ إن الملوك لم يجر التحرر منها كليا ً ، وظلت هي الغالبة ، فاتخذ الدستور ، شكل الهبة والمنحة التي يتفضل بها الملك على شعبه ، والتي يقيد بمقتضاها - وبإرادته هو - بعض سلطانه .

 

إلا إن ظهور المبادئ الديمقراطية وفي مقدمتها ، مبدأ سيادة الشعب ، قد انعكس على الآليات والوسائل التي نشأت بها الدساتير . فتطور الأمر - بداية - إلى أبتكار صيغة التعاقد ما بين الملك والشعب ، والاتفاق على إصدار دستور يقيد سلطان الملوك ويعترف ببعض الحقوق للرعية . ثم تطور الآمر - في مرحلة لاحقة - إلى آلية المشاركة في صيغة التعاقد حين تنامت الأفكار الديمقراطية ، وظهرت نظريات العقد الاجتماعي واندلعت - نتيجة لذلك - الثورات .

 

الرافضة للحكم المطلق . فتطورت الدساتير من حيث النشأة ، وصارت الإرادة الشعبية هي العنصر الحاسم في مسألة وضع الدساتير ، وعمل المؤسسات العامة .

 

ومن ذلك الوقت ، اصبحت الدساتير تنشأ بطريقة أقل دكتاتورية ، أو ما يصفها البعض ، بشكل أكثر ديمقراطية ، لأن الشعب هو الذي ينشأ ، سواء من خلال ممثليه في المراحل المبكرة للديمقراطية ، أو مباشرة ( اليوم ) عن طريق الاستفتاء عليها ، أو في مرحلة معاصرة ، عن طريق الشعب مباشرة ( المؤتمرات الشعبية ) .

وبالنظر إلى الأهمية التاريخية ، والفلسفة لتلك المراحل ، فقد درج فقه القانون الدستوري على تقسيم أساليب نشأة الدساتير إلى أسلوبين رئيسيين ، الأسلوب الديمقراطي ، والأسلوب غير الديمقراطي .

 

المبحث الأول .. الأساليب غير الديمقراطية

 

المبحث الأول ..

 

الأساليب غير الديمقراطية

 

- ونعني بها الصورة القديمة لنشأة الدساتير ، حيث لم تعرف الشعوب في ذلك الوقت الثورات ولم تستطع مواجهة الطغاة وهي تمثل بذلك المرحلة الأولى لظهور الدساتير ، وفي هذه المرحلة ، فقد سادت إرادة الحاكم ، وترك للإرادة الحاكمة حق خلق الدستور ، سواء استقلت به إرادة الحاكم بصورة منفردة ، أو اشتركت معها إراد الشعب قليلا ، وأخذتها في الاعتبار .

 

وقد أطلق على أسلوب نشأة الدساتير في هذه المرحلة " الأسلوب غير الديمقراطي " ، لأن إرادة الشعب ، او الأمة كانت تبدو ضعيفة ، وغير مؤثرة عند إصدار الدستور .

 

وتميزت هذه المرحلة بأسلوبين رئيسيين ، فقد تستقل إرادة الحاكم بإصدار الدستور فينشأ الدستور بأسلوب " المنحة " ، وقد تتلاقى إرادة الحاكم مع إرادة الشعب ، أو الأمة فينشأ الدستور بأسلوب " العقد " .

أولا ً : - أسلوب المنحة

 

- إن مصطلح المنحة قد يكفي - بمفرده - للدلالة على عدم ديمقراطية نشأة الدستور . وعند نشأة الدستور بهذا الأسلوب ، فإن الملك ( الحاكم ) يتفضل على رعاياه ( المحكومين ) ، ويمنحهم دستورا ً بمحض اختياره ، وقد يكون العهد الأعظم (( الماجناكارتا )) الذي وافق عليه ملك انجلترا عام 1215 ، وأصدره لصالح النبلاء الأنجلينز ، هو أحد الأمثلة الأولى للدستور الناشئ بطريقة المنحة .

 

والأصل في هذه الدساتير ، أن ( الحاكم ) ، هو مصدر السلطات ، والمحدد لإطار حريات وحقوق المواطنين ، وهو يتنازل بمحض أرادته عن بعض صلاحياته الواسعة للشعب ، ويترتب على ذلك نتيجة هامة .. وهي أن الحقوق التي يرد النص عليها في الدستور ، تظل من اختصاص الحاكم ، وله عليها سلطة مطلقة لا تخضع لأي قيود .

 

ويفيد مصطلح " المنحة " بأن الملك قد منح الدستور بمحض اخيتاره وإرادته الحرة . ومع ذلك ، فإن الواقع التاريخي لا يقبل ذلك ولا يؤيده ، فالاستقراء التاريخي يوضح لنا ، بأن الملوك ،لم يصدروا الدساتير بمحض اختيارهم ، وإنما فعلوا ذلك ، إما نتيجة لثورة ظافرة استطاعت أن تفرض إرادتها ، وتضعف - عمليا ً- من سلطات الملوك ، أو بعد ظهور شواهد ومستجدات صار يخشى معها الصيرورة إلى إصدار تلك الدساتير اضطرارا ً .

 

ويترتب على ظهور الدستور بطريقة المنحة ، طرح التساؤل حول مدى قدرة الملوك على التراجع عن هذه المنحة إذ المنح يفيد المنع .

 

لقد انقسم الفقه ( الدستوري ) في هذا المجال إلى اتجاهين :

 

الأول : يرى أن الدستور الصادر بطريقة المنحة ، يجيز للحاكم ان يسترده ، ويتراجع عنه في اي وقت ، إلا إذا انطوى الدستور ذاته ( عند صدوره ) على عدم جواز التراجع عنه ، وحجة هذا الفريق ، أن من يكون له حق المنح يكون له الضرورة حق الاسترداد والتراجع .

 

أما الفريق الثاني : ( وهو الرأي الغالب ) الذي ننضم إليه ، فيرى أنه لا يجوز للحاكم الرجوع عن دستوره ، فالمنح ( وإن كان بإرادة منفردة ) إلا إن الارادة المنفردة - بذاتها - هي أحد مصادر الألتزام التي تقيد شخص الملتزم .

 

كما أن الدستور ، إذا ما صدر ، فإنه يترتب حقوقا مكتسبة للمواطنين ، ومن ثم تتعلق حقوق المواطنين بالدستور ، مما لا يجوز معه المساس به دون موافقتهم ، ورضاهم .

 

إن الدستور الصادر بطريقة المنحة يدرس في - الغالب - على اعتبار أنه مرحلة تاريخية ، وهو يمثل بذلك بداية لمرحلة من التطور الطويل . ومن امثلته التاريخية الدستور الفرنسي الصادر عام 1814 ، بعد انهيار امبراطورية نابليون ، وعودة الملكية . كما تصنف دساتير كل من إيطاليا عام 1848 ، والدستور الياباني لعام 1889 ، ودستور إمارة موناكو ، على أنها دساتير " ممنوحة " أي صدرت بطريق ( المنحة ) . ولم يعد هناك من يجرؤ اليوم للقول ( على الأقل صراحة ) بأ الحاكم يتفضل على شعبه ويمنحه دستوره .

 

فالتطور الديمقراطي العميق قد نسف قواعد الملكيات المطلقة ، وهز أركان الملكيات المقيدة ، وأصبح حكم الدستور هو القاعدة النافذة . ومع ذلك ، فإن بعض ملامح العهود القديمة ما زالت تطل برأسها على زمننا المعاصر ، من خلال تجارب وممارسات .

 

فدستور " إمارة موناكو " المعلن عام 1962 ، قد صدر كمنحة من أميرها .. كما أن بعض الملكيات في العالم الثالث ، ووطنا العربي ، ما زال تنظيمها الدستوري يقوم على أساس مصادقة الملك على نصوص الدستور ، وتشير مداولات المصادقة على أنها شكل من أشكال المنحة ، فبدون المصادقة لا يظهر الدستور ، ولا تكون لإرادة الشعب ، أو الأمة أي قيمة أو معنى .

 

والواقع أنه إذا كان الدستور - بمعناه الحديث - ظاهرة غربية ، فإنه يبدو أن الغرب ( وبعد تطور طويل ) قد تخلص من أسلوب " المنحة " الذي يمس بكرامة الإنسان ، فإن الدستور في بعض من دول العالم ، ما زال معتمدا ً على إرادة الحاكم ، في نشأته وفي إصداره ، بل ويرتبط بشخص الحاكم ، وبحياته ، وحتى مماته ، واستبداله بغيره ... وهو ما جعل من بعض الفقه الدستوري لا يقول باختفاء هذا الأسلوب من تجارب المجتمعات السياسية المعاصرة .

 

ثانيا :- أسلوب العقد

 

- تمثل الطريقة التعاقدية في إنشاء الدستور ، المرحلة الانتقالية ما بين مرحلتين تاريخيتين ، هما .. مرحلة الدستور الممنوح ، ومرحلة الدستور الصادر عن الإرادة الشعبية .

 

وفي هذه المرحلة ، يضعف دور الملوك ، ويبدأ دور الشعب أو الأمة في الظهور دون أن يبلغ ذلك الدور طور الأكتمال . وتتم نشأة الدستور ( في هذه المرحلة ) ، بواسطة الاتفاق المشترك ما بين الحاكم والشعب . أو الأمة .. فيعتبر الدستور في هذه الحالة وليد اتفاق بين الطرفين .

 

والصورة الغالبة للدستور التعاقدي ، هي أن الدستور يوضع من قبل هيئة منتخبة من الشعب ، ثم يعرض - فيما بعد - على الحاكم ، فإذا قبله أصبح دستورا نافذا ً ، ولأن الصورة الغالبة كانت كذلك ، فإن بعض الفقهاء ينكر على هذا الدستور الصفة التعاقدية .

فالتعاقد - وفقا ً لهذا الرأي - يوجب وجود طرفين تتلاقى إرادتيهما في حرية واختيار ، على إحداث أثر قانوني ، على نحو يجعل في إمكان كل منهما أن يناقش شروط الاتفاق وأن يحول دون إبرامه .

 

لكن الواقع ، هو أن الدساتير من النوع التعاقدي ، كانت في كثير - من التطبيقات - من عمل الهيئات النيابية ، بحيث يصح أن يقال / أن الدستور كان ثمرة عمل تلك الهيئات ، وقد فرضته على الملوك الذين عليهم بقبوله لتولي العرش ، او الأمتناع عن القبول بما يترتب على ذلك من نتائج .

 

إن هذا المعنى هو ما يدفع بالدكتور " أدمون رباط " بوصف هذا الأسلوب " الميثاق " وليس العقد ، لأن الدستور ( في الواقع ) هو من عمل هيئة نيابية ، وهو بمثابة الميثاق الذي يتولى على أساسه الملوك الحكم ، فهو عبارة عن ميثاق بين الملوك والجمعية التي تمثل الشعب ، فعلى الملك أن يلتزم بهذا الميثاق ، أو يفقد شرعية حكمه .

 

إن أسلوب التعاقد ، او الميثاق قد صار - في الدول الراسخة في الديمقراطية - مجرد ذكرى من ذكريات التاريخ .

ومن امثلته الدستور الفرنسي لعام 1791 ، وقد أعتمدته أيضا ً الدول البلقانية بعد استقلالها عن الامبراطورية العثمانية ، وكذلك ( اليونان عام 1844 ، ورومانيا عام 1864 ، وبلغاريا عام 1879 ) حيث عرضت منتخبة في هذه البلدان التاج على أمراء اجانب ، اختارتهم ملوكا ً ، بشرط موافقتهم على الدستور الذي وضعت تلك الجمعيات نصوصه .

 

ثالثا :- أسلوب الفرض

 

درجت مؤلفات فقهاء القانون الدستوري على الإشارة إلى الأسلوبين المشار إليهما ، على أنهما النماذج البارزة للدساتير الناشئة عن الأساليب غير الديمقراطية .

 

فتلك النماذج التي عرفت تاريخيا ً ، منذ اندلاع الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر وحتى بداية القرن العشرين ، وبالتحديد حتى اندلاع الثورة البلشفية في روسيا . وما تبع ذلك من ظهور أشكال أخرى من الأنظمة الشمولية في إيطاليا وألمانيا .

 

وحتى ذلك التاريخ ، كان النموذج الغالب للدولة هو النموذج الليبرالي الغربي القائم على وجود ملك فرد ، أو نظام جمهوري متعدد الأحزاب . لكن التطورات اللاحقة ، قد أفرزت في الواقع السياسي ، نماذج سياسية جديدة تقوم على وجود أيديولوجية صارمة يتولاها حزب واحد يحتكر السلطة والسلطان .

 

إن تلك النماذج كالشيوعية ، والفاشية ، والنازية ، قد تذرعت - كغيرها - بالدساتير ، وحاولت أن تتخفى وراء الفكرة الدستورية ، فوضعت الدساتير التي تقولب رؤاها ، ومبادئها عن طريق أحزابها الخاصة وفرضتها عن طريق مجالس أو جمعيات منتخبة ، أو حتى عن طريق الاستفتاء الشعبي .

 

ومع أن هذه الدساتير تنشأ شكليا ً بالرضا الشعبي ، حيث يجري استفتاء الشعوب على الدساتير التي تنال نسبة عالية من القبول ، إلا إن هذه الاستفتاءات تتم غالبا ً في أجواء من القمع والإرهاب التي يفرضهاوجود حزب متسلط أو فئة طاغية تجبر المواطنين على التصويت بما يخالف ضمائرهم ومصالحهم ، فيصبح الدستور مفروضا حتى وإن نال الوافقة المزيفة .

 

وهذا النوع ن الدساتير يكشف ذاته عن طريق ما ينطوي عليه من نصوص ديماغوجية تمجد الحاكم وتصادر حقوق وحريات المواطنين وتلجم افواههم وتهدد حياتهم وأملاكهم ، فليس من المعقول - في هذه المرحلة - أن يصوت المواطن ويعطي موافقته على مثل هذه الدساتير .

Edited by mahbooooob17
Link to comment
Share on other sites

المبحث الثاني ..

 

الأساليب الديمقراطية

 

- لقد توصل المجتمع الإنساني إلى ضرورة أن تكون نشأة الدساتير بالأسلوب الديمقراطي بعد جملة من الأحداث ، والتطورات ، والتضحيات . ولقد اشتركت في تلك المرحلة الشاقة مجموعة من العوامل ، والمعطيات ، والإرادات . واتفقت الديانات السماوية ، ودعوات المصلحين ، ونداءات الثوار ، وحكمة الأجيال على تقديس الإنسان مفردا ً ، واحترام إرادة الشعب . وترسخت قناعة فلسفية ، سياسية ، قانونية ، على ضرورة نشأة الدساتير بشكل ديمقراطي .

 

ويمكن اعتبار العام 1781 الذي ولد فيه الدستور الاتحادي للولايات المتحدة الأمريكية هو الفاصل ما بين عصرين ، فيما يتعلق بالتطور الدستوري في القرنين الماضيين . تم تواتر العمل بعد ذلك بهذه الأساليب ، فصدر الدستور الفرنسي بعد ذلك بسنوات قليلة ( 1789 ) بشكل ديمقراطي . وأصبح الأسلوب الديمقراطي - اليوم - هو الأسلوب الشائع ، والمعروف ، والمقبول . ويقتضي الأخذ بالأساليب الديمقراطية ، انفراد الشعب بوضع التنظيم الدستوري ، فيصبح الدستور منبعثا ً من الإرادة الشعبية وحدها ، ويوضع الدستور بالدمج بين الطريقتين : فتضع الجمعية التأسيسية الدستور ، ولكنه يصير نافذا ً باستفتاء الشعب عليه .

 

أولا ً : - الاساليب الديمقراطية غير المباشرة

 

أولا ً : أسلوب الجمعية التأسيسية :

 

- وبمقتضى أسلوب الجمعية التأسيسية ، فإن الشعب ينتخب مجموعة من الممثلين الذين تقتصر مهمتهم على وضع الدستور نيابة عنه . ويتعتبر الدستور نافذا ً بمجرد إقراره من الجمعية التأسيسية ، وفق نصوص وأحكام إنشائها .

 

إن الأسلوب الديمقراطي كان يقتضي أن يقوم الشعب بنفسه بوضع الدستور وإصداره ، غير ان الاعتبارات العملية والفنية - كما يذهب الفقه الليبرالي - تحول دون الشعب ومباشرة هذه المهمة ، مما دعا إلى ابتكار فكرة وجود ممثلين للقيام بهذه المهمة نيابة عن الشعب .

 

وتختلف أشكال الجمعية التأسيسية ، وطريقة اختيارها ، وآلية عملها ، باختلاف أشكال الحكم ، وفلسفته ، ومرحلته التاريخية ، وبيئته ( السياسية ، الاقتصادية ، الاجتماعية ) .

 

وعندما يوضع الدستور ، لأول مرة في تجربة سياسية معينة ، أو عندما يقوم نظام حكم جديد يطيح بالدستور القديم السابق ، ويسعى إلى وضع دستور جديد ، لا علاقة له بالعهد الذي انتهى ، فإن عملية الجمعية التأسيسية يوصف بأنه أصلي .

 

ففي الفرضية الأولى ، تضع الجمعية أساس لبنات العهد الدستوري ، وفي الفرضية الثانية ، تنطلق الجمعية بأعتبار نفسها السلطة التي ترسي القطيعة مع ما سبق ، وترفض الاعتراف بأي سلطة دستورية سابقة عليها ، فهي التي تنشئ الدستور ، تسعى لعرضه على الشعب في نهاية الأمر .

 

إن الجمعية التأسيسية ، هي أقرب ما تكون إلى مجلس نيابي ، فهي تتشابه مع المجالس النيابية من حيث انها منتخبة - في العديد من التجارب - من الشعب على أسس مشابهة لتلك الأسس التي تنتخب على ضوئها المجالس النيابية الت تمارس مهم الحكم عن طريق إصدار القوانين ، لكن مهمة الجمعية التأسيسية محدودة بوضع الدستور وإصداره ، ومتى ما فرغت من مهمتها تلك ، فإنها تنحل في العادة ، ولا يعود لها وجود .

 

وقد سميت الجمعية التأسيسية " بالتأسيسية " لأنها تقوم بالفعل بمهمة تأسيس إطار الدولة عن طريق وضع دستور لها ، والذي تنبثق عنه - فيما بعد - مختلف السلطات التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية .

 

ويعود الفضل في استخدام مصطلح " التأسيسية " إلى السياسي الفرنسي الشهير " سيايس " الذي فرق ما بين السلطة التشريعية التي يختارها الشعب للمارسة مهمة التشريع والحكم ومهمة الجمعية التأسيسية التي تضع الدستور .

 

وإذا كان من الطبيعي أن تضع الجمعية التأسيسية الدستور ، ثم تختفي وتنحل ، فإن الدستور سيكون - طيلة بقائه - معرضا ً للتعديل . وتلك مهمة ينظمها الدستور ذاته ، الذ يبين كيف يجري تعديله ، وماهية وإجراءات التعديل ، وذلك على اختلاف ما بين الدول ، ووفقا لتجربتها الدستورية ، وقيمها التاريخية ، وظروفها السياسية .

 

ومع ذلك ، فإن من يعدل الدستور ، هو في حقيقته سلطة تأسيسية . فالدستور كقاعدة - لا تمس نصوصه ، وتعدل احكامه إلسلطة التأسيسية ، حتى ولو كان لها اسم آخر في الأحوال العادية .

 

فالمجالس النيابية ، التي يعهد إليها بتعديل الدستور وفق اجراءات خاصة وبأغلبية معينة ، تتحول إلى سلطة تأسيسية ، وعندما تفرغ من ذلك ، وتعود لممارسة دورها الطبيعي " التشريع " فإنها تصبح سلطة حكم وتشريع .

 

وخلاصة القول .. في هذ المقام ، أن أول الأساليب الديمقراطية التي عرفتها الإنسانية ، في مجال الدستورية ، هو أسلوب الجمعية التأسيسية ، ولقد ابتكرت الفكرة منذ قرنين - ولا زالت - أحد أهم الاساليب المألوفة لإصدار الدساتير في العديد من الدول الناشئة .

 

ثانيا ً : اسلوب الاستفتاء الدستوري :

ونتناول فيه علاقة الاستفتاء بإشكالية ديمقراطية الدستور ، ثم ندرس العيوب الجوهرية في آلية عمل الاستفتاء ، وفي موضوعه .

 

1- الاستفتاء ، وديمقراطية الدستور

 

إن أسلوب الاستفتاء الدستوري ، الذي يطلق عليه أحياناً " الاستفتاء التأسيسي " يعتبر من أكثر أساليب نشأة الدساتير الديمقراطية ، وأقربها - في الظاهر على الأقل - للديمقراطية المباشرة .

 

إذ يمارس الشعب من خلال الاستفتاء الدستوري ، سلطة تأسيسية بشكل مباشر .

فإذا كان الشعب ، بحسب وجهة النظر الليبرالية ، لا يستطيع أن يمارس - دوما - مهمة التشريع مباشرة ، فإنه ، عند إصدار الدساتير ، أو عند تعديلها ، تبدو الظروف أكثر ملائمة ، ليجرب الشعب - ولو مؤقتا ً- ممارسة السلطة .

 

فالشعب يصوت على الدستور بشكل مباشر ، بعد أن تقوم جميعة تأسيسية مختارة بصياغة الدستور ، وتحريره ، والتصويت عليه .

 

إن وضع الدستور ، وصياغته تتطلب الكثير من المعرفة والدقة ، فإذا أنجزت الجمعية التأسيسية إعداد الدستور ، وجب - حينئذ - عرضه على الاستفتاء الشعبي لإقراره نهائيا ً ، فإذا أقره الشعب صار نافذا ً .

 

إن الدساتير الصادرة عن طريق الاستفتاء ، تنص - عادة - على ضرورة عرض أي تعديل لاحق على الشعب ، بحيث أن السلطة التأسيسية تكون دائما بيد الشعب . ولقد عرفت طريقة الاستفتاء الدستوري منذ زمن طويل ، فقد صدر دستور السنة الثامنة بفرنسا ، عام 1799 ، عن طريق الاستفتاء .

 

وصار هذا الأسلوب ، هو أكثر الأساليب قبولا ً ورواجا ً في عصرنا الحاضر . وقد اتبع هذا الأسلوب في إصدار الجمهورية الرابعة بفرنسا عام 1946 ، ودستور الجمهورية الخامسة عام 1958 ، وهو الأسلوب المعتاد في الاتحاد السويسري على مستوى الاتحاد ، او المقاطعات .

 

وتأخذ بهذا الأسلوب أيضا ً ، بعض الدساتير المحلية في الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو الأسلوب الشائع - اليوم في كثير من الدساتير التي صدرت بعد الحرب العالمية الثانية .

 

وعلى الرغم من أن أسلوب الاستفتاء الدستوري ، يبدو - في ظاهره - ممارسة مثالية للديمقراطية ، بشكل مباشر . إلا إن الكثير من الأنظمة الاستبدادية اعتمدت هذا الاسلوب عند بداية ، او حتى أثناء ممارستها للسلطة . ويبقى الفيصل ما بين الممارسة الديمقراطية الحرة ، والممارسة الصورية الديموقراطية ، ليس مجرد الاستفتاء ، بل المناخ الذي يجري فيه وحجم الضغوطات التي تمارس على المواطنين أثناء الاستفتاء .

 

أما المعيار الذي جرى اعتماده لتقييم نتائج الاستفتاء والحكم على مدى ديمقراطيته ، إنما يمكن أن يقوم بالاستناد إلى معايير حجم الموافقة والرفض التي تبينها نتائج الاستفتاء ، فضلا ً عن الظروف التاريخية التي يمر بها الشعب أو الامة . ومدى وعي الناس ، وتطور التجربة السياسية .

 

وفي اعتقادنا ، فإنه كلما ظهرت النتائج موضحة بأن نسبة الموافقين على إصدار الدستور عالية ، كلما ازدادت الشكوك في جدية ونزاهة الاستفتاء ، وقد تتدخل اليوم ، جهات خارجية لمراقبة الاستفتاء ، وضمان نزاهته ، وهي تدخلات وإن بدت - في ظاهرها - متوجهة نحو دعم الديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، إلا إنها تعكس في الواقع غايات سياسية ، تذهب نحو تغليب اتجاه على آخر ، وربما يحقق الاستقرار الذي يخدم أهداف واستراتيجيات جهات التدخل ، ومن ورائها قوى دولية بعينها .

 

وفي جميع الأحول ، فإنها تدلل على وصاية ، وتشكيك في قدرات الشعب على ممارسة الديمقراطية ، أيا كانت الأساليب التي تقدم في هذا المجال .

 

 

2- في عيوب أسلوب الأستفتاء

 

إن أسلوب الأستفتاء على الدساتير لا يحقق الديمقراطية الكاملة ، للأسباب التالية :

 

أ- الغموض ، وعدم الدقة :

إن الأعتراض الأول يتعلق بالغموض ، أو التحديد في الاجابة على السؤال المطروح ، فلا يتاح - في ظل الاستفتاء - تعليل الموافقة والرفض .

 

فالاستفتاء يعتبر ( تدجيلا ً على الديمقراطية ) ، إن الذين يقولون " نعم " والذين يقولون " لا " لم يعبروا - في الحقيقة - عن آرائهم ، ومواقفهم ، واختياراتهم ، بل ألجموا ، وقيدت إرادتهم بإسم ، واستنادا ً إلى مفهوم الديمقراطية الحديثة . ولم يسمح لهم إلا باستعمال كلمة واحدة ، وهي إما " نعم " وإما " لا " .

 

إن تلك المحصلة تقودنا إلى الوقوف على حقيقة ان الاستفتاء قد يعد من أقسى أنواع الأنظمة القمعية ، وخاصة في مجال التعبير عن الإرادة ، والمشاركة في اتخاذ القرار .

 

إن الذي يقول " لا " يفترض أن يعبر عن سبب ذلك ، ولماذا لم يقل " نعم ؟ .. والذي يقول " نعم " يفترض أن يعلل تلك الموافقة ، ولماذا لا يقل " لا " ؟ .

كما يلاحظ غياب تحديد أسباب الموافقة ، أو الرفض في كافة تجارب الاستفتاء .

إن محدودية الاجابة بنعم أو لا ، تجعل الاستفتاء قليل القيمة ، فإذا كان جوهر الديمقراطية هو ما نتج من نقاش حول الأفكار ، وما ينجم عنها من رأي ، فإن نظام الاستفتاء يلجم أي نقاش حول الأفكار ، فعلى الموطن أن يدلي بصوته بالموافقة أو الرفض دون أن يتاح له تعليل الموافقة أو الرفض ، وذلك بالتأكيد لا يؤسس ديمقراطية حقيقية كاملة .

 

ب- محدودية النقاش

إن نظام الاستفتاء على الدساتير لا يعبر عن الديمقراطية ضرورة ، ذلك أن الدساتير تطرح الاستفتاء كوثيقة غير قابلة للتجزئة ، ولا تطرح مادة ، مادة ، لأخذ رأي المواطنين فيها . وما دام الدستور يطرح ككل ، فإن رأي المواطن يكون عبارة عن حاصل موازنة ما بين موقفين ، فهو قد يؤيد بعض مواد الدستور فعلا ً ، ولكنه يرفض غيرها من المواد الأخرى في الدستور ذاته . وإزاء هذه الحيرة ، فإنه يوافق ، أو لا يوافق بالرضا الناقص .

ويكون قد قبل - في الحقيقة - مبادئ ، أو قواعد ، أو أحكاما ً لا يريدها إذا صوت بالموافقة ، ويكون في المقابل قد رفض مفاهيم أخرى يرغبها إذا صوّت بالرفض .

 

إن الاستفتاء قد يكون ديمقراطيا ً بالفعل متى ما أيتح للمواطن التصويت على الدستور كمواد منفصلة ، وترتب على التصويت إعادة النظر في تلك المواد المفروضة من قبل أغلبية المواطنين .

 

ومع ذلك فإن أنصار الاستفتاء يقولون إن ذلك سيجر لعمليات معقدة طويلة ... وقد يترتب على مثل هذه الاجراءات إعادة الاتسفتاء مرارا ً ... ولذلك فإنه لا مناص من الاستفتاء على الدستور ككل لا يتجزأ .

 

ومع الاعتراف بالصعوبات العملية ، إلا أنه لا مناص منها إذا أريد لنظام الاستفتاء أن يكون ديمقراطيا ً .

 

ج- تراجع الديمقراطية المسؤولة

إن الاستفتاء بالرغم من ظاهره الديمقراطي ، إلا أنه قد ينزل بمستوى الديمقراطية إلى مستوى أقل من المستوى النيابي ، فقد يتحول إلى عنصر مدمر للديمقراطية .

 

ويشرح (( جورج بوردو ) هذه الفكرة بوضوح في الجزء الخامس من دراسته للعلوم السياسية ، فهو قد يوجد " ديمقراطية موافقة " بدل " الديمقراطية المسؤولة " وذلك عندما يخضع الاستفتاء لضغوط الايديولوجيات ، وتأثيرات وسائل الإعلام ، وحملات العلاقات العامة ، إذ إن الاستفتاء كثيرا ً ما ينقلب إلى أداة بيد الحكومات ولقوى الضغط المهيمنة على وسائل الإعلام ، والأحزاب القادرة على الدعاية وتمويلها ، ومن المشكوك فيه أن تتيج ظروف مثل هذه ، أن يعبر نظام الاستفتاء عن أي ديمقراطية حقيقية .

 

د- الغياب عن المشاركة :

إن الأعتراض الأخير يتعلق بنسب الغياب الشعبي التي تصاحب عمليات الاستفتاء إذ إن نسبة الممتنعين عن التصويت تصل أحيانا إلى 60% في مجتمع مثل المجتمع السويسري ، وهو المجتمع المشهور عنه لجوءه إلى العمل بهذا النظام .

 

إن هذا الغياب لا يجد تبريرا ً له إلا في الإحباط الذي نجم عن تطبيق نظام الاستفتاء ، وعدم القدرة على التعبير الجوهري من خلاله .

 

ومن أهم ملاحظات الفقيه الدستوري " اندريه هوريو " هو أن نظام الاستفتاء كان غالبا ً يدعم السياسات المحافظة التي تتبناها الحكومات ، فقد نجم عن عدد من الاستفتاءات في سويسرا عدم الموافقة على منح المراة حق التصويت ، وذلك لا يعود إلى محافظة الشعب السويسري نفسه ، بل لأن التغيير لم يكن ملائما ً للسياسات المحافظة التي تتبناها الحكومة .

ومع الأخذ في الأعتبار هذه الملاحظات ، إلا إن الاستفتاء يعد هو الحل الأمثل لإنشاء الدساتير ، فهو يتيح مشاركة لا شك فيها ، خاصة إذا جرى في ظروف سياسية مناسبة وفي مناخ فسيح من الحرية ...

 

فيسبق الاستفتاء عادة ويصاحبه نقاشات فكرية واسعة ترفع وعي المواطنين وتنبههم إلى طبيعة حقوقهم وتجرهم نحو المشاركة في الشؤون العامة ، وتلك مسائل مهمة لخلق التطور نحو الديمقراطية والترويج لمبادئها ..

 

فإذا تكرر الاستفتاء في حياة شعب ما ، سواء كان استفتاء على الدساتير أو القوانين أو القضايا السياسية ، فاعلم ان هذا الشعب في سبيله نحو الرقي السياسي وسيصبح أكثر إدراكا وأشد تماسكا بحرياته ، وتلك خطى ضرورية لبناء المجتمع المدني حيث تتراجع الفردية وحكومات الطغيان وتزدهر الدول ويتكرس حكم المؤسسات .

Link to comment
Share on other sites

ثانيا : الأساليب الديمقراطية المباشرة

 

في نقد آلية نشأة الدساتير :

 

- إن النظرية الجماهيرية لا تقبل من حيث المبدأ آلية صناعة الدستور لأسباب .. من بعض هذه الاسباب يتعلق بنشأتها ، بينما يتصل جزء كبير منها ، بأساليب مراقبة دستورية القوانين .

 

إن الاعتراض المبدئي على فكرة الدساتير ، ناجم عن حجم مشكلة شريعة المجتمع ، والتي هي إحدى أهم الإشكاليات المرادفة ( من حيث حجمها لإشكالية أداة الحكم . والتي لم تحل بعد في العصر الحديث ، رغم أنها حلت في فترات من التاريخ )

 

إن مشكلة الدساتير إنما تكمن في أنها " صارت شريعة المجتمع " .. وهي ، أي الدساتير ، لا تستند إلا على رؤية ومفهوم ، وقيم أدوات الحكم ، من الفرد إلى الحزب ... رغم القبول مبدئيا بأن شريعة المجتمع يجب أن تكون ثابتة ، لا تقبل التغيير أو التبديل ، إذ إن ذلك هو الشرط الجوهري لشريعة المجتمع .

 

أما إذا كانت هذه الشريعة قابلة للتبديل أو التغيير ، فإنها لا تصلح كشريعة ، وتعود - هي بذاتها - بحاجة إلى مصدر تستند إليه ... والحال أن الدساتير ينظر إليها في المجتمعات الحديثة كشريعة للمجتمع ، وهي قابلة للتبديل والتغيير من قبل إداة الحكم " الحكومة " .

 

ومهما كانت الاجراءات صعبة لتعديل الدستور وتغييره ، فإن أداة الحكم تصير - دوما ً - قادرة على تهيئة الظروف الملائمة لاقتراح تعديل الدستور ،. إذ أنها تملك من الامكانات ، والوسائل ومعرفة الآليات ، ما يمكنها من إجراء هذا التعديل ، أو التغيير ..

 

إن أشد الدساتير ثباتا - من الناحية النظرية - هي الدساتير الجامدة ، لكن جمود هذه الدساتير لا يحول دون تعديلها ، ولدينا من الأمثلة التاريخية ما يكفي للتدليل على صحة هذا الاستنتاج .

 

فالدستور الأمريكي مثلا ، وهو من أشد الدساتير جمودا ً ، ويتطلب تعديله اجراءات معقدة ، كان عرضة لأن يجري تعديله ست وعشرين مرة حتى الآن .

 

إن الدستور الفرنسي الصادر عام 1958 ، وهو مثال آخر للدستور الجامد ، ومع ذلك ، فقد تمكنت أداة الحكم من تعديله مرارا .

 

في نقد مسألة تعديل الدستور إنما تقوم على الاعتراضين التاليين :

 

إن الاعتراض المبدئي الأول هو : قابلية الدستور للتعديل ، مهما كان جامدا ً ،وذلك بواسطة أداة الحكم التي يفترض أن يوجد الدستور لتقييد سلطانها . فكيف يمكن أن يكون الدستور قيدا على أداة الحكم ، إذا كانت الأداة قادرة على تغييره ؟ .. ألا يعود هذا القيد - بعد ذلك - إلى اعتباره مجرد مسألة نظرية ؟

 

أما الاعتراض الثاني ، فهو يتعلق بالطبيعة الديكتاتورية للدستور . فالدستور ، كما بينا سابقا ، يظهر كنتائج للمجتمع الديمقراطي ، لأن الدستور عبارة عن مجموعة من الضمانات القانونية للمحكومين في مواجهة الحاكمين .

 

إن مجرد وجود دستور معناه وجود فئتين متكافئتين في المجتمع ، هما فئة الحاكمين وفئة المحكومين . وهذا يعني - بمفهوم المخالفة - أن المجتمع يمكن أن يوصف بأنه أقرب إلى الديكتاتورية منه إلى الديمقراطية .

 

وإذا كان الدستور هو ضمانة المحكومين ، فكيف يجوز للفئة التي وضع الدستور لمواجهتها أن تملك القدرة على تغيير أحكامه . ألا تصير الضمانات الدستورية - بعد ذلك - بدون معنى ؟

 

إن معالجة هذه الاشكالية لا يمكن أن تتم بزيادة تدقيق هذه الضمانات ( كما يذهب بعض المفكرين ) وذلك باقتراحهم جعل أمر تعديل الدستور ، أو تغييره صعبا : يجعله خاضعا للأستفتاء .

 

فالضمانات - مهما كانت - آليتها تظل قابلة للاختراق - والدستور مهما كان صعوبة تعديله ، فإنه - يظل - من حيث المبدأ قابلا للتعديل .

 

فما هو الحل ؟

 

إن الحل من وجهة تحليل الفكر السياسي المعاصر ، هو وجوب إعادة النظر في بنيان السلطة نفسها ، وتصميمها على فلسفة جديدة ، تزول فيها أساسا ً فكرة الحاكمين والمحكومين . وهذا الامر لا يتأتى إلا من خلال نظام سياسي ديمقراطية شعبي مباشر ، يعتمد وحدة السلطة ، يكون الشعب فيه هو الحاكم والمحكوم ..

 

ولكن الا يحتاج الشعب إلى شريعة ما تحكم حياته ، وتمنعه من الانحراف ؟

 

ويتم السعي للرد على ذلك بالإيجاب ، فحتى إذا تحول الشعب بكامله إلى حاكم فإن شريعة ما يجب أن تحكمه ، وتمنعه من الانحراف ، ولكن ما هي شريعة المجتمع ؟

 

إن شريعة المجتمع يجب أن تكون ثابتة ، وغير قابلة للتعديل او التغيير ، فشريعة المجتمع يجب أن تكون العرف أو الدين ، فكلاهما غير قابل للتعديل بواسطة أداة الحكم . فالدين يستحيل تعديله ، أما العرف ، وإن كان قابلا للتعديل ، فإنه هذا التعديل يحتاج إلى مدى زمني طويل ، فلا تستطيع أداة الحكم التأثير فيه بشكل سريع .

 

وفي هذا المقام ، فإن الشريعة الطبيعية لأي مجتمع هي ( ... ، العرف ، أو الدين . اي محاولة إيجاد شرعية لأي مجتمع خارجة عن هذه المصدرين هي محاولة باطلة وغير منطقية .. الخ . )

 

إننا لسنا بحاجة إلى تبيان الموقف من تلك الدساتير الناشئة بطرق المنحة ، أو التعاقد أو الفرض ، فتلك دساتير خالية - منذ نشأتها - من أي مضمون ديمقراطي . فالشيء - كما يقول فقهاء القانون - يفصح عن ذاته ، ولا أحد يستطيع أن يجد لهذه الانواع من الدساتير أي سند ديمقراطي .

Link to comment
Share on other sites

* أنواع الدساتير وفقا ً لآلية التعديل

 

تنقسم الدساتير وفقا لطريقة تعديلها إلى نوعين هما الدستور المرن والدستور الجامد .

 

فالدستور ( المرن ) هو الذي يمكن تعديله كما يعدل القانون العادي أما الدستور ( الجامد ) فهو الذي يتطلب تعديله إجراءات خاصة كما سنبينه الآن .

 

أولا ً : الدستور المرن :

 

يقصد بالدستور المرن ، ذلك الدستور الذي يمكن تعديل أحكامه بالطريقة العادية التي يوضع أو يعدّل بها القانون العادي ، ودون إجراءات إضافية تميز الدستور عن غيره من القوانين العادية .

 

ففي بريطانيا مثلا ً ، ( وهي أشهر الدول ذات الدساتير المرنة ) ، يتم وضع وتعديل النصوص الدستورية بذات الطرق المعتمدة لوضع وتعديل القانون العادي * .

 

إن القوانين في بريطانيا تصدر بعد موافقة أغلبية أعضاء مجلس العموم عليها ( أي موافقة نصف الأعضاء + عضو واحد ) فإذا حدث ذلك فإن القانون يصدر ويصبح ساريا ، وبذات الآلية يصدر ويعدل الدستور .

 

وفي ظل نظام كهذا ، لا يمكن من حيث الشكل ، التفرقة ما بين الدستور والقانون العادي ، فكلاهما يصدر ويعدل من نفس الجهة ، فالقانون الذي ينظم مواعيد فتح المحلات العامة ، والقانون الذي ينظم وراثة العرش ، أو القانون الذي يبين اختصاصات مجلس اللوردات ، يتم وضعها بذات الطريقة ، بل إنها تحظى بذات القوة القانونية .

 

ولا توجد في بريطانيا طريقة معترف بها لتمييز التشريع الدستوري عن التشريعات الأخرى ، لأنه لا وجود - عمليا - لوثيقة دستورية تجمع ما صار يطلق عليه في دول أخرى بأنه دستور .

 

إن ذلك هو ما دفع بالسيدة ( دوروثي بيكلس ) أستاذة العلوم السياسية إلى القول بأن : (( .. مصطلحي دستوري ، وغير دستوري في بريطانيا ليسا - في الحقيقة - أكثر من حكم يعبر عن تقدير المتكلم لأهميتها الأساسية ، وإذا كان علماء السياسة ، والمحامون يفرقون بينهما في الكتب ، فإن للحكومة مطلق الحرية في تجاهل ذلك )) .

 

إن التفرقة ما بين الدستور وبين القانون العادي ، في الدول ذات الدساتير المرنة هو أمر غير ممكن باللجوء إلى المعيار الشكلي . فلا توجد - في الغالب الأعم - وثيقة دستورية مميزة للدستور عما عداه ، كما إن طريقة إصدار كل من القانون والدستور ، وكل ما يتعلق بآلية التعديل ، تكاد تكون واحدة ، و لا مناص ( في مثل هذه الوقائع ) اللجوء إلى المعايير الموضوعية للتعرف على النص الدستوري ، وتحديد خصائصه وسماته .

 

وفي البحث ، وفقا ً للمعيار الموضوعي ، يتم استعراض ، والتدقيق في طبيعة ومضمون كل نص على حدة ، أيّاً كان موقعه التشريعي . فإذا كان النص القانوني متعلقا ً بسلطات الدولة ، أو تناول حقوق وحريات الأفراد ، فإن النص يكيف على أنه نص دستوري بطبيعته .

 

وإذا تعلق النص بشؤون الحياة الاعتيادية ، فإنه يعد قانونا عاديا ً . ومع ذلك فإن التمييز ما بينهما يظل تمييزا فقهيا محضا . يعتمد على نظرة كل فقيه قانوني منطلقا من تراكمات ثقافية ، ورؤى تحليلية ، وأحيانا مواقف فلسفية . فما قد يعتبر دستوريا في نظر فقيه ، قد يراه فقيه آخر مجرد نص عادي . ومن الطبيعي أن هذا الاختلاف الفقهي لا تترتب عليه نتائج عملية ، لأن التشريعين يظلان متساويين في القوة أمام سلطات الدولة وأمام المحاكم .

 

ولما كانت التشريعات متساوية في ظل الدستور المرن ، فقد كان المفكر الفرنسي (( الكسيس دوتو كفيل )) يقول : " إن بريطانيا هي دولة بلا دستور " .

 

ومن الجدير بالذكر في هذا المجال ، هو أن الدستور المرن ، يفتقر لأهم مزايا الدستور وهي " سموه على كافة التشريعات " ومن هذا الافتقار ينتج العيب الأساسي للدستور المرن . والذي يمكن في أنه لا يشكل ضمانة حقيقية للمواطنين في مواجهة السلطة العامة . فالحكومة تستطيع - بأغلبيتها العادية - أن تتلاعب في المجلس النيابي بنصوص الدستور ، وتغيره لمصلحتها متى شاءت . وستكون - عندئذ - ضمانة الحقوق والحريات العامة ، وهي إرادة الحكومة وحدها ، وهي إرادة لا يمكن التعويل عليها بمفردها ، كضمان لحقوق وحريات الأفراد ، خاصة في المجتمعات الحديثة ، حيث تطغى - واقعيا - الجوانب التنفيذية على مجمل الحياة السياسية ، وتكون الحكومة ، هي الأداة التي بإمكانها التصدي للمشكلات القائمة ، إن إحدى أهم سمات العصر الحديث إنما تكمن في تسارع الأحداث وتعقدها ، وهو ما يغلب الجانب التنفيذي عما عداه .

 

ومع فذلك ، فإن الفقه الدستوري ، يذهب إلى أن ميزة الدستور المرن إنما تقوم على قدرته على التكيف ، والتطور ، ومجاراة متطلبات الحياة ، ولما كان تعديله يتم بطريقة سهلة وميسورة ، فإنه - كنتيجة لذلك - يستطيع متابعة التطور ، وأحيانا تغير المفاهيم والظواهر .

 

إننا نرى إن هذه الأسانيد لا تبرر - دوما - اعتماد أسلوب الدساتير المرنة ، فالدستور المرن يظل كثير العيوب ، قليل المزايا . كما أنه لا يتلاءم - كقاعدة عامة - وفكرة الدستور وفلسفته .

 

فإذا كان الدستور هو في الأصل ضمانة المحكومين في مواجهة الحاكمين ، فإن الدستور المرن يعصف - عمليا - بهذه الفكرة من أساسها ، ويجعل الحاكمين أكثرا طغيانا ، إذا لا يوجد - عمليا - أي قيد قد يحد من التعسف سوى الوازع الأخلاقي ، وهو - في التحليل التاريخي - وازع لا يمكن التعويل عليه بمفرده ولا اعتباره مبررا لأعتماد فكرة ، فالدستور المرن ، يجعل السلطات الحاكمة مطلقة بدون قيود ، وكما قيل : إذا كانت السلطة مفسدة ، فإن السلطة المطلقة أكثر فسادا ) ..

 

-------------------------------

* إن المجلس النيابي البريطاني يملك حق التعديل والتشريعات ذات الطبيعة الدستورية ، كما يملك تعديل القوانين العادية . وهو يملك سلطات واسعة في هذا المجال ، حتى قيل في شأنه ، أنه يستطيع أن يعدل كل شيء ، إلا أن يجعل من الرجل أمراة ، أو من المراة رجلا . وهذا تعبير يقصد به مدى درجة المرونة التي يتمتع بها الدستور ( العرفي ) في بريطانيا ))

Link to comment
Share on other sites

ثانيا ً : الدستور الجامد :

 

- يقصد بالدستور الجامد ، أو الدستور الصلب ، ذلك النوع من الدساتير الذي يتطلب إصداره أو تعديله إجراءات خاصة أشد من تلك الإجراءات المتبعة في إصدار أو تعديل القوانين العادية .

 

فإذا كانت القوانين العادية تصدر بعد موافقة الأغلبية العادية لأعضاء المجلس النيابي ، فإن الدستور الجامد يتطلب - عادة - إجراءات خاصة ، ينص عليها الدستور في متنه .

 

ولذا ، يشار في أحكام الدستور المكتوب إلى شروط وآلية ، وضمانات تعديل الدستور أو تغييره ، وكثيرا ما تكون مثل تلك النصوص واضحة ،صريحة غير قابلة للتفسير أو التأويل .

 

وليس هناك ، في عالم الدول المعاصرة ، معايير متفق عليها ما بين الدساتير جميعا ً تشير إلى جمود الدستور ، فتتبع الدول في دساتيرها اجراءات ومعايير شتى من شأنها أن تجعل الدستور جامدا ً .

 

فقد ينص الدستور على ضرورة توفر أغلبية موصوفة للموافقة على تعديل الدستور ، كأن ينص على ضرورة موافقة ثلثي أعضاء المجلس ، أو ثلاثة أرباعه .

 

وقد تشترط بعض الدساتير آلية محددة ومشروطة .. كأن ينص الدستور عل وجوب عرض التعديل على المجالس المحلية في الدول الاتحادية ، أو أن ينص على ضرورة عرضه على الاستفتاء الشعبي ، أو ينص على أن مشروع التعديل يجب أن يعرض من قبل رأس الدولة ، أو الحكومة ... ألخ .

 

إن المهم هنا ، هو أن جملة من الإجراءات ومن العايير ، لا بد من قيامها ، ولكنها مختلفة - عموما ً- عن تلك الاجراءات المطلوبة لتعديل القوانين العادية . فإذا وجد إجراء أو أكثر ، مما سبق أو أي اجراءات مشابهة أخرى ، فإن الدستور يكون جامدا يصعب تعديله .

 

وكمثال على جمود الدساتير ، يمكن الإشارة إلى التجربة في فرنسا . فإصدار قانون عادي ، أو تعديله لا يتطلب سوى موافقة الأغلبية العادية في كلا المجلسين بالجمعية الوطنية . أما تعديل الدستور ، فإنه يتم بإجراءات مختلفة . إذ يجب أن يقدم أولا ً .. كمشروع قانون يطرح على مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية للتصويت عليه ، فإذا حاز أغلبية المجلسين فإن على رئيس الجمهورية عرضه على الاستفتاء الشعبي العام ، أو عرضه على الجمعية الوطنية في صورة مؤتمر لإقراره ، وذلك بأغلبية منصوص عليها في المادة التاسعة والثمانين من الدستور . كما يجوز لرئيس الجمهورية ( ودون مرور بهذه الاجراءات ) أن يعرض أمر تعديل الدستور بمقتضى عرض مباشر على الشعب لتعديل الدستور ، بطريق الاستفتاء الشعبي وفقا ً للمادة الحادية عشرة من الدستور الفرنسي ( 1958 ) .

 

وهكذا يتضح الفرق بين القوانين العادية ، التي لا تتطلب سوى الموافقة العادية للجمعية الوطنية ، وبين الدستور الجامد الذي يتطلب اجراءات وضمانات خاصة ومحددة ، وثابتة .

 

وتتجه معظم الدول اليوم لجعل دساتيرها جامدة عسيرة التعديل ، إذ يرى العديد من الفقهاء أن جمود الدستور هو الذي يمنحه خصيصته الاساسية وهي ( سموه على التشريعات العادية ) وبالتالي ، فإن الضمانات في الدستور الجامد هي أكثر جدية .

فالحكومة على الأقل من الناحية النظرية لا تستطيع أن تتلاعب بالدستور ، أو ان تبدل أحكامه بكل يسر وسهولة .

 

إلا إنه من الناحية العملية ، ومهما كان الدستور جامدا ً ، فإن الحكومة تستطيع ، وإن كان بإجراءات شاقة نسبيا ً ، ان تقترح تعديل الدستور . وكثيرا ما تنجح في إدخال تعديلات على بعض أحكامه .

 

ولعل هذا الواقع العملي ، وليس الرأي النظري ، ما دفع بالفكر السياسي الحديث إلى نقد آلية صناعة الدستور في حالتيه المرنة أو الجامدة . فالدساتير تتغير - عادة - بتغير أداة الحكم ، وهذا يدل على أن الدستور تعبير عن (( مزاج أدوات الحكم )) وقائم لمصلحتها ، وليس بقانون طبيعي )) .

 

ومع ذلك ، فإذا كان لا بد من الخيار ، فإن أسلوب الدستور الجامد يعتبر ولو شكليا ً - أفضل من اعتماد الدستور المرن ، لأن الدستور الجامد أكثر ضمانا ً لحقوق وحريات المواطنين ، فضلا عن ضمان استقرار المؤسسات .

 

وفي هذا السياق من التحليل فإن الدساتير الجامدة ليست من نمط واحد فهناك دساتير الجامدة التي تجيز التعديل ، ولكن بإجراءات وآليات مشروطة ، وهناك الدساتير الجامدة التي تحظر التعديل أصلا ، وهذا النوع الأخير من الدساتير ينقسم إلى نوعين رئيسيين هما :

 

أولا : دساتير تحظر التعديل من الناحية الموضوعية :

 

قد تتجه بعض الدساتير إلى حظر تعديل الدستور وأحكامه حظرا مطلقا ، وقد تحظر تعديل بعض نصوصه فقط . وعادة ما تكون الغاية من هذا المنع ، هو حماية الدستور ، أو بعض أحكامه ، بحيث يمتنع على أداة الحكم التنفيذية المساس بأحكامه مطلقا ً .

 

إن حظر تعديل الدستور - بشكل عام - مسألة نادرة في الدساتير الحديثة ، ولكن حظر تعديله جزئيا مسألة مألوفة . فكثيرا ما تذهب الدساتير إلى حظر تعديل بعض الأحكام الجوهرية في الدستور كتلك النصوص المتعلقة بشكل نظام الحكم .

 

إن طبيعة النظام السياسي ( الدستوري ) تظل من أهم الموضوعات التي يعتني بها القائمون على تجربة سياسية ما ، وبالتالي لا بد من تضمينها أحكام الدستور ، وإحاطة النصوص التي تنظم آلية عمل المؤسسات في النظام الدستوري بضمانات تمنع المساس به .

 

ولقد دلت التجربة الدستورية على اللجوء إلى هذا النمط في كثير من الدساتير ومثال ذلك ما نص عليه الدستور الفرنسي الصادر عام 1946 ، حيث حظر الدستور تعديل الشكل الجمهوري للحكم ، وكذا الدستور الإيطالي الصادر عام 1947 . وكثيرا ما تنزع نحو هذا الاسلوب معظم الدساتير الحديثة . ومن أمثلة ذلك ما نص عليه دستور جمهورية إيران الإسلامية في المادة الثانية عشر ، من أن ( الدين الرسمي لإيران هو الإسلام ، والمذهب الجعفري الأثني عشري ، وهذه المادة غير قابلة للتغيير للأبد ) .

 

ثانيا ً : دساتير تحظر التعديل زمنيا ً

 

قد ينص الدستور على حظر تعديل الدستور ، أو بعض أحكامه خلال فترة زمنية معينة حتى يكفل للدستور ( أو بعض أحكامه ) الثبات اللازم ، والتجربة الكافية .

 

ومن الدساتير التي أخذت بهذا النوع من الحظر ، دستور الاتحاد الأمريكي الذي منع تعديل بعض أحكامه الصادرة في الفترة ما قبل عام 1808 وكذلك دستور الجمهورية الرابعة الفرنسي الصادر عام 1946 الذي حظر تعديله ، طالما أن قوات أجنبية تحتل إقليم الجمهورية أو جزء منه . ومن الطبيعي أن دستورا ً من هذا النوع هو دستور جامد طيلة فترة الحظر المنصوص عليها ، إلا إن اللجوء إلى هذا الأسلوب صار نادرا ً في تجارب الدول المعاصرة ، وإن كان ليس هناك ما يمنع من الركون إليه .

 

ثالثا: شرعية حظر التعديل

 

لما كانت بعض الدساتير تلجأ إلى حظر تعديل الدستور كليا ً أو جزئيا ً ، هو ما استقر وصفه بالحظر الموضوعي ، أو أن تلجأ بعض الدساتير إلى حظر وتعديل الدستور لفترة زمنية محددة ، أو حظر تعديل بعض أحكامه . فإن الغاية منه المحافظة على استقرار النظام المستند إلى هذا الدستور . وفي الحظر الزمني - تحديدا فإن الحجة كانت دوما ً ، هي محاولة منح الدستور الفرصة الكافية لتجربته ، والحكم على مدى صلاحيته ، وحيث أن الدستور هو قيد على الحاكمين ، وتكبيل لسلطانهم ، فإن هناك خشية كبيرة من الفئة الحاكمة ضد تضيق مبكرا بقيود الدستور ، وتندفع نحو العمل على تغييرها دون أن تمنح الدستور فرصة التجربة والأختيار ، لمعرفة مزياه وعيوبه .

 

ولعل ذلك الأمر هو الذي دفع إلى ابتكار فكرة الحظر الزمني ، لسد أبواب ذرائع التغيير مقدما ً أمام فئة المحاكمين ، لكن فكرة الحظر بنوعيها ( الموضوعي ، والزمني ) تلقى معارضة عند بعض فقهاء الدستور .

 

ولما كان الدستور هو عمل تأسيسي يستند إلى السيادة الشعبية ، أفلا يصح القول بأن الحظر يصادر مقدما ً ، حق الشعب في التغيير ؟

 

وهل يجوز للشعب أن يقيد نفسه إلى هذه الدرجة ؟

 

وفي الحظر الزمني - بالذات - هل يجوز لجيل ما ، تمكمن تاريخيا ً من وضع الدستور ، أن يصادر حق غيره من الأجيال القادمة في إعادة النظر في هذا الدستور ، الذي أملته ظروف معينة وفق درجات التطور الحضاري الثقافي ؟

 

تلك إشكاليات فلسفية ، قانونية تطرح بكل حدة وإلحاح ، وتكاد تنعكس في العديد من المناقشات حول تحديد طبيعة الدساتير .

 

وقد تنبه إلى هذه الحقيقة مبكرا ً ، أحد الآباء المؤسسين للدستور الأمريكي ، وهو الرئيس ( توماس جيفرسون ) الذي اعتبر أن خلع القداسة على الدستور هو نوع من الجهل . ولقد جاء في إحدى رسائله : (( ينظر البعض إلى الدستور باحترام مقدس ، ويرون أنها مثل تابوت العهد ، أقدس من أن تمس وهم ينسبون إلى من عاشوا في العصور القديمة ، حكمة تجاوز نطاق الإنسانية ، ويفترضون أن ما حققه اسلافهم صحيح لا يقبل الإصلاح .

 

ومن البديهي - في المقام الأول - التذكير بأن القوانين والمبادئ العامة لا بد لها من أن تسير جنبا ً إلى جنب مع تقدم العقل البشري وتطوره .

 

وكلما تطور هذه العقل وزاد من التنوير والثقافة ، كان على المبادئ أن تتقدم أيضا ، وتساير الزمن في تطوره ، ومثلنا حين نطلب من رجل أن يظل يرتدي المعطف الذي كان يلبسه طفلا ً ، مثل من يطلب إلى مجتمع متحضر أن يتابع السير على نظام أسلافه الهمجيين )) .

 

إننا نعتقد ، بأن بعض أشكال حظر تعديل الدساتير قد تمليها اعتبارات موضوعية تتعلق بشعب معين . ومع ذلك ، فإن بعض أنماط الحظر تنطلق من معطيات سياسية ، أو عقائدية ، تجعل أصحاب تلك المكاسب يعتقدون بأن صيانة الدستور تأتي من جموده أو من حظر المساس به .

 

إن ذلك يعد اتجاها ً خاطئا ً ، فثبات الدستور - دوما ً - مرهون بتعلق الشعب بأحكامه ، ومدى الاجماع حوله . فإذا تعلق الشعب بالدستور ، وآمن بمبادئه ، ووجده معبرا ً عن إرادته وطموحاته ، فإن الدستور يستمر ويستقر .

 

أما إذا كان من صناعة أدوات الحكم ، وهو معبر عن مصلحة فئة ، أو طبقة ، أو حزب ، أو فرد ، فإن حركة الشعوب والجماهير ، لا بد وأن تجرف الدستور ونظامه الذي فرضه .

 

والواقع أن جمود الدستور ، او حظر المساس به ، لم تفد كثيرا ً في الحفاظ عليه . وهذا ما دللت عليه شواهد التاريخ ...

 

فالدستور يستمر بكل خصائصه ما استمر نظامه السياسي ، فإذا ما تبدل النظام السياسي ، فإن الدستور ، ينهار برمته .

 

رابعا : النتائج المترتبة على جمود الدستور

 

- إن الفقه الدستوري الحديث ، يشكك في قيمة الدستور المرن ، وباستثناء المراجع المنهجية ، والتحليلات الأكاديمية ، فإنه خارج أروقة الجامعات يندر أن يوجد دستور يتسم بالمرونة . فما يسمى بالدستور المرن - بمفهومه الأكاديمي - لا يتجاوز كونه أحد قوانين الدول التي يمكن تغييرها في أي وقت تشاء السلطة التنفيذية .

 

فالدستور (بالمعنى الحرفي ) ينصرف إلى الدستور الجامد . وإذا كانت مؤلفات القانون الدستوري تكثر من الإشارة إلى الدستور المرن . وستشهد بواقع الدستور البريطاني ( وهو من أندر الدساتير المرنة في الدول المعاصرة ) ، فمعظم الدساتير المعاصرة دساتير جامدة .. إذ إن أحدى أهم سمات الدستور الأساسية هي الصلابة والجمود .. ذلك أن تجربة المملكة المتحدة ، تعتبر حالة نادرة لا يجوز أن تصير قاعدة في فقه القانون الدستوري . ومنذ القدم اعتبر " توكفيل " الممكلة المتحدة دولة بدون دستور لأن دستورها ليس جامدا .

 

إن أهم نتيجتين لجمود الدستور ، إنما تترتبان على خصيصته الاساسية .. وهي ( سمو الدستور على القوانين العادية ) .

 

إن هاتين النتيجتين هما :

 

الدستور مصدر السلطات .

الرقابة الدستورية على القوانين .

 

إن هذه المسألة الأخيرة تكتسب أهمية قصوى في تحليلات القانون الدستوري ..

أما مسألة الدستور مصدر السلطات في الدولة .. فإن الأثر المترتب على ذلك هو وجوب احترامه .. والالتزام بأحكامه . والتقيد بمبادئه من قبل كافة السلطات .. ومؤسسات الدولة .

فالسلطة التشريعية ملزمة بالتقيد به في كافة ما تقرره من تشريعات .. والسلطة التنفيذية مدعوة للإلتزام بفلسفته ونصوصه في جميع ما تجريه من تصرفات ، وأعمال ، خاصة فيما يتعلق بمسألتي الشرعية ، والمشروعية .

 

أما السلطة القضائية فعليها يقع عبء احترام تطبيق أحكام الدستور ، ومراقبة دستورية القوانين لتضمن قدسية واحترام شكل وروح الدستور .

 

فالدولة - عموما - ملزمة بوجوب احترام الدستور ، والالتزام به ( في تشريعها - وفي قضائها ، وفيما تمارسه من سلطات إدارية .. ، ... إذ إن الدستور هو القانون الأعلى الذي يسمو على جميع القوانين ، والدولة ملزمة بالخضوع لمبدأ سيادة الدستور .

 

كما إن أهم نتائج مبدأ سمو الدستور هي مسألة عدم جواز تفويض السلطات .. فحيث أن كل سلطة في الدولة تستمد صلاحياتها من الدستور مباشرة ، فعليها أن تباشر هذه الصلاحيات دون تفويض ، إلا إذا قضى الدستور نفسه بجواز ذلك .

 

وفي جميع الأحوال ، فإن هذا التفويض يجب أن يكون على سبيل استثناء .. وفي الحدود ، وبالأوصاف ، وضمن الشروط التي يرسمها الدستور ، وينبني على ذلك بطلان أي تفويض لا يسمح به الدستور ، فالتفويض - في حقيقته - يعد تعديلا غير مباشر في نصوص الدستور والتعديل في الدساتير الجامدة لا يجوز ، إلا بالطرق التي رسمها الدستور وحددها .

Link to comment
Share on other sites

ثانيا ً : الدستور الجامد :

 

- يقصد بالدستور الجامد ، أو الدستور الصلب ، ذلك النوع من الدساتير الذي يتطلب إصداره أو تعديله إجراءات خاصة أشد من تلك الإجراءات المتبعة في إصدار أو تعديل القوانين العادية .

 

فإذا كانت القوانين العادية تصدر بعد موافقة الأغلبية العادية لأعضاء المجلس النيابي ، فإن الدستور الجامد يتطلب - عادة - إجراءات خاصة ، ينص عليها الدستور في متنه .

 

ولذا ، يشار في أحكام الدستور المكتوب إلى شروط وآلية ، وضمانات تعديل الدستور أو تغييره ، وكثيرا ما تكون مثل تلك النصوص واضحة ،صريحة غير قابلة للتفسير أو التأويل .

 

وليس هناك ، في عالم الدول المعاصرة ، معايير متفق عليها ما بين الدساتير جميعا ً تشير إلى جمود الدستور ، فتتبع الدول في دساتيرها اجراءات ومعايير شتى من شأنها أن تجعل الدستور جامدا ً .

 

فقد ينص الدستور على ضرورة توفر أغلبية موصوفة للموافقة على تعديل الدستور ، كأن ينص على ضرورة موافقة ثلثي أعضاء المجلس ، أو ثلاثة أرباعه .

 

وقد تشترط بعض الدساتير آلية محددة ومشروطة .. كأن ينص الدستور عل وجوب عرض التعديل على المجالس المحلية في الدول الاتحادية ، أو أن ينص على ضرورة عرضه على الاستفتاء الشعبي ، أو ينص على أن مشروع التعديل يجب أن يعرض من قبل رأس الدولة ، أو الحكومة ... ألخ .

 

إن المهم هنا ، هو أن جملة من الإجراءات ومن العايير ، لا بد من قيامها ، ولكنها مختلفة - عموما ً- عن تلك الاجراءات المطلوبة لتعديل القوانين العادية . فإذا وجد إجراء أو أكثر ، مما سبق أو أي اجراءات مشابهة أخرى ، فإن الدستور يكون جامدا يصعب تعديله .

 

وكمثال على جمود الدساتير ، يمكن الإشارة إلى التجربة في فرنسا . فإصدار قانون عادي ، أو تعديله لا يتطلب سوى موافقة الأغلبية العادية في كلا المجلسين بالجمعية الوطنية . أما تعديل الدستور ، فإنه يتم بإجراءات مختلفة . إذ يجب أن يقدم أولا ً .. كمشروع قانون يطرح على مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية للتصويت عليه ، فإذا حاز أغلبية المجلسين فإن على رئيس الجمهورية عرضه على الاستفتاء الشعبي العام ، أو عرضه على الجمعية الوطنية في صورة مؤتمر لإقراره ، وذلك بأغلبية منصوص عليها في المادة التاسعة والثمانين من الدستور . كما يجوز لرئيس الجمهورية ( ودون مرور بهذه الاجراءات ) أن يعرض أمر تعديل الدستور بمقتضى عرض مباشر على الشعب لتعديل الدستور ، بطريق الاستفتاء الشعبي وفقا ً للمادة الحادية عشرة من الدستور الفرنسي ( 1958 ) .

 

وهكذا يتضح الفرق بين القوانين العادية ، التي لا تتطلب سوى الموافقة العادية للجمعية الوطنية ، وبين الدستور الجامد الذي يتطلب اجراءات وضمانات خاصة ومحددة ، وثابتة .

 

وتتجه معظم الدول اليوم لجعل دساتيرها جامدة عسيرة التعديل ، إذ يرى العديد من الفقهاء أن جمود الدستور هو الذي يمنحه خصيصته الاساسية وهي ( سموه على التشريعات العادية ) وبالتالي ، فإن الضمانات في الدستور الجامد هي أكثر جدية .

فالحكومة على الأقل من الناحية النظرية لا تستطيع أن تتلاعب بالدستور ، أو ان تبدل أحكامه بكل يسر وسهولة .

 

إلا إنه من الناحية العملية ، ومهما كان الدستور جامدا ً ، فإن الحكومة تستطيع ، وإن كان بإجراءات شاقة نسبيا ً ، ان تقترح تعديل الدستور . وكثيرا ما تنجح في إدخال تعديلات على بعض أحكامه .

 

ولعل هذا الواقع العملي ، وليس الرأي النظري ، ما دفع بالفكر السياسي الحديث إلى نقد آلية صناعة الدستور في حالتيه المرنة أو الجامدة . فالدساتير تتغير - عادة - بتغير أداة الحكم ، وهذا يدل على أن الدستور تعبير عن (( مزاج أدوات الحكم )) وقائم لمصلحتها ، وليس بقانون طبيعي )) .

 

ومع ذلك ، فإذا كان لا بد من الخيار ، فإن أسلوب الدستور الجامد يعتبر ولو شكليا ً - أفضل من اعتماد الدستور المرن ، لأن الدستور الجامد أكثر ضمانا ً لحقوق وحريات المواطنين ، فضلا عن ضمان استقرار المؤسسات .

 

وفي هذا السياق من التحليل فإن الدساتير الجامدة ليست من نمط واحد فهناك دساتير الجامدة التي تجيز التعديل ، ولكن بإجراءات وآليات مشروطة ، وهناك الدساتير الجامدة التي تحظر التعديل أصلا ، وهذا النوع الأخير من الدساتير ينقسم إلى نوعين رئيسيين هما :

 

أولا : دساتير تحظر التعديل من الناحية الموضوعية :

 

قد تتجه بعض الدساتير إلى حظر تعديل الدستور وأحكامه حظرا مطلقا ، وقد تحظر تعديل بعض نصوصه فقط . وعادة ما تكون الغاية من هذا المنع ، هو حماية الدستور ، أو بعض أحكامه ، بحيث يمتنع على أداة الحكم التنفيذية المساس بأحكامه مطلقا ً .

 

إن حظر تعديل الدستور - بشكل عام - مسألة نادرة في الدساتير الحديثة ، ولكن حظر تعديله جزئيا مسألة مألوفة . فكثيرا ما تذهب الدساتير إلى حظر تعديل بعض الأحكام الجوهرية في الدستور كتلك النصوص المتعلقة بشكل نظام الحكم .

 

إن طبيعة النظام السياسي ( الدستوري ) تظل من أهم الموضوعات التي يعتني بها القائمون على تجربة سياسية ما ، وبالتالي لا بد من تضمينها أحكام الدستور ، وإحاطة النصوص التي تنظم آلية عمل المؤسسات في النظام الدستوري بضمانات تمنع المساس به .

 

ولقد دلت التجربة الدستورية على اللجوء إلى هذا النمط في كثير من الدساتير ومثال ذلك ما نص عليه الدستور الفرنسي الصادر عام 1946 ، حيث حظر الدستور تعديل الشكل الجمهوري للحكم ، وكذا الدستور الإيطالي الصادر عام 1947 . وكثيرا ما تنزع نحو هذا الاسلوب معظم الدساتير الحديثة . ومن أمثلة ذلك ما نص عليه دستور جمهورية إيران الإسلامية في المادة الثانية عشر ، من أن ( الدين الرسمي لإيران هو الإسلام ، والمذهب الجعفري الأثني عشري ، وهذه المادة غير قابلة للتغيير للأبد ) .

 

ثانيا ً : دساتير تحظر التعديل زمنيا ً

 

قد ينص الدستور على حظر تعديل الدستور ، أو بعض أحكامه خلال فترة زمنية معينة حتى يكفل للدستور ( أو بعض أحكامه ) الثبات اللازم ، والتجربة الكافية .

 

ومن الدساتير التي أخذت بهذا النوع من الحظر ، دستور الاتحاد الأمريكي الذي منع تعديل بعض أحكامه الصادرة في الفترة ما قبل عام 1808 وكذلك دستور الجمهورية الرابعة الفرنسي الصادر عام 1946 الذي حظر تعديله ، طالما أن قوات أجنبية تحتل إقليم الجمهورية أو جزء منه . ومن الطبيعي أن دستورا ً من هذا النوع هو دستور جامد طيلة فترة الحظر المنصوص عليها ، إلا إن اللجوء إلى هذا الأسلوب صار نادرا ً في تجارب الدول المعاصرة ، وإن كان ليس هناك ما يمنع من الركون إليه .

 

ثالثا: شرعية حظر التعديل

 

لما كانت بعض الدساتير تلجأ إلى حظر تعديل الدستور كليا ً أو جزئيا ً ، هو ما استقر وصفه بالحظر الموضوعي ، أو أن تلجأ بعض الدساتير إلى حظر وتعديل الدستور لفترة زمنية محددة ، أو حظر تعديل بعض أحكامه . فإن الغاية منه المحافظة على استقرار النظام المستند إلى هذا الدستور . وفي الحظر الزمني - تحديدا فإن الحجة كانت دوما ً ، هي محاولة منح الدستور الفرصة الكافية لتجربته ، والحكم على مدى صلاحيته ، وحيث أن الدستور هو قيد على الحاكمين ، وتكبيل لسلطانهم ، فإن هناك خشية كبيرة من الفئة الحاكمة ضد تضيق مبكرا بقيود الدستور ، وتندفع نحو العمل على تغييرها دون أن تمنح الدستور فرصة التجربة والأختيار ، لمعرفة مزياه وعيوبه .

 

ولعل ذلك الأمر هو الذي دفع إلى ابتكار فكرة الحظر الزمني ، لسد أبواب ذرائع التغيير مقدما ً أمام فئة المحاكمين ، لكن فكرة الحظر بنوعيها ( الموضوعي ، والزمني ) تلقى معارضة عند بعض فقهاء الدستور .

 

ولما كان الدستور هو عمل تأسيسي يستند إلى السيادة الشعبية ، أفلا يصح القول بأن الحظر يصادر مقدما ً ، حق الشعب في التغيير ؟

 

وهل يجوز للشعب أن يقيد نفسه إلى هذه الدرجة ؟

 

وفي الحظر الزمني - بالذات - هل يجوز لجيل ما ، تمكمن تاريخيا ً من وضع الدستور ، أن يصادر حق غيره من الأجيال القادمة في إعادة النظر في هذا الدستور ، الذي أملته ظروف معينة وفق درجات التطور الحضاري الثقافي ؟

 

تلك إشكاليات فلسفية ، قانونية تطرح بكل حدة وإلحاح ، وتكاد تنعكس في العديد من المناقشات حول تحديد طبيعة الدساتير .

 

وقد تنبه إلى هذه الحقيقة مبكرا ً ، أحد الآباء المؤسسين للدستور الأمريكي ، وهو الرئيس ( توماس جيفرسون ) الذي اعتبر أن خلع القداسة على الدستور هو نوع من الجهل . ولقد جاء في إحدى رسائله : (( ينظر البعض إلى الدستور باحترام مقدس ، ويرون أنها مثل تابوت العهد ، أقدس من أن تمس وهم ينسبون إلى من عاشوا في العصور القديمة ، حكمة تجاوز نطاق الإنسانية ، ويفترضون أن ما حققه اسلافهم صحيح لا يقبل الإصلاح .

 

ومن البديهي - في المقام الأول - التذكير بأن القوانين والمبادئ العامة لا بد لها من أن تسير جنبا ً إلى جنب مع تقدم العقل البشري وتطوره .

 

وكلما تطور هذه العقل وزاد من التنوير والثقافة ، كان على المبادئ أن تتقدم أيضا ، وتساير الزمن في تطوره ، ومثلنا حين نطلب من رجل أن يظل يرتدي المعطف الذي كان يلبسه طفلا ً ، مثل من يطلب إلى مجتمع متحضر أن يتابع السير على نظام أسلافه الهمجيين )) .

 

إننا نعتقد ، بأن بعض أشكال حظر تعديل الدساتير قد تمليها اعتبارات موضوعية تتعلق بشعب معين . ومع ذلك ، فإن بعض أنماط الحظر تنطلق من معطيات سياسية ، أو عقائدية ، تجعل أصحاب تلك المكاسب يعتقدون بأن صيانة الدستور تأتي من جموده أو من حظر المساس به .

 

إن ذلك يعد اتجاها ً خاطئا ً ، فثبات الدستور - دوما ً - مرهون بتعلق الشعب بأحكامه ، ومدى الاجماع حوله . فإذا تعلق الشعب بالدستور ، وآمن بمبادئه ، ووجده معبرا ً عن إرادته وطموحاته ، فإن الدستور يستمر ويستقر .

 

أما إذا كان من صناعة أدوات الحكم ، وهو معبر عن مصلحة فئة ، أو طبقة ، أو حزب ، أو فرد ، فإن حركة الشعوب والجماهير ، لا بد وأن تجرف الدستور ونظامه الذي فرضه .

 

والواقع أن جمود الدستور ، او حظر المساس به ، لم تفد كثيرا ً في الحفاظ عليه . وهذا ما دللت عليه شواهد التاريخ ...

 

فالدستور يستمر بكل خصائصه ما استمر نظامه السياسي ، فإذا ما تبدل النظام السياسي ، فإن الدستور ، ينهار برمته .

 

رابعا : النتائج المترتبة على جمود الدستور

 

- إن الفقه الدستوري الحديث ، يشكك في قيمة الدستور المرن ، وباستثناء المراجع المنهجية ، والتحليلات الأكاديمية ، فإنه خارج أروقة الجامعات يندر أن يوجد دستور يتسم بالمرونة . فما يسمى بالدستور المرن - بمفهومه الأكاديمي - لا يتجاوز كونه أحد قوانين الدول التي يمكن تغييرها في أي وقت تشاء السلطة التنفيذية .

 

فالدستور (بالمعنى الحرفي ) ينصرف إلى الدستور الجامد . وإذا كانت مؤلفات القانون الدستوري تكثر من الإشارة إلى الدستور المرن . وستشهد بواقع الدستور البريطاني ( وهو من أندر الدساتير المرنة في الدول المعاصرة ) ، فمعظم الدساتير المعاصرة دساتير جامدة .. إذ إن أحدى أهم سمات الدستور الأساسية هي الصلابة والجمود .. ذلك أن تجربة المملكة المتحدة ، تعتبر حالة نادرة لا يجوز أن تصير قاعدة في فقه القانون الدستوري . ومنذ القدم اعتبر " توكفيل " الممكلة المتحدة دولة بدون دستور لأن دستورها ليس جامدا .

 

إن أهم نتيجتين لجمود الدستور ، إنما تترتبان على خصيصته الاساسية .. وهي ( سمو الدستور على القوانين العادية ) .

 

إن هاتين النتيجتين هما :

 

الدستور مصدر السلطات .

الرقابة الدستورية على القوانين .

 

إن هذه المسألة الأخيرة تكتسب أهمية قصوى في تحليلات القانون الدستوري ..

أما مسألة الدستور مصدر السلطات في الدولة .. فإن الأثر المترتب على ذلك هو وجوب احترامه .. والالتزام بأحكامه . والتقيد بمبادئه من قبل كافة السلطات .. ومؤسسات الدولة .

فالسلطة التشريعية ملزمة بالتقيد به في كافة ما تقرره من تشريعات .. والسلطة التنفيذية مدعوة للإلتزام بفلسفته ونصوصه في جميع ما تجريه من تصرفات ، وأعمال ، خاصة فيما يتعلق بمسألتي الشرعية ، والمشروعية .

 

أما السلطة القضائية فعليها يقع عبء احترام تطبيق أحكام الدستور ، ومراقبة دستورية القوانين لتضمن قدسية واحترام شكل وروح الدستور .

 

فالدولة - عموما - ملزمة بوجوب احترام الدستور ، والالتزام به ( في تشريعها - وفي قضائها ، وفيما تمارسه من سلطات إدارية .. ، ... إذ إن الدستور هو القانون الأعلى الذي يسمو على جميع القوانين ، والدولة ملزمة بالخضوع لمبدأ سيادة الدستور .

 

كما إن أهم نتائج مبدأ سمو الدستور هي مسألة عدم جواز تفويض السلطات .. فحيث أن كل سلطة في الدولة تستمد صلاحياتها من الدستور مباشرة ، فعليها أن تباشر هذه الصلاحيات دون تفويض ، إلا إذا قضى الدستور نفسه بجواز ذلك .

 

وفي جميع الأحوال ، فإن هذا التفويض يجب أن يكون على سبيل استثناء .. وفي الحدود ، وبالأوصاف ، وضمن الشروط التي يرسمها الدستور ، وينبني على ذلك بطلان أي تفويض لا يسمح به الدستور ، فالتفويض - في حقيقته - يعد تعديلا غير مباشر في نصوص الدستور والتعديل في الدساتير الجامدة لا يجوز ، إلا بالطرق التي رسمها الدستور وحددها .

Link to comment
Share on other sites

قد أسمعت لو ناديت حيا ********** لكن لا حياة لمن تنادي

 

المشكلة أن البحرين تعج بفئات همها علافها ولا يهمها علف غيرها على فرض أن هذا هو المطلب :blink:

 

مشكور أخ محبوب على الموضوع الذي يستحق فعلا التثبيت فكم من جاهل بهذة الأمور يخوض بكل صلافة وجهه في عالم السياسة , منطلقا من تربيتة أو أحقادة الخاصة أو العامة ليضرب بكل الأعراف و الأصول في نقاشة و في الوصول لمستوى المواطنة الحقة .

Edited by Farisq
Link to comment
Share on other sites

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

Guest
الرد على هذا الموضوع...

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

Loading...
×
×
  • Create New...